وقفتُ طويلاً بين يدَي آيات فرْض الصوم مِن سورة البَقرة، واستعدتُ في ذِهني كل ما سمعتُ وما قرأتُ عن الصوم، ووجدتُ في نفسي شوقًا ونهمًا إلى أنْ أسمع مزيدًا عن الصوم، ولا شكَّ في أنَّ هذا أحد الأدلة التي لا تُحصى على إعجاز القرآن، وعلى أنَّه سيظلُّ دائمًا وأبدًا غضًّا نديًّا إلى أن تقومَ الساعة، ولستُ أريد أن أعْرِض هنا لما جاءتْ به الآيات مِن بيان حِكمة الصَّوْم، وإيضاح ما يقود إليه مِن تقوى الله، والتدريب على الصَّبْر، والإحساس بالمراقبة، والحض على البِر، ولكنِّي أُريد أن أعرِض لبعض الخواطر التي تسْنَح لي بحلولِ رمضان، لنذكر مِن خلالها الفضلَ العظيم، والمنَّة الكُبرى، والرحمة الحانية التي تَفضَّل الله بها على عبادِه خلالَ هذا الشهر الكريم.
ذكرى نزول القرآن:
يقول الله تعالى: ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ﴾ [البقرة: 185].
فأخبر الله - سبحانه وتعالى - أنَّ شهر رمضان هو تلك الفترة الزمنيَّة التي بدأ فيها نزولُ القرآن لهداية البشريَّة، وذكر أنَّ مَن يشهد هذا الشهر مِن المؤمنين يجِب عليه صومُه، وبهذا يرتبط هذا الشهرُ في حياة المسلمين بذِكرى نزول القرآن، وإنَّ لكل أمَّة ذِكرياتٍ تعتزُّ بها، وتحتفل بها كلَّ عام، والله - جلَّ ذِكرُه - يجعل على رأس ذِكريات الأمَّة الإسلاميَّة ذِكرى نزول القرآن؛ ولذلك فهو يشرع لها صوم الشهر الذي بدأ نزول القرآن في ليلةٍ مِن لياليه؛ ليكون الاحتفال بهذه الذِّكْرى العظيمة احتفالاً عمليًّا يليق بجلالِ الذِّكْرى، يتعبَّد اللهُ فيه المؤمنين بعبادةٍ مِن أجلِّ العبادات تسْمو بأرواحهم، وتطهِّر نفوسَهم، وتجعلهم أهلاً لأن يفقهوا دِين الله، وأن يحتفِلوا بالقرآن الحفاوةَ التي تليق بمقامِه، وأنَّ هذه الحفاوة ليستْ لليلةٍ واحدة، وإنَّما تمتدُّ على مدار شهر كامِل يصوم فيه المسلِم نهارَه، ويقوم ليلَه إيمانًا واحتسابًا لله ربِّ العالمين؛ امتثالاً لأمره، وعبوديةً خالصة له، وإعلانًا عن حمْده وشُكره بأنْ مَنَّ على العالمين بالهداية في هذا الشهر بإنزال القرآن في ليلةٍ مِن لياليه، واختيار محمَّد بن عبدالله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ليكون مبلغًا لوحيه، وخاتمًا لأنبيائه ورُسله.
وذِكرى نُزول الوحْي بالقُرآن يجب ألا تمرَّ في حياة المسلمين مرورًا عابرًا، يقفون عندَها بعض الوقت، ويتلون فيها قصَّةَ الوحي، وما كان مِن شأن نزول الآيات القرآنيَّة على رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - وشأن لِقاء جبريل - عليه السلام - به، وإنَّما هي ذِكرى يجب أن تُعيد إلى قلوبِ المسلمين الصورةَ القويَّة الواضِحة للإيمان بالله الواحِد الأحد، تلك الصُّورة المشرِقة التي تمثَّلت في حياة المسلمين الأوَّلين، والتي تحوّل الإيمان القوي بها مِن حياةٍ فارغة عابِثة لاهية، لا تكاد تجعَل للعَرَب في جزيرتهم شأنًا يُذكَر، أو خطرًا يتهيَّبه أعداؤهم، إلى حياةٍ عالية منتجِة جادَّة، علاَ فيها ذِكرهم، وأصبح لهم كيانٌ دولي يُخشَى خطرُه، بعد أنْ سما بهم الإيمان فوحَّدهم بعدَ الفرقة والتمزُّق، وجمع شملَهم تحت راية التوحيد، فظهرتْ ملكاتهم التي غمرَها الشِّرك قرونًا من الزمان، وفي قليلٍ مِن الزمان - وبفضْل من الله - يعمُّ النور الحق الأرض بأيديهم وهم ينطلقون في رُبوعها ينشرون الحقَّ والعدل، ويدْعون إلى الله.
دعاء الصائم مُستجاب:
بعد أن تَمضي بنا آياتُ فرْض الصوم مِن سورة البقرة موضِّحة أنَّ الله فرَض الصوم على الأمَّة الإسلاميَّة كما فرَضه على الأمم السابقة، وأنَّ هذا الصوم في أيَّام قليلة معدودة، وأنَّه سبحانه يَتَفَضَّل بالترخيص للمسافِر والمريض والضعيف بالإفطار، ثم يَقضي في أيام أخرى، ثم يتحدَّد زمَن الصوم تحديدًا واضحًا، فتذكر الآيات أنَّ هذا الزمن هو شهْر رمضان مِن كل عام، ثم تتجلَّى رحمة الله بتَكْرار ذِكر الرخصة للمسافِر والمريض تأكيدًا لتلك الرُّخصة، وإعلانًا بأنَّ اللَّه سبحانه رحيمٌ بعباده، لا يُريد بهم العنَتَ والمشقَّة والتعذيب، وإنَّما يُريد الخير واليسر والرحمة، ثم ينقطع سياقُ الحديث عن الصوم رغمَ أنَّ له بقيةً؛ ليقول الله تعالى: ﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ﴾ [البقرة: 186].
وفي هذه الآية التفاتٌ عن مخاطبة المؤمنين بأحكام الصِّيام إلى خِطاب الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - لنعلم الأمَّة ما يَنبغي أن تراعيَه في هذه العِبادة من الطاعة والإخلاص والتوجُّه إلى الله وحْده بالدُّعاء؛ لأنَّه سبحانه وحده الجديرُ بالإجابة، وتضَع الآية شروطًا ثلاثةً لإجابة الله دُعاءَ مَن يدعوه؛ أولها: أن يُعلن صاحب الحاجة عن حاجتِه بالتوجه إلى الله وحْدَه بالضراعة والدعاء، وهذا التوجُّه في حدِّ ذاته بالفزَع إلى الله وحْده، إنَّما هو براءةٌ معلَنة مِن قوَّة كلِّ قوي، ومن حوْل كلِّ ذي جاه أو سُلطان إلى حول الله وقوَّته، أو بعبارة أخرى: فإنَّ هذا التوجه لله وحده إنَّما هو قمَّة التوحيد أو قِمَّة العبادة كما يقول الرسولُ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((الدُّعاءُ هو العِبادة))، وهذا الشرط هو ما يُعبِّر عنه القرآن بكلمتي: ﴿ إِذَا دَعانِ ﴾، ثم يأتي بعدَ ذلك الشرْط الثاني: ﴿ فَلْيَسْتَجِيبوا لي ﴾، وهو توجيهٌ إلى أنَّ الدعاء لا يُقبل حتى لو توجَّه به صاحبُه إلى الله ما لم يكُن مستجيبًا لله منفذًا لأوامره، مجتنبًا لنواهيه، ملتزمًا بشرعه وسُنَّة نبيِّه، والاستجابة هنا سلوكٌ ظاهري يُترجِم عن التزام العبد بتنفيذ أوامر الله، وأداء ما افترَضه عليه مِن عبادات، وربَّما أدَّى الإنسان كلَّ ذلك، ولكنَّه لم يكُن مخلصًا في أدائه، بمعنى أنَّه كان يؤدِّيها ليقال بيْن الناس: إنَّه طائع وأنه تقِي؛ ولهذا يأتي الشرْط الثالث لينقي العملَ مِن كل رِياء وغِش ونفاق، في قوله تعالى: ﴿ وَلْيُؤمِنُوا بي ﴾؛ أي: وليثقوا كلَّ الثقة في وُعودي، ولتكُن عبادتهم خالصةً لي حتى يكونوا جديرين إذا ما فزِعوا إليَّ بإجابة دُعائهم، وبهذا المعنى نصِل إلى أنَّ الصائم الذي يصوم إيمانًا واحتسابًا لله ربِّ العالمين، ممتثلاً لأوامره، تتحقَّق فيه الشروطُ الثلاثة فهو بهذه المثابة مستجابُ الدعاء.
واجب المسلمين في رمضان:
بعدَ هذين المعنيين اللَّذين أشرتُ إليهما يَنبغي ألا يتَّخذ الصائم من صيامه فرصةً للإهمال والتراخِي، ومبررًا للنِّزاع والاحتكاك، فإنَّ مِن شأن ذلك وجودَ الفرقة والبُغض والكراهية بيْن صفوف المسلمين.
وواجبنا إذًا في شهر رمضان أن يتذكَّر كلُّ واحد مِن أفراد الأمَّة الإسلاميَّة أنَّه عضو فيها، وأنَّ شعار الإسلام هو أن يكون مؤديًا لفرائض دِينه، وفي مقدِّمة هذه الفرائض الصوم، وليراجع كلُّ واحد منَّا في يومه هذا ما يتردَّد في نفسه من عوامِل الإقدام على الصوم وعوامِل الإحجام عنه، وسيعلم بعدَ هذه المراجعة أنَّ عوامل الإحجام عنِ الصوم ترجِع إلى ضَعْف العزيمة، وسيطرة إغراء الشهوة على النفْس، وليس بإنسانٍ ناجِح في الحياة مَن تضعُف عزيمته أمامَ الإمساك عن بعض ما يشتهي فترةً من الوقت، وليستْ هذه بأمَّة تقِف في وجه الشدائد والأزمات تلك التي يضعُف أفرادها أمامَ ما يُغري النفس مِن مأكل أو مشرَب بياضَ نهاره.