أهلاً وسهلاً ومرحبًا بالشهر العظيم!
أشهد أنك شهر الجهاد والفتح، ابتداءً من غزوة بدر، وفتح مكة، وعين جالوت، حتَّى حرب رمضان 1973م التي عَبر فيها الجيش المصري خط بارليف، واستعادت فيها سوريا مدينة القنيطرة المحرَّرة، فكانت هذه الحرب تحقيقًا للذَّات وخزيًا للمحتل، ولعل بركات النصر فيها كانت بسبب رمضان؛ حيث كانت الأُمَّة كلها صائمة، تدعو لجنودها بالنصر والتحرير.
وأشهد أنك شهر التربية، تعلِّمنا تحقيق الذات من خلال التمَرُّد على شهوات النفس كلِّها، فكلنا في الصوم أحرار، نُدْرك معنى المعاناة البشرية بصورة واحدة، ويَفهم كلٌّ منا الآخر وهمومه وآلامه، فيحاول أن يواسيه، وأن يضمد جراحه بما يستطيعه من مال أو من كلمة طيِّبة.
وأشهد أنك شهر العبودية؛ تزدحم فيه أماكن العبادة، وعلى رأسها المساجد الثلاثة التي تشدُّ الرِّحال، إلى اثنين منها، والآخَر أسير ينتظر فرج الله وهمَّة المسلمين، وينتظر هبَّة صلاح الدِّين من جديد! فالأمة التي أنجبت صلاح الدين وعمر المختار وعِزَّ الدين القسام هي أمَّة ودود ولود، لن تبخل في إنجاب الأبطال الذين سيُنقذون كرامتها التي تمرَّغت في الوحل، ويجعلونها من جديد فوق الشمس.
وأشهد أنك شهر الكرم؛ يتبادل الأقرباء والجيران والناس جميعًا فيه الهدايا والأطعمة، ويختمونه بصدَقة الفِطْر على الفقراء والمحتاجين، فيتَساوى الجميع بنشْوة الفرح التي تغمرهم يوم العيد.
وأشهد أنك شهر التجارة الرابحة، والتجارة هنا ثلاثة أنواع:
الأول: تجارة مع الله بتلاوة كتابه، والاجتهاد في العبادة، وهذه تجارة مباركة لن تبور، زكَّاها الله - تعالى - ورسوله - صلَّى الله عليه وسلَّم.
الثاني: تجارة مباحة من بيع وشراء، وربما عَمِل بعضهم تخفيضات في الشهر الكريم من أجْل تشجيع الناس على الشراء، وهذا أمر لا بأس به، فيه فائدة للبائع والمشتري شريطة أن تكون التخفيضات حقيقية لا حبرًا على ورق.
الثالث: تجارة تنافُسيَّة، يستغل أصحابها الموسم فيما هو مشروع، أو ما سوى ذلك، وأخُصُّ منهم فريقين:
الفريق الأول: أصحاب الإعلام بعامَّة، وهؤلاء يبثُّون لنا المسلسلات التي أعَدُّوها طوال العام على خاطر رمضان، وهذه المسلسلات منها النافع الذي لا يخلو من عيوب، وأهمُّها المسلسلات التاريخية، وأصحاب الجيِّد منها يستحقون الثناء والتشجيع والتسديد، ومنها ما هو غُثاء كغثاء السيل، وهي الأكثر رقعة، وهي مما يفسد الذَّوْق والدِّين والخُلُق والحياء والفنَّ معًا، أساليب عامية هابطة، ومعالجة قضايا ثانوية ومنحرفة، وتعرٍّ فاضح في بعضها، ومع هذا يَظن هذا الفريق النفعي التجاري الذي يلهث وراء المال والشهرة أنه قدَّم خدمة للناس في رمضان؛ فهو يسلِّيهم كما يزعم، وكأن الصائم بحاجة إلى اللَّهْو والتسلية من عِبْء الصيام، ونسي هؤلاء أنَّ كثرة النوم في الصيام مكروهة لدَى السلف، فالشعور بالصوم والحرمان هو اللَّذَّة التي لا تساويها لذة، وصدق من قال: عذابي فيك عَذْب!
وأمَّا الفريق الثاني: فهم أصحاب الإعلام الهادف، أو لنقُل: وُعَّاظ الفضائيات، وهؤلاء منهم من يقدِّم الرائع والمفيد؛ يَبتغون نُصْحَ الأمة وهدايتها، فشَكَر الله لهم وأثابهم خيرًا، ومنهم من تطفَّل على رمضان والدِّين في آنٍ واحد، فقد انخرط في هؤلاء مَن ليس منهم؛ إذْ يبدو أنَّ مهنة الدِّين صارت تَرُوق لبعضهم أكثر من مهنة الطِّب والفيزياء والفلَك والعلوم البحتة التي تخصَّصوا فيها، وقديمًا في عصر الازدهار الحضاري كان علماء الدين يشتغلون بالطب وغيره من العلوم، فانعكست الآية في هذا الزمان.
على أية حال.. أهلاً وسهلاً بمن يريد أن يتصدَّر للوعْظ والتربية، والكلمة الطيِّبة، حتى ولو لم يمر بمعهد ديني أو جامعة إسلامية، ولكن ينبغي أن يبلِّغ عن الله ما يريده الله، لا ما يريده الجمهور، أو وسائل الإعلام! فنحن في حقل الدعوة ولسنا في ملعب!
والإسلام دِين متكامل لكافَّة أُطُر الحياة، وبعض هؤلاء حصروه في الأخلاقيات الإيجابية والعبادات الفردية، فيتكلمون عن الإخلاص والورع، والرِّضا والصبر، وينسون أن الدين كلٌّ متكامل، فالأمر بالمعروف يجب أن يقترن بالنهي عن المنكر، والأمر بالعفة ينبغي أن يقترن بالدعوة إلى تخفيف المهور وأعباء الزواج والحدِّ من أسباب انتشار الفاحشة، والله لم يخاطب المؤمنين إلا بعبارة: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ﴾ [البقرة: 104]، فهم فريق متكامل وأمَّة واحدة، فلا ينبغي للمبلِّغ عن الله أن يبلِّغ بعض الأمور التي لا تكلِّفه شيئًا، ويَسكت عن ما سوى ذلك؛ اتِّقاء لما قد يصيبه في سبيل الله، فهذه الانتقائية في بعض البرامج الدِّينية أظهرت الإسلام بصورة مشوَّهة، وهي ليست الصُّورة الحقيقية الجميلة الأخَّاذة.
سيقول هؤلاء: هذه حدودنا، ولا نستطيع تجاوُزَها، وهنا يُقال لواحدهم: إذا لم تستطع أن تكون مبلِّغًا حقيقيًّا للإسلام الشامل الجميل فـ(كن حِلْسَ بيتك)، ولا تُزَوِّر على الناس دينهم، تقدِّم لهم شيئًا وتخفي عنهم أشياء، فمن مقتضيات ديننا العدل والرحمة، والتكافل الاجتماعي، ورعاية حقوق الإنسان، ونَبْذ الظلم... وهذه قضايا مهْمَلة مع أنَّها عماد الحضارات وحياة الأمم، ولم يتطوَّر الآخرون إلا بها، ولم يتخلَّف من تخلَّفَ من الأمم والشعوب إلا بسبب تعطيلها أو تحجيمها إلى أدنى حد!
كما يُؤخَذ على هؤلاء اهتمامُهم بالمظاهر الجوفاء التي لا يَعبأ بها الدِّين، فتجد واحدهم يتحدَّث وكأنه في ليلة عرس! أناقة فوق العادة، وربَّما تكلم من فوق قارب تتلاعب به الأمواج، وهو تقليد أعمى لأصحاب أغاني (الفيديو كليب)، ووعظ أرستقراطي لا يليق بمن يحمل هُدَى الله، ولو أنَّ الحسن البصري وابن حنبل وابن تيميَّة كانوا يَعِظون الناس من فوق دجلة والفرات، ومن حولهم الحدائق الغنَّاء، لتحوَّلَت بيوت الله إلى خراب! ولما أصابهم في سبيل الله ما أصاب! أحْيُوا الوعظ في المساجد، وأحيوا المساجد بالوعظ، ولا تهجروها لتذهبوا إلى أحضان الطبيعة أو الأسواق كي تَعِظوا بها، فإنَّ الله أذن أن يُذكَر اسمه في بيوته، وهي أحبُّ البقاع إليه، فلا تميتوها هداكم الله وتذهبوا إلى الأسواق وهي أبغض البقاع إلى الله، أو إلى أحضان الطبيعة؛ فنحن في دعوة لها متطلباتها وثقلها، ولسنا في (فيلم رومانسي)!
أخيرًا تواضَعُوا في أجوركم؛ فهو أدْنى للإخلاص، فبعضكم يُقال: إنَّه يتقاضى أجورًا خيالية، تتناسب مع العمل الدنيوي، ولكن عمل الآخرة أعظم من عمل الدنيا، فلا تجعلوا آيات الله وسيلة للجاه والمنصب، وهو أمر طالما حذَّر منه السَّلَف، فما أسوأ الوعظ إذا كان ربحًا مادِّيًّا وتجارة دنيوية!
اللهم اجعلنا ممن يَطلب ما عندك في رمضان، ولا تجعلنا ممن يطلب ما في أيدي الناس في رمضان، وأنت على كل حالة المستعان.
اللهم تقبَّلْ من الجميع أعمالهم، وسدِّد المقصِّر منا، أو مَن طلب بِدِينه الدنيا، اللهم زيِّن الآخرة في عيوننا حتَّى لا نعمل إلا مِن أجلها، وأصلحنا وُعَّاظًا وموعوظين، علماء ومتعلِّمين يا رب العالمين!
وكل عام وأنتم بخير يا أبناء الأمَّة الإسلامية جمعاء.