آيات الصيام: حكم وأسرار
جمع وإعداد: حسام العيسوى إبراهيم
الحمدُ لله، والصلاة والسلام على رسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -
أمَّا بعد:
فإنَّ الإسلامَ لم يشرعْ شيئًا إلا لحِكمة، عَلِمها مَن عَلِمها، وجَهِلها مَن جَهِلها، وكما لا تخلو أفعالُ الله تعالى من حِكمة فيما خَلَق، لا تخلو أحكامه سبحانه من حِكمة فيما شرَع، فهو حكيمٌ في خلْقه، حكيم في أمْره، لا يخلق شيئًا باطلاً، ولا يشرع شيئًا عبثًا.
وهذا يَنطبِق على العبادات، وعلى المعاملات جميعًا، كما يَنطبِق على الواجباتِ والمحرَّمات أيضًا.
إنَّ الله تعالى غنيٌّ عن العالمين، وعباده جميعًا هم الفُقراء إليه، فهو سبحانه لا تنفعه طاعَة، كما لا تضرُّه معصية، فالحِكمةُ في الطاعة عائدةٌ إلى مصلحة المكلَّفين أنفسِهم.
وفى الصِّيام حِكمٌ ومصالحُ كثيرة، أشارتْ إليها نصوص الشرع ذاتها، منها:
1- قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 183].
فهذه الآيةُ المبارَكة تبيِّن لنا بعضَ حِكم وأسرار هذه الفريضة:
♦ النِّداء بهذه الصفِّة المحبَّبة إلى النفس: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ﴾، وكأنَّ الله - عزَّ وجلَّ - يقول لنا: إنَّ الصوم من علاماتِ الإيمان، وإنَّ مَن صام فقدِ استكمل علاماتِ الإيمان، وفي هذا جاء حديث النبيِّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - الذي رواه أبو هريرة - رضي الله عنه - عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((مَن صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفِر له ما تقدَّم مِن ذنبه))؛ متفق عليه.
♦ التعبير بلفظ ﴿ كُتِبَ ﴾:
والملاحِظ لهذا اللفظ يجد أنَّ الله - سبحانه وتعالى - ذكَره قبل الحديث عن الصَّوْم بآيات قليلة في قوله - تعالى -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى ﴾ [البقرة: 178]، وذكَره - سبحانه وتعالى - بعدَ الحديث عن الصوم بآيات معدودة؛ فقال تعالى: ﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ ﴾ [البقرة: 216]، وهذا يدلُّ دلالةً أكيدة على أنَّ الإسلام كلٌّ متكامل، ونظامٌ شامِل، يشمل مظاهرَ الحياة جميعًا.
غاية الصَّوْم وأسْمى مقاصدِه "التقوى".
يقول ابن القيِّم: "وللصومِ تأثيرٌ عجيبٌ في حِفْظ الجوارح الظاهرة، والقُوَى الباطنة، وحميتها عن التخليطِ الجالِب لها الموادَّ الفاسدة، التي إذا استولتْ عليها أفسدتْها، واستفراغ الموادِّ الرديئة المانِعة لها من صحَّتها، فالصومُ يحفظ على القلْب والجوارح صِحَّتَها، ويُعيد إليها ما استلبتْه منها أيدي الشهوات، فهو مِن أكبر العَوْن على التَّقْوى؛ كما قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 183]".
يقول صاحب "الظلال": "وهكذا تبرزُ الغاية الكبيرة من الصوم، إنَّها التقوى، فالتقوى هي التي تستيقظُ في القلوب وهي تؤدِّي هذه الفريضة، طاعةً لله، وإيثارًا لرضاه، والتقوى هي التي تحرس هذه القلوبَ من إفساد الصَّوْم بالمعصية، ولو تلك التي تهجس في البال، والمخاطَبون بهذا القرآن يَعلمون مقامَ التقوى عندَ الله، ووزنها في ميزانه، فهي غايةٌ تتطلع إليها أرواحُهم، وهذا الصوم أداةٌ من أدواتها، وطريقٌ موصل إليها، ومِن ثَمَّ يرفعها السِّياق أمامَ عيونهم هدفًا وضيئًا يتَّجهون إليه عن طريقِ الصيام؛ ﴿ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾".
2- قال تعالى: ﴿ أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [البقرة: 184 - 185].
♦ الصَّوْم الإسلامي أفْضَل أنواع الصِّيام: فهو أيامٌ معدودات، يصوم فيها المسلِم عنِ الطعام والشراب والجِماع، مِن طلوع الفجْر إلى غروب الشمس، وبهذا يَتميَّز الصَّوم الإسلامي عن صومِ أصحابِ الأديان، فبعض أصحابِ الأديان يصومون عن كلِّ ذي رُوح فقط، ويأكلون ما لَذَّ وطاب مِن ألوان الطعام والشراب، كما لا يصومون عن شَهْوةِ الفَرْج، وبعضهم يصوم صيامًا يمتدُّ أيامًا، فيجهد البدَن، ويشقُّ على النفس، ولا يقدر عليه إلا الخاصَّة، أمَّا الصيام الواجب في الإسلام فهو لكلِّ المسلمين المكلَّفين، خاصَّتهم وعامَّتهم.
يُسْر ورحمة الإسلام:
ويَظهر ذلك في تخفيفِ الله على عباده غير القادرين على أداءِ هذه الفريضة، وإعطائهم فرصةً أخرى للقضاء، فإنْ لم يستطيعوا القضاء، فالفِدية تكون عِوضًا لهم عن فِطْرهم، ولذلك حثَّ النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - على الأَخْذ بهذه الرُّخَص، بل إنَّه توعَّد في بعض أحاديثه مَن لم يأخذْ بها؛ فعن جابر - رضي الله عنه - قال: خرَج رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - عامَ الفتْح إلى مكة في رمضان، فصامَ حتَّى بلغ "كراع الغميم"، فصام الناس، ثم دعَا بقدح مِن ماء، فرَفَعه حتى نظَر الناس، ثم شَرِب، فقيل له بعد ذلك: إنَّ بعض الناس قد صام، فقال: ((أُولئك العُصاة، أولئك العُصاة))؛ أخرجه مسلم والترمذي.
وعن أنس - رضي الله عنه - قال: كنَّا مع النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - في سَفَر، فمِنَّا الصائم ومنَّا المُفطِر، فنزلنا منزلاً في يوم حارّ، أكثرُنا ظلاًّ صاحِبُ الكساء، ومنَّا من يتَّقى الشمس بيده، فسقط الصُّوَّام، وقام المفطِرون، فضربوا الأبنية، وسَقَوا الرِّكاب، فقال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ذهَب المفطِرون اليومَ بالأَجْر))؛ أخرَجه الشيخان والنسائي.
القرآن والصيام قُرَناء:
قرَن الله - تبارك وتعالى - في هذه الآية بيْن الصيام المفروض في رمضانَ، وبيْن القرآن؛ وذلك لأنَّ القرآن نزَل في هذا الشهر المبارك، وكان النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - يتدارسُ مع جبريلَ القرآن في هذا الشَّهْر، فالله - عزَّ وجلَّ - يَبْعَث لكلِّ مسلمٍ رسالةً أنَّ القرآن دواءٌ لكلِّ إنسان مِن أمراضه وعِلَله، فما على هذا الإنسانِ إلاَّ أن يُحدِّد موضع الداء، والقرآن دواء ناجِع وفعَّال مِن هذا المرَض؛ لأنَّه كلامُ الله - عزَّ وجلَّ - ولذلك عبَّر الله - عزَّ وجلَّ - أنَّ في هذا القرآن هُدًى للناس، فالهِداية عامَّة لكلِّ الناس؛ المسلِم وغير المسلِم، المسلِم الطائع والعاصي، طالما أنَّهم نَظَروا إليه بعُقولهم وأفئدتهم، وتنحَّوْا عن أهوائِهم وشهواتهم، فالقرآنُ الكريم في المقام الأوَّل كتابُ هِداية لكلِّ البشَر.
- شُكْر نِعمة الله - عزَّ وجلَّ:
﴿ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾، فعندَما يصوم المسلِم يشعرُ بنعمة الله عليه، فإنَّ إِلْف النعم يُفقد الإنسانَ الإحساسَ بقيمتها، ولا يعرف مقدارَ النِّعمة إلا عندَ فقدها، وبضدِّها تتميَّز الأشياء، فإنَّما يحس المرء بنِعمة الشِّبع والرِّي إذا جاع أو عطِش، فإذا شبِع بعدَ جوع، أو ارْتوى بعدَ عطَش، قال مِن أعماقه: الحمدُ لله، ودفَعه ذلك إلى شُكْر نِعمة الله عليه، وهذا ما أشار إليه النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - بقوله: ((عَرَضَ عليَّ ربي ليجعلَ لي بطحاءَ مكة ذَهبًا، فقلت: لا يا رب، ولكني أَشْبَع يومًا، وأجوع يومًا، فإذا جعتُ تضرعتُ إليك وذكرتُك، وإذا شَبِعتُ حَمدتُك وشكرتُك))؛ رواه أحمد والترمذي.
3- قال تعالى: ﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُون ﴾ [البقرة: 186].
الصائمُ أقربُ الدعاةِ استجابةً:
عن عبدِالله بن عمر - رضِي الله عنه - قال: قال النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إنَّ للصائمِ عندَ فطره دعوة ما ترد))؛ رواه ابن ماجه.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسولُ الله- صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ثلاثةٌ لا تُردُّ دعوتُهم: الإمام العادِل، والصائِم حتى يُفطِر، ودعوة المظلوم يَرْفَعها الله دون الغَمام يومَ القيامة، وتُفتح لها أبوابُ السماء، ويقول: بعِزَّتي لأنصرنَّك ولو بعدَ حِين))، ومِن ثَمَّ جاء ذِكْر الدعاء في ثنايا الحديث عن الصِّيام.
4- قال تعالى: ﴿ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 187].
إذا كان للصوم دَوْره في كسْر شهوة الغريزة الجِنسيَّة، وإعلاء هذه الغَريزة، وخصوصًا إذا دُووم عليها ابتغاءَ مرضاتِ الله، ولكنَّه مِن جانبٍ آخَرَ احترم هذه الغريزةَ الجِنسية للإنسان مِن خلالِ إباحة الجِماع في جميع اللَّيْل إلى تبيُّن الفجر، رحمةً ورخصةً ورفقًا، وقد ورَد في سبب نزول هذه الآية: "أنه أوَّل ما فُرِض الصيام فقد كانوا يأكلون ويَشربون، ويُباشرون نساءَهم، ما لَمْ يناموا أو يُصلُّوا العشاء، فإذا ناموا وصلوا العشاء لم يَجُزْ لهم شيء مِن ذلك إلى الليلة القادِمة، فشقَّ ذلك على الصحابة - رضي الله عنهم - حتى إنَّ بعضَهم، كعُمر بن الخطَّاب، وكَعْب بن مالك قد أصابَ مِن زوجته بعدَما نام، فشقَّ عليه ذلك وشَكَا ذلك للنبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فأنْزَل الله - عزَّ وجلَّ - هذه الآية ﴿ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ ﴾، ففرِح بها المسلمون فرَحًا شديدًا.
وهكذا تتعدَّد الحِكم والأسرار مِن آيات الصيام.
واللهَ نسأل أن يرزقنا صيامًا مقبولاً، وذنبًا مغفورًا، وتجارةً لن تبورَ، إنَّه ولي ذلك والقادِر عليه.