حِكم وأسرار تربوية:
1- تحقيق معنى التقوى:
قال تعالى: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلصّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [ البقرة: 183 ] .
قال الواحديُّ: "إنّ الصيام وصلة إلى التُّقى لأنه يكف الإنسان عن كثيرٍ مما تَطْمع إليه النفس من المعاصي" ([1]) .
وقال أبو المظفر السمعاني في قوله تعالى: { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }: "أي بالصوم؛ لأنّ الصوم وصلة إلى التقوى بما فيه من قهر النفس، وكسر الشهوات"([2]).
وقال السدي: "{ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } أي: من الطعام والشراب والنساء"([3]).
وقال ابن كثير: "الصوم فيه تزكية للبدن وتضييق لمسالك الشيطان"([4]).
وقد ثبت في الصحيحين من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (( من استطاع الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء )) ([5]) .
قال ابن حجر: " (( فإنه له وجاء )) بكسر الواو وبجيم ومد، وهو رضُّ الخصيتين، وقيل: رضُّ عروقهما، ومن يفعل به ذلك تنقطع شهوته، ومقتضاه أن الصوم قامع لشهوة النكاح " ([6]) .
2- الصوم يحفظ الجوارح عن الوقوع في الحرام :
قال ابن القيم: " من جالس الصائم انتفع بمجالسته وأمن فيها من الزور والكذب والفجور والظلم ؛ فإن تكلم لم يتكلم بما يُجرِّح صومه، وإن فعل لم يفعل ما يفسد صومه، فيخرج كلامه كله نافعاً صالحاً " ([7]).
وفي الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجةٌ في أن يدع طعامه وشرابه )) ([8]) .
قال المهلب: " فيه دليل أنَّ حكم الصيام الإمساك عن الرفث وقول الزور، كما يمسك عن الطعام والشراب، وإن لم يمسك عن ذلك فقد تنقص صيامه وتعرض لسخط ربِّه، وترك قبوله منه " ([9]) .
قال جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: " إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب والمآثم، ودع أذى الخادم، وليكن عليك وقار وسكينة يوم صومك، ولا تجعل يوم صومك ويوم فطرك سواءً " ([10]) .
وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: ( إذا صمت فتحفظ ما استطعت ) ([11]).
3- الصيام يربي في النفس حقيقة الإخلاص لله عز وجل:
قال ابن القيم: " والصيام لرب العالمين من بين سائر الأعمال، فإنّ الصائم لا يفعل شيئاً، وإنّما يترك شهوته وطعامه وشرابه من أجل معبوده، فهو ترك محبوبات النفس وتلذذاتها إيثاراً لمحبة الله ومرضاته، وهو سرُّ بين العبد وربه، لا يطَّلعُ عليه سواه، والعباد قد يطَّلعون منه على ترك المفطرات
الظاهرة، وأما كونه تَرَك طعامه وشهوته من أجل معبوده، فهو أمرٌ لا يَطَّلِعُ عليه بشرٌ، وذلك حقيقة الصوم " ([12]) .
وفي الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله
صلى الله عليه وسلم: (( قال الله: كُلُّ عملِ ابنِ آدمَ له إلاَّ الصِّيام فإنه لي وأنا أَجْزِي بِهِ )) ([13]) .
قال مجاهد: " قوله في الحديث: (( الصِّيام لي وأنا أجْزِي بِهِ )) ولا يكون لله خالصاً إلاَّ بانفراده بعلمه دون الناس " ([14]) .
وقال ابن بطال: " فالصيام وجميع الأعمال لله، لكن لما كانت الأعمال الظاهرة يُشْرِكُ فيها الشيطان بالرياء وغيره، وكان الصيام لا يطلع عليه أحد إلا الله، فيثيبه عليه على قدر خلوصه لوجهه، جاز أن يضيفه تعالى إلى نفسه " ([15]).
وقال القرطبي: " الصوم سر بين العبد وبين ربه لا يَظْهَر إلاَّ له ؛ فلذلك صار مختصاً به " ([16]) .
4- الصيام والصبر :
قال ابن رجب: " الصيام من الصبر، والصبر ثلاثة أنواع، وتجتمع الثلاثة في الصوم، فإنّ فيه صبراً على طاعة الله، وصبراً عمَّا حرم الله على الصائم من الشهوات، وصبراً على ما يحصُلُ للصائم فيه من ألم الجوع
والعطش، وضعف النفس والبدن ، قال الله تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى ٱلصَّـٰبِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10] " ([17]) .
قال ابن عيينة: " الصوم هو الصبر، يُصَبـِّرُ الإنسان نفسه عن المطعم والمشرب والمنكح، ثم قرأ: { إِنَّمَا يُوَفَّى ٱلصَّـٰبِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ }" ([18]) .
وقال ابن حجر: " والصابرون الصائمون في أكثر الأقوال " ([19]) .
5- في الصيام تضييق لمجاري الشيطان :
قال ابن رجب: " إنّ الصيام يضيق مجاري الدم، التي هي مجاري الشيطان من ابن آدم ؛ فإنّ الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدّم، فتسكن بالصيام وساوس الشيطان، وتنكسر ثورة الشهوة والغضب، ولهذا جعل النبيُّ صلى الله عليه وسلم الصوم وجاءً ([20])، لقطعه عن شهوة النكاح " ([21]) .
6- الصيام يدعو الإنسان لشكر النعم :
قال الشيخ عبد العزيز السلمان: " الصوم يدعو إلى شكر نعمة الله، إذ هو كفُّ النفس عن الطعام والشراب ومباشرة النساء، ولا يعرف الإنسان قدر هذه النِّعم إلا بعد فقدها، فيبعثه ذلك على القيام بشكرها، وإلى هذا أشار جل وعلا بقوله: { وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [ البقرة: 185 ] " ([22]) .
7- الصيام يثير في النفس مراقبة الله عز وجل والخوف منه :
يقول الشيخ محمد رشيد رضا: " الصيام موكول إلى نفس الصائم لا رقيب عليه فيه إلا الله، وهذه المراقبة تكسب الإنسان الحياء منه سبحانه أن يراه حيث نهاه، وفي هذه المراقبة من كمال الإيمان بالله والاستغراق في تعظيمه وتقديسه ما يجلب الخوف منه عز وجل، إن صاحب هذه المراقبة لا
يسترسل في المعاصي، إذ لا يطول أمد غفلته عن الله تعالى، وإذا نسي وألم بشيء منها يكون سريع التذكر قريب الفيء والرجوع بالتوبة إلى الله سبحانه: { إِنَّ ٱلَّذِينَ ٱتَّقَوْاْ إِذَا مَسَّهُمْ طَـائِفٌ مّنَ ٱلشَّيْطَـٰنِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} [الأعراف:201] " ([23]) .
8- الصيام وخلق الكرم والعطف على الفقراء :
قال ابن رجب: " سئل بعض السلف لم شرع الصيام ؟ قال: ليذوق الغني طعم الجوع فلا ينسى الجائع " ([24]) .
وقال الشيخ محمد رشيد رضا: " إن الصائم عندما يجوع يتذكر من لا يجد قوتاً فيحمله التذكر على الرأفة والرحمة الداعيتين إلى البذل والصدقة، وقد وصف الله تعالى نبيه بأنه رؤوف رحيم، ويرتضي لعباده المؤمنين ما ارتضاه لنبيه صلى الله عليه وسلم، ولذلك أمرهم بالتأسي به " ([25]) .
فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير، وكان أجود ما يكون في رمضان، حين يلقاه جبريل([26]).
قال الزين بن المنير: " أي فيعم خيره وبره من هو بصفة الفقر والحاجة ومن هو بصفة الغنى والكفاية أكثر مما يعم الغيث الناشئة عن الريح المرسلة صلى الله عليه وسلم " ([27]) .
9- في الصيام تتجلى وحدة المسلمين، وتعرف الأُمَّةُ أهمية الوقت :
يقول الشيخ محمد رشيد رضا: " الصيام يُعَلِّمُ الأُمَّة النظام في المعيشة، فجميع المسلمين يفطرون في وقت واحد لا يتقدم أحدٌ على آخر دقيقة واحدة، وقلما يتأخر عنه دقيقة واحدة " ([28]) .
([1]) الوسيط في تفسير القرآن المجيد للواحدي (1/272).
([2]) تفسير السمعاني (1/179)، وانظر: زاد المسير (1/167)، والبحر المحيط (2/36).
([3]) انظر جامع البيان (3/413)، والدر المنثور (1/323).
([4]) تفسير القرآن العظيم (1/318)، وانظر محاسن التأويل (2/74).
([5]) أخرجه البخاري: في كتاب الصوم، باب الصوم لمن خاف على نفسه العزبة رقم (1905) واللفظ له، ومسلم: كتاب النكاح، باب: استحباب النكاح رقم (1400).
([6]) فتح الباري (4/142).
([7]) الوابل الصيب من الكلم الطيب (ص41) بتصرف يسير.
([8]) أخرجه البخاري في كتاب الصوم، باب من لم يدع قول الزور والعمل به رقم (1903).
([9]) شرح صحيح البخاري لابن بطال (4/23).
([10]) المصنف لابن أبي شيبة (2/422)، كتاب الصيام، باب ما يؤمر به الصائم من قلة الكلام وتوقي الكذب.
([11]) المصنف لابن أبي شيبة (2/421)، كتاب الصيام، باب ما يؤمر به الصائم من قلة الكلام وتوقي الكذب.
([12]) زاد المعاد (2/29).
([13]) أخرجه البخاري: كتاب الصوم، باب هل يقول: إني صائم إذا شُتِم رقم (1904)، واللفظ له، ومسلم، كتاب الصيام: باب فضل الصيام رقم (1151).
([14]) شرح صحيح البخاري لابن بطال (4/9).
([15]) المرجع السابق .
([16]) الجامع لأحكام القرآن (2/274).
([17]) انظر: لطائف المعارف ( ص: 284 ) بتصرف يسير، وموارد الظمآن ( 1 / 357 ) .
([18]) شرح صحيح البخاري لابن بطال ( 4 / 9 ) .
([19]) فتح الباري ( 4 / 130 ) .
([20]) تقدم تخريج الحديث، والكلام عليه، في الفقرة رقم ( 1 ) .
([21]) لطائف المعارف ( ص: 291 ) .
([22]) انظر: موارد الظمآن ( 1 / 356 ) بتصرف يسير .
([23]) انظر: تفسير المنار ( 2 / 145 – 146 ) بتصرف يسير، وكتاب الصوم للشيخ عبد الرحمن الدوسري.
([24]) لطائف المعارف لابن رجب ( ص: 314 ) .
([25]) انظر: تفسير المنار ( 2 / 147 ) بتصرف يسير .
([26]) أخرجه البخاري في كتاب الصوم، باب أجود ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يكون في رمضان رقم ( 1902 )، واللفظ له، ومسلم في كتاب الفضائل، باب كان صلى الله عليه وسلم أجود الناس رقم ( 2308 ) .
([27]) انظر: فتح الباري ( 4 / 139 ) .
([28]) انظر: تفسير المنار ( 2 / 148 ) بتصرف يسير .