في كتاب "المغني" لابن قدامة - رحمه الله - عرَّف الصوم بأنه الإمساك، يقال: صام النهار، إذا وَقَف سير الشمس؛ قال تعالى إخبارًا عن مريم - عليها السلام -: ﴿ إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا ﴾ [مريم: 26]؛ أي: صمتًا، لأنَّه إمساك عن الكلام؛ قال أحدُ الشعراء:
خَيْلٌ صِيَامٌ وَخَيْلٌ غَيْرُ صَائِمَةٍ
تَحْتَ الْعَجَاجِ وَأُخْرَى تَعْلُكُ اللُّجَمَا
ومِنْ ثَمَّ، فالصومُ الشرعي؛ أي: في عُرف الشرع، واصطلاحه هو عبارةٌ عن الإمساك بنيَّة عن أشياء مخصوصة في زمنٍ مَخصوص من شخص مخصوص، كما قال بذلك عُلماؤنا.
والصوم له فضلٌ عظيم، فهو سِرٌّ وعملٌ باطن لا يراه الخلق، ولا يدخله الرِّياء، وهو قَهرٌ لعدو الله إبليس اللَّعين؛ لأنَّ وسيلةَ العدو الشَّهوات، وإنَّما تقوى الشهوات بالأكل والشرب، وما دامت أرضُ الشهوات مخصبة، فالشياطين يتردَّدون على ذلك المرعى، وبترك الشهوات تضيق عليهم المسالك.
والصوم يُربِّي في المسلمين ملكةَ الصبر؛ ذلك أنَّ أحدَ أسباب الكارثة التي حلَّت بنا اليومَ هي البطر في الاستهلاك، والتبذير والبُعد عن الدِّين القيِّم؛ قال تعالى: ﴿ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ﴾ [النحل: 112]، وكلنا يعلم قِصَّةَ قارون، كما وردت في القرآن الكريم [القصص: 76 - 83]، وفرعون وغيرهم الذين جحدوا نِعَمَ الله.
فالإسراف والتبذير في الاستهلاك يُعَدُّ سوءَ استخدامٍ للموارد الاقتصادية والسلع، التي أنعم الله بها على العباد؛ لينتفعوا بها، وهو عمل يذمه الإسلام ذمًّا كبيرًا؛ حيثُ وصف الله المسرفين والمبذرين بأنَّهم إخوان الشياطين؛ لِمَا لهذا العمل من آثارٍ سيئة لا تقتصر على صاحبها، الذي مارس الإسرافَ، بل تَمتد؛ لتشملَ المجتمع والعالم.
إنَّ للصوم أبعادًا اقتصادية عظيمة، منها ما يدركها العقل البشري، كأثرِه على صحة الإنسان مثلاً، الثروة البشرية، ومنها ما لا يستطيع العقل البشري إدراكه، فطوبى لمن اقتدى في صيامه وقيامه بمحمد - صلَّى الله عليه وسلَّم.
إنَّ من واجب المسلم أنْ يعملَ على توفير ما تقوم به الحياة من مأكل ومَشرب وملبس ومسكن... إلخ من الضَّروريات؛ لصيانة دينه ونفسه ونسله، ولحفظ عقله وماله، كما يفترض في المسلم أن يتجنب النَّزعة الاستهلاكية قَدْرَ الإمكان.
وإن كان هذا يختلف من شخص لآخر، بحسب يَسارِه المادي، وبقدر زهده في الدُّنيا ومباهجها، إلاَّ أنَّ هناك حدودًا لذلك على كل حال ينبغي مراعاتُها.
إنَّ الإنسان أهم بكثير من أيِّ نَموذج أو نظرية أو تفسير، هذا ما اكتشفه علماء الاقتصاد أخيرًا، فالإنسانُ هو الذي يقرِّر مستوى رفاهيته ودرجة ثرائه، وكل الأمر متوقف على قراره وسلوكه، فبإمكانِه إن أراد أن يكونَ معتدلَ الاستهلاك، فيصبح حجمُ الوفر لديه بما يُمكنه أن يصبح ثريًّا، وبإمكانه إن كان نَهم الاستهلاك كما هو حال الفرد في أغلب المجتمع الغربي - أن يأكل ثروته.
وبعد أن كان علماء الاقتصاد مُصرِّين على أنَّ الدولة وسياستها هي العنصر الأهم في العملية الإنتاجية، عادوا ليقرِّروا أنَّ المستهلك والمنتج هما سيدا اللعبة، فيومَ يربي المجتمع عادات الاستهلاك، ويهذبها ويوجهها، فإنَّ عمليةَ ترشيد واسعة ستؤدي إلى انتفاعِ هذا المجتمع بخيراته على أكمل وجه.
وهكذا فمِفْتاح حل الأزمات الحقيقي إنَّما يكمن في التربية الاستهلاكية، وهو مفهوم حديث نسبيًّا، وقد قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((كُلْ واشربْ والبسْ وتصدَّقْ ما أخطأتك خصلتان: سرف ومخيلة))، وقد ورد عن معاوية بن أبي سفيان - رَضي الله عنه - قوله: "كل سرف، فبإزائه حق مضيَّع".
لقد درجت أمانينا على اغتنام فرصة الصيام؛ لتقويم الروح بفوائد روحية، وتقويم الجسد بفوائد جسمية، فهل نتعود على اغتنام الفرصة؛ لتقويم اقتصاد الأمة، وهو جسمها وروحها من داءٍ عُضَال هو داء الاستهلاك الدائم من غير إنتاج كافٍ؟ وهل يكون شهرُ رمضان فرصةً ومجالاً لامتلاك إرادة التصدي لحالة الاستهلاك الشرهة التي تنتابنا في هذا الشهر الكريم؟