بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدُ لله، والصلاة والسلام على رسولِ الله، وعلى آله وصحْبه ومَن اهتدى بهُداه:
قال - تعالى -: ﴿ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [آل عمران: 133].
هذه الآية يأمرُنا ربُّنا فيها بالمسارعةِ والمسابقة، ومثيلتها قولُه - تعالى -: ﴿ سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ﴾ [الحديد: 21]، فإذًا هذه الآيات يطلُب فيها الله - عزَّ وجلَّ - من المسارعَةِ والمسابقة والمبادَرة، والمعنى كأنَّنا نكونُ في سِباق، وكلٌّ منا حريصٌ على الوصول إلى الهدف قبلَ صاحبه، ولكن حقيقة المسابقةِ والمسارعة هذه كما دلَّت عليه الآياتُ المتقدمة إنما هي في الخيراتِ والأعمال الصالِحة المقرِّبة إلى الجنة، وسُمِّي السباق تنافسًا؛ لأنَّ المتسابق يقطع نفسَه من أجل أن يتقوَّى في السباق، وصولاً إلى الهدف.
وهذا حالُ المؤمن، يكون في سِباق مع إخوانه في الخيرات، وهو الذي يطلبه ربُّنا في هذه الآيات، وقد علَّمنا السَّلفُ الصالح أن المسابقة والمسارعة إنَّما تكونُ إلى الآخِرة، وليس إلى الدنيا، قال الحسن البصري: إذا رأيتَ الرجل ينافِسُك في الدنيا، فنافسْه في الآخرة، وقال أيضًا: مَن نافَسَك في دِينك فنافسْه، ومَن نافسك في دنياك فألْقِها في نحره.
ولعل أبلغ وأبرز الأمثلة على هَديِ السلف في هذه المسابقة، وهذا المقام، ما قاله عمرُ بن الخطَّاب - رضي الله عنه -: أمرَنا رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - بالصَّدقة فوافَق ذلك مالاً عندي، فقلت: اليومَ أسبِق أبا بكر إنْ سبقته، قال: فجئتُ النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - بنِصْف مالي، فقال رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ما أبقيتَ لأهلك؟)) فقلت: مثلَه، وأتى أبو بكر بمالِه كلِّه، فقال له النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((يا أبا بكر، ما أبقيتَ لأهلك؟)) قال: أبقيتُ لهم اللهَ ورسولَه، فقلت: لا أَسبِقك في شيء أبدًا.
فهذه الآثارُ تُظهِر لنا عِظمَ المسابقة والمسارعة عندَ السلف، وتبيِّن لنا المجال الذي سارعوا فيه وسابقوا، إنه الآخِرة، بخِلاف المتأخِّرين فإنَّ تنافسهم وسباقهم في الدُّنيا الفانية؛ ولذلك قال ابنُ رجب في "لطائف المعارف": "لَمَّا سمِع القوم قول الله - عزَّ وجلَّ - ﴿ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ﴾ [البقرة: 148]، فَهِموا أنَّ المراد من ذلك أن يجتهدَ كلُّ واحد منهم أن يكونَ هو السابقَ لغيره إلى هذه الكرامة، والمسارِع إلى بلوغِ هذه الدَّرَجة العالية، فكانَ أحدُهم إذا رأَى من يعمل عملاً يعجِز عنه، خشِيَ أن يكون صاحبُ ذلك العمل هو السابقَ له، فيحزن لفوات سبْقه، فكان تنافسُهم في درجات الآخِرَة واستباقهم إليها، ثم جاءَ مِن بعدهم قومٌ فعَكَسوا الأمر، فصار تنافسهم في الدنيا الفانية الدنيئة، وحظوظِها الفانية"، فالله - عزَّ وجلَّ - يُريدُ منا أن نكونَ مسارعين في الخيرات، ولكن ما الذي يَكسَبُه العبدُ في مسارعته إلى الخيرات؟
الله - عزَّ وجلَّ - بيَّن ثمرة ذلك، فقال: ﴿ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ ﴾ [آل عمران: 133].
فمبتغى العبْد إذًا أن يغفرَ الله له، ويتجاوز عن خطاياه وسيئاته، وإذا تحقَّق ذلك كانت النتيجة الدخول إلى الجَنَّة، وهو الذي قاله ربُّنا في الآخرة: ﴿ مَغْفِرة وجنة ﴾؛ لأنَّ المغفرة سببٌ لدخول الجنة، وهنا الجنة أُفردِت، والمراد العموم "الجنان" كما صحَّ ذلك عن نبينا - صلَّى الله عليه وسلَّم - من حديث أنس - رضي الله عنه -: أنَّ أمَّ حارثة أتتِ النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - وكان حارثةُ قد قُتِل يوم بدر، أصابَه سَهمٌ غَرْب، فقالت: يا رسولَ الله، لقد علمتَ موضعَ حارثة من قلْبي، فإنْ كان في الجَنَّة أسْكُت، وإنْ كان في غيرِها فليرينَّ الله ما أصنع، فقال لها النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((يا أُمَّ حارثة أهبلت؟ أجَنَّة واحدة هي، بل هي جِنان، وإنَّه في الفِرْدوس)).
فهذا الحديثُ دليل على أنَّ الجنة هي جِنان، والآيات في هذا كثيرة، لكن هذه الجنة إنَّما أعدَّها الله للمتَّقين كما نصَّتْ عليه الآية الكريمة، حيثُ قال سبحانه: ﴿ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ﴾، ومثلها قوله - تعالى -: ﴿ وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [الزخرف: 35].
ورحِم الله ابنَ القيِّم حين وصَف الجَنَّة في نونيته، فقال:
يَا سِلْعَةَ الرَّحْمَنِ لَسْتِ رَخِيصَةً
بَلْ أَنْتِ غَالِيَةٌ عَلَى الْكَسْلاَنِ
يَا سِلْعَةَ الرَّحْمَنِ لَيْسَ يَنَالُهَا
فِي الْأَلْفِ إِلَّا وَاحِدٌ لاَ اثْنَانِ
يَا سِلْعَةَ الرَّحْمَنِ مَاذَا كُفْؤُهَا
إِلاَّ أُولُو التَّقْوَى مَعَ الْإِيمَانِ
ثم قال:
لَكِنَّهَا حُجِبَتْ بِكُلِّ كَرِيهَةٍ
لِيُصَدَّ عَنْهَا الْمُبْطِلُ الْمُتَوَانِي
وَتَنَالَهَا الهِمَمُ الَّتِي تَسْمُو إِلَى
رَبِّ العُلَى بِمَشِيئَةِ الرَّحْمَنِ
فإذًا أُخيَّتي وقارئة سُطوري، احْذري من الغَفْلة، واعملي جاهدةً لاغتنام الأوقات في طاعة الله، والمسارعة في الخيرات، خاصَّة ونحن في شهر الخيْر والبَرَكة، جعَلَنا الله وإياكُنَّ ممَّن يُدرك رمضان، ويقيم لياليَه بالطاعات والخيرات.
وصلَّى الله على نبينا محمَّد، وعلى آله وصحْبه وسلَّم.