القرآن شعار شهر رمضان، والعَلامة البارزة فيه، وهو العمل العظيم الذي لا يكادُ يَخلو منه جدولُ أعمالِ أيِّ امرئ في هذا الشَّهر العظيم، وإنَّ من نافلة القول أنْ نؤكد على أهمية قراءة القرآن عمومًا، وفي هذا الشهر خصوصًا في ضوء قول الله - عزَّ وجلَّ -: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ* لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} [فاطر: 29 - 30]، وقول النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((اقرؤوا القرآنَ، فإنه يأتي يومَ القيامةِ شفيعًا لأصحابه))؛ (رواه مسلم عن أبي أمامة، برقم: 1910).
ولقد كان السَّلف الصَّالح - رضوان الله عليهم - يَحتفلون بهذا الكتاب العظيم في هذا الشَّهر العظيم وفي غيره أيَّما احتفال، ويفسحون ويُخصِّصون له في بياضِ نَهارهم وسواد ليلهم المساحاتِ الشاسعةَ الواسعة، حتَّى كانوا يَختمون فيه الختمات الكثيرة ذوات العدد.
وقد نقل لنا الإمامُ النَّووي في كتابه "التبيان في آداب حملة القرآن" صورًا مُدهشة من عدد الختمات التي كان السَّلف يُحصيها في قراءته للقرآن، فقال - رحمه الله -: "وكان السَّلف - رضي الله عنهم - لهم عاداتٌ مُختلفة في قدر ما يَختمون فيه، فروى ابن أبي داود عن بعضِ السَّلف - رضي الله عنهم - أنَّهم كانوا يَختمون في كل شهرين ختمة واحدة، وعن بعضهم في كل شهر ختمة، وعن بعضهم في كل عشر ليالٍ ختمة، وعن بعضهم في كل ثماني ليالٍ، وعن الأكثرين في كل سبع ليالٍ، وعن بعضهم في كل ست، وعن بعضهم في كل خمس، وعن بعضهم في كل أربع، وعن كثيرين في كل ثلاث، وعن بعضهم في كل ليلتين، وختم بعضهم في كل يوم وليلة ختمة، ومنهم من كان يختم في كل يوم وليلة ختمتين، ومنهم من كان يختم ثلاثًا، وختم بعضهم ثماني ختمات: أربعًا بالليل، وأربعًا بالنهار".
وقد ساق لنا الإمام النَّووي في هذا الباب أخبارًا عجيبة، إضافةً إلى ما نقلنا عنه؛ مما يَجعل الواحد منا يقف مشدوهًا، ويكلم نفسه قائلاً: ما هذه السُّرعة؟ وأيُّ نوع من الرجال أولئك؟ وما نوع قراءتهم التي تَجعل الواحد منهم يَختم كلَّ هذه الختمات في ساعات مَعدودات لا تتجاوز أصابعَ الكفِّ الواحدة؟ ولعل الجوابَ: إنَّ الله - تعالى - قد بارك لأولئك الأفذاذ في أوقاتهم، كما يطوي المكان لمن يشاء من عباده، حتَّى فعلوا ما فعلوا، ولو أنَّنا أَجَلْنَا النَّظرَ في مؤلفاتهم التي أخرجوها للناس، لوجدنا أنفسنا عاجزين عن قراءتها، بَلْهَ نسخها وكتابتها، فساعتهم تعدل يومنا، ويومهم شهرنا، وشهرهم سنتنا، وعمرهم أضعاف أعمارنا.
واليومَ لعل المرء وهو يسمع هذه الأخبار عن سلفنا الصالح تنهض به همّته، وينشط بدنه لقراءة القرآن، فيُحاول أنْ يصنعَ كالذي صنعوا، فيَجْتهِد أنْ يَختم عدة ختمات في رمضان وغيره، فيقع في المحظور؛ ظنًّا منه أنَّ ختم القرآن مطلوب لذاته فحسب، ومقصود بعينه فقط، فيقرأ القرآنَ قراءة سريعة ربَّما أتى على بعض الحروف فأكلها، وبَخَسَ أحكامَ التجويد حقها، وعطل العقل والقلبَ عن فهم معاني ما يَقرأ ولطائف ما يَتلو.
والله - عزَّ وجلَّ - أنزل القرآن لتدبره؛ {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ} [ص: 29]، لا للهذِّ فيه والإسراع بقراءته، ولأنْ تقرأ آيةً أو حزبًا أو جزءًا أو سورة بتدبر وتأمُّل وتفكر - لَخيرٌ ألفَ مَرَّة من أنْ تَختم القرآن كاملاً دون أنْ تعي مما تقرأ شيئًا.
ولقد ورد عن عبدالله بن عمر - رضي الله عنهما - أنَّه أخذ في تحصيل سورة واحدة - هي سورة البقرة - ثماني سنوات يَتعلمها، لكن كيف كان يتعلمها أيَحفظها، والطفل من أطفالنا اليوم ربَّما حفظها في شهر أو شهرين أو ثلاثة؟ أيترنم بها؟ لا، بل كان يحفظها ويتعلم أحكامَها ومعانيها، وكل ما يتعلق بها، فلذلك كانت تأخذُ منه كل هذا الوقت والجهد، ألا فلنعقد العزم، ولنقتدِ بهم في هذا؛ {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90]، ولنأتسِ بهم في قراءتنا لكتاب ربنا كمًّا وكيفًا.
والله الهادي إلى سواء السبيل.