صديقي العزيز، السَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أرفع لك أسمَى التَّبريكات بمناسبة حلول شهر رمضان المعظَّم، أهلَّه الله عليك وعلى الأمَّة بالخير واليمن والبركات، وأسأل الله لكم ولي أن يرزقنا فيه عملاً صالحًا يقرِّبنا إليه.
ثمَّ أمَّا بعد:
صاحبي، لا أعرف من أين أبدأ، ولكن احترامي لعقلك يمنعني من طول اللَّفِّ والدَّوران، وكذلك عمق تعارُفنا يَحُول بيني وبين التَّرقيق والتَّحسُّس المبالَغ فيه، الذي لا يناسب إلاَّ اثنين تسطَّحتْ علاقتُهما، ولكن لا بأس بعد كلِّ هذا من مدخلٍ يهيِّئ لما أريد أن أخاطبك فيه.
حسنًا، ألم يصادفْك في حياتك صنفٌ متقدِّمٌ من الغافلين، مرَّ الواحد منهم بعربته على منطقتين ما عشراتِ أو مئات المرَّات، ورغم ذلك فهو لم يرَ ذاك المزارَ الشَّهير الذي يقع في المسافة بين المنطقتين، ولنقُل: حديقةٌ جذَّابةٌ مثلاً، كلُّنا صادفنا مثل هذا الرَّجل، أو لعلنا أحيانًا ما ينطبق علينا القول: كلُّنا هذا الرَّجل، أيُّ إنسانٍ منَّا قد مرَّ بتجربةٍ تخطَّى فيها مكانًا يبحث عنه.
صاحبنا الغافل يسأل قادة العربات المجاورة لعربته بالطَّريق عن الحديقة، فيعرف أنه سيمرُّ بها في طريقه إلى الأمام، حسنًا، للأمام سرْ، ثمَّ بعد فترةٍ ما يستبطأ ظهورَها، وتضطرب عيناه بالنَّظر إلى جانبي الطَّريق والنَّظر في مرآة الخلف، فيسأل عنها مرَّةً أخرَى، فيقال له: إنَّها من خلفه قد تخطَّاها منذ قليلٍ، حيرة! كيف يمكن للمعالم المهمَّة البيِّنة أن تحتجب عن أعين العابرين في الطَّريق؟!
مروريًّا، يمكن القول بأن صاحبنا يدخل في كلِّ مرَّةٍ في نفقٍ ما بين المنطقتين، ثمَّ سرعان ما يخرج منه للشَّمس وسطح الأرض، طبعًا بعد تجاوزه للحديقة؛ لذا لا يسعد برؤية الحديقة أبدًا، ولا يجد ريحها، هذا هو الأمر، ولا خدعة بصريَّة فيه، لقد تجاوز الحديقة هذه المرَّة، وربَّما سيتجاوزها في كلِّ مرَّةٍ قادمةٍ إذا لم يتغيَّر في قيادته للعربة شيءٌ ما، ولكن ما هو هذا الشَّيء؟
قد كان هناك خياران أمامه في الطَّريق لا ثالث لهما: المخرج إلى الجانب غير السَّريع من الطَّريق، الذي يسمَّى طريق (الخدمة)، أمَّا الخيار الثَّاني فهو النَّفق، واختار هو النَّفق الذي يمثِّل الامتداد الطَّبيعيَّ للطَّريق، ومجرَى سيولة وسائل المواصلات، بينما المخرج - أيُّ مخرجٍ - ليس كذلك، إنه الخروج عن النَّمط والأجواء.
شيءٌ كتلك الغفلة، التي إذا تكرَّرتْ صارتْ حماقةً، يحدث في تعامُل بعض النَّاس مع رمضان، فهو دائمًا من أمامهم ومن ورائهم، ولكنهم لا يرونه، ولا يجدون ريحه، وهم دائمًا ما ينوون إدراكه في المرَّة القادمة بالمعنَى الروحيِّ والتَّعبُّديِّ للرُّؤية والإدراك، ولكنهم لا يدركونه أبدًا.
وقطاعٌ ليس بالقليل من المسلمين هم من عابري هذا النَّفق سنويًّا، ومعظمُهم قد اعتاد على هذا الفوات، قطاع الذين لا يبدون رغبةً لفعل أيِّ شيءٍ غير الامتناع عن الطَّعام والشَّراب والتَّدخين حتى أذان المغرب، أتكلَّم هنا عن قطاعٍ تنتمي إليه، نعم، أتكلَّم عنك.
أعرف أنَّك تتعجَّب مما تقرأ الآن، وستظنُّ أن البُعد قد ولَّد جفاءً، وأعرف اعتزازكَ بنفسكَ الذي سيجعلك رافضًا لأنْ أتحدَّثَ عنك كحالةٍ، أعرف هذا جيِّدًا، ولكن قدْرك عندي وكذلك قدْر رمضان يجعلانِنِي في حلٍّ من تلطيف الحوار بيننا للدَّرجة التي تحجب النُّصْح، وصديقك - كما تعرف - مَن صدَقك، لا من صدَّقك.
لستَ وحدك، كثيرٌ من المسلمين تنشَّؤوا في مناخٍ لا يعير رمضانَ التفاتًا خاصًّا، فهو شهر الضِّيافة، والموائد، والسَّهرات الأسريَّة، ولا غير؛ وعليه فأنت تعتقد - أو تحبُّ أن تعتقد - أن معظم النَّاس لا تجتهد كثيرًا في شهر رمضان في العبادة والنُّسك، والصَّفاء الرُّوحيِّ، والتَّقرُّب إلى الخالق - سبحانه وتعالى - وقد يكون هذا صحيحًا، قد يكون صحيحًا أن معظم النَّاس لا يعيشون حياةً عباديَّةً خاصَّةً في رمضان، ولكن ماذا سيفيدكَ أنت في أن تكون جزءًا من الجمهور الواسع من الغافلين؟!
أنت من نوعٍ يُسعِده ويخدِّره تلك الكثافةُ المروريَّة بالنَّفق، وجدولك الرَّمضانيُّ ممتلئٌ عن آخره: تبدأ أوَّل ما تبدأ بأنْ تضع نغمةً رمضانيَّةً على الجوَّال؛ لزوم (الأجواء الرمضانية)، وترتاد الخِيَم الرَّمضانيَّة، وتسهر مع أصحابك في (تدخين الشيشة) تستمعون لعازف ربابةٍ، وتطربون لغناء قيانٍ[1] يرتدين "جلابيبَ" شرقيَّةً، ويمرّ عليكم حَمَلَةُ مباخر، في خيمةٍ تستحضر مناخ الجاهليَّة الأولَى؛ هذا باللَّيل، أمَّا قبل المغرب، وأحيانًا بعده إلى ما بعد صلاة العشاء، فتشارك في الدَّورات الكرويَّة الرَّمضانيَّة، أمَّا إذا مكثتَ في البيت لأنَّ ثمة ضيوفًا من الأقارب سيفطرون عندكم، شاهدتَ خمسة مسلسلاتٍ يوميًّا؛ هذا برنامجك القديم على ما أعرف، متخمٌ!
وما أعرفه عنك لا يتوقَّف عند مناشطك الاحتفاليَّة، إنَّما يتخطَّاها إلى معرفة شيءٍ غير قليلٍ من دواخل نفسك، فممَّا أعرفه أيضًا عنك هو أنه - ولا تُنكرْ - يحزنك أن يقال: إن الجامع اليوم كان مليئًا بالمصلِّين في صلاة التَّراويح أو صلاة التَّهجُّد، أو أن يشار لاعتكاف شبابٍ كثيرين في العشر الأواخر في الجامع القريب من بيتكم، عفوًا، أنا لا أتَّهمك في دينك، إنه ليس حزن عدوِّ الدِّين، بقدر ما هو حزن مَن كان يريد التَّأكيد أمام نفسه على أنه طبيعيٌّ يمارس حياته كما يمارسها الأغلبيَّة، الأغلبية! كلمةٌ مثيرةٌ أحيانًا لاطمئنانٍ زائفٍ، أفلا أدلُّك على كلمةٍ هي خيرٌ منها، وأجمل وقعًا في النُّفوس؟ النُّخبة، فلماذا لا تكون من النُّخبة التي محَّص الله قلوبَها في الشَّهر الكريم لنفسه؟! لماذا تستكثر على نفسك في زمن الهرج واللَّهو والعبث أن تكون من المنتقَيْنَ؟!
أنت تسعد وسط الأغلبيَّة، ولكنها سعادةٌ زائفةٌ، نعم، وعندي الدَّليل على ذلك: يا ليتك تتذكَّر وجهك وقد بان عليه الدعةُ والرَّاحة، التي تصل لحد التبسُّم الصَّريح، وانفراج الأسارير خلال اتِّصالك بـ (حبيبٍ وغالٍ)، من أهل النَّفق والسَّهر على المقاهي حتى وقت السُّحور، وقد تفرَّقتْ بكما السُّبُل، وعرفتَ منه خلال المكالمة أنه متأخرٌ مثلك في قراءة القرآن، وأزيدك حرجًا: يا ليتك رأيت وجهك في المرآة حينما سألتَ أحدَ أقاربك الشَّباب في أواخر الشَّهر الكريم - بعد أن أخبرته أنك ما زلتَ في الجزء الثَّالث من القرآن الكريم - سألتَه عن أخباره مع التِّلاوة في رمضان، فقال لك: إنه ختمَ للمرَّة الثَّالثة، وبسبيله لختم الرَّابعة، عندما سيطر عليك حزنٌ وضيقٌ، وغيرةٌ وندمٌ على أنك سألته، هذا ما حدث، أَنكرْه أو لا تُنكرْه، هذا لن يغيِّر من حقيقة الأمر شيئًا؛ حصادٌ نفسيٌّ مخجلٌّ جدًّا للغفلة في رمضان، أنت متلبِّسٌ أمام نفسك بالفرح بكسل غافلٍ، وبالحزن من همَّة عابدٍ، ولو أن المشاعر تتجسَّد لاعتزلتَ النَّاسَ كلَّهم؛ حرجًا من سوء ما تحمل من مشاعر، فلماذا لا توفِّر على نفسك هذا العام تلك المشاعر المحرجة؟!
حرِّر نفسك من جاذبية السيولة، ومن السَّير خلف الآخرين، واستعدَّ للمخرج قبل المخرج، واجنحْ بعربتك إلى اليمين، جعلك الله من أهل اليمين، استعدَّ للمخرج قبل المخرج؛ فاختيارُ المخرج يحتاج إلى قرارٍ، ويحتاج إلى تحضيرٍ، ويتطلَّب معرفةً، ويتطلَّب قوَّةَ شخصيةٍ واستقلالاً عن الاتِّجاه العام للسيولة.
إذا أردتَ أن ترَى رمضان بالمعنَى الرُّوحيِّ والتَّعبديِّ للرُّؤية، فعليك أن تستعدَّ للخروج عن نمطك المعتاد، مثلما تستعدُّ للخروج من مخرجٍ ما، هذا أو أنك ستنزل لا محالة في النَّفق مع النَّازلين كما كنتَ تنزل دائمًا، إذا أردتَ أن تؤمَّ حديقة رمضان، وتدخلها بين الطَّيِّبين، وتشمَّ ريحها، فعليك أن تعدَّ خطةً ما مبدئيَّةً تتعلَّق بالتَّعبُّد، وتلاوة القرآن، والصَّدقات، ونوعيَّة البرامج التِّلفازيَّة التي ستشاهدها، ونوعيَّة البشر الذين ستجالسهم ولا تتوقَّع منهم ما يمكن توقُّعُه من أذًى كالذي يمكن توقُّعه من مجالسة نافخ الكير.
قد لا تنجح في تحقيق خطَّتك بشكلٍ كاملٍ، لا بأس، معظمنا لا ينجح في تحقيق خطَّته العباديَّة برمضان بشكلٍ كاملٍ، ولكن الوضع سيكون أفضلَ من لا شيء، ولا تؤسِّس خطَّتك على فُتات وقتك، بمعنَى أنه لا يصحُّ أن تكون خطَّتك الرَّمضانيَّة هي ملء الفراغات المتواضعة بين المسلسلات الرَّمضانيَّة - مثلاً - بشيءٍ من (العبادة السَّريعة)، كما يقول بعض السُّفهاء الذين يريدون أن ينجزوا شيئًا من العبادة، وكأنهم يريدون أن يتخلَّصوا من عبءٍ ثقيلٍ، عندما يستأذنون ممن يجالسون أمام المسلسل: (سأخبط ربعًا من القرآن وأرجع لكم، أو سأضرب ركعتين)، لا تؤسس خطَّتك التَّعبُّديَّة على فتات وقتك، فتَهُونَ في نظرِك العبادةُ هوانًا ينطق بسببه لسانُك بما في قلبك من وزنٍ خفيفٍ للعبادات، وتقول مثلما يقول هؤلاء السُّفهاء، والله غنيٌّ عن خبطهم وما يضربون، بل أسِّسْ خطَّتك التَّعبديَّة التي تليق بمسلمٍ لديه همَّةٌ، واتركِ الفراغاتِ لأنشطة ترويحٍ طيِّبةٍ لا تنطوي على مخالفاتٍ شرعيَّةٍ.
من أراد - يا صاحبي - أن يدرك رمضان، فعليه ألاَّ يكون من أهل (أين تذهب هذا المساء؟)، انتبهْ، أنت أمام خدعةٍ جماعيَّةٍ عريضةٍ جدًّا، رمضان ليس هناك، رمضان ليس في المقاهي، ولا أمام الشَّاشة الفضيَّة، ولا في ملاعب الكرة، ولا في جلسات (تسلية الصيام)، رمضان هناك في بيوت الله، وفي الغرف التي تغلق على من يقيمون اللَّيل وتنزل عليهم السَّكينة، وعند السِّماط الذي يُمدُّ لإطعام المساكين، وفي الدور التي يؤمُّها عبادُ الله لكفالة الأيتام وللمسح على رؤوسهم، وفي الحقول حيث يضرب أحدُهم الأرضَ بفأسه وهو يسبِّح بحمد الله.
وفي هيئةٍ حكوميَّةٍ ما حيث قرَّر موظَّفٌ من عباد الله أن يتقرَّب إلى الله بأنْ يحسِنَ إلى الجمهور ويسرِعَ في إنهاء معاملاتهم، أولئك في حديقة رمضان؛ أمَّا نجوم الطَّرب والرَّقص والزَّمْر، والمترفون الذين يعرضون عليك طرائقهم في قضاء الشَّهر من خلال التِّلفاز، والذين يقولون: إن رمضان لا يحلو إلاَّ بالكنافة، أو الشِّيشة، أو الفوازير، أو يتكلَّم أحدهم ضاحكًا عن (تخاريف الصِّيام)، أو يقول سفيهٌ منهم من ممثِّلي أفلام الإثارة وقد طأطأ رأسه في خشوعٍ مصطنعٍ: إن الله يكرمه كرمًا كبيرًا في الأفلام التي يصوِّرها في رمضان، فتنجح تلك الأفلام ببركة الشَّهر الفضيل، أمَّا كلُّ هؤلاء فدعْك منهم؛ {إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف: 139].
صاحبي، انتبهْ؛ إذ لا مجال حقيقيًّا للسَّاهرين في تدخين (الشيشة)، ومشاهدة برامج (الكاميرا الخفيَّة)، وملاحقة برامج (نجوم رمضان)، لا مجال حقيقيًّا لهم للقيام بعد ذلك بأنشطةٍ من هذا النَّوع الذي يعرفه روَّادُ الحديقة الرَّمضانيَّة، الذين يعيشون نعمةً حقيقيَّةً، إمَّا هذا أو ذاك، إمَّا المخرج، وإمَّا النَّفق.
ــــــــــــــــــ
[1] القيان: الجوارى المغنِّيات.