الرسالة الثانية
فضل صيام رمضان وقيامه
مع بيان أحكام مهمة قد تخفى على بعض الناس
من عبدالعزيز بن عبدالله بن باز إلى من يراه من المسلمين، سلك الله بي وبهم سبيل أهل الإيمان، ووفقني وإياهم للفقه في السنة والقرآن، آمين.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد، فهذه نصيحة موجزة تتعلق بفضل صيام رمضان وقيامه، وفضلِ المسابقة فيه بالأعمال الصالحات مع بيان أحكام مهمة قد تخفَى على بعض الناس.
ثبت عن رسول الله - صلَّى الله عليه وسَلَّم - أنه كان يبشر أصحابه بمجيء شهر رمضان ويخبرهم - صلَّى الله عليه وسَلَّم - أنه شهر تفتح فيه أبواب الرحمة وأبواب الجنة، وتُغَلَّق فيه أبواب جهنم وتُغَلُّ فيه الشياطين، ويقول - صلَّى الله عليه وسَلَّم -: ((إذا كان أول ليلة من رمضان فُتِّحت أبواب الجنة فلم يُغلَق منها باب، وغلقت أبواب جهنم فلم يفتح منها باب، وصفِّدت الشياطين، وينادي منادٍ: يا باغيَ الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر، ولله عُتقَاء من النار، وذلك كلَّ ليلة))، ويقول - صلَّى الله عليه وسَلَّم -: ((جاءكم شهر رمضان شهر بركة يَغشَاكم الله فيه، فينزل الرحمة ويحطُّ الخطايا، ويستجيب الدعاء، ينظر الله إلى تنافُسِكم فيه فيباهي بكم ملائكته، فأروا الله من أنفسكم خيرًا؛ فإنَّ الشقيَّ مَن حرم فيه رحمة الله)) [20]، ويقول - صلَّى الله عليه وسَلَّم -: ((مَن صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفِر له ما تقدَّم من ذنبِه، ومن قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفِر له ما تقدَّم من ذنبه، ومَن قام ليلَة القدر إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدَّم من ذنبه))[21]، ويقول - صلَّى الله عليه وسَلَّم -: ((يقول الله - عز وجل -: كل عمل ابن آدم له، الحسنة بعشر أمثالها إلى سَبعمائة ضعف؛ إلا الصيامَ فإنه لي وأنا أجزي به، تَرَك شهوته وطعامه وشرابه من أجلي، للصائم فرحتان: فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه، ولَخَلوف فم الصائم أطيَب عند الله من ريح المسك)).
والأحاديث في فضل صيام رمضان وقيامه وفضل الصوم كثيرة، فينبغي للمؤمن أن ينتهز هذه الفرصة، وهي ما مَنَّ الله به عليه من إدراك شهر رمضان، فيسارع إلى الطاعات ويحذر السيئات، ويجتهد في أداء ما افترض الله عليه، ولا سيما الصلوات الخمس؛ فإنها عمود الإسلام وهي أعظم الفرائض بعد الشهادتين، فالواجب على كل مسلم ومسلمة المحافظة عليها، وأداؤها في أوقاتها بخشوع وطمأنينة، ومن أهم واجباتها في حق الرجال أداؤها في الجماعة في بيوت الله، التي أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه؛ كما قال - عز وجل -: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة: 43]، وقال تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238]، وقال عز وجل: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون: 1، 2]، إلى أن قال: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون: 9 - 11]، وقال النبي - صلَّى الله عليه وسَلَّم -: ((العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفَر)) [22].
وأهم الفرائض بعد الصلاة أداء الزكاة كما قال - عز وجل -: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة: 5]، وقال تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [النور: 56]، وقد دل كتاب الله العظيم، وسنة رسوله الكريم على: أن من لم يؤد زكاة ماله يُعَذَّبْ به يوم القيامة، وأهم الأمور بعد الصلاة والزكاة صيام رمضان، وهو أحد أركان الإسلام الخمسة المذكورة في قول النبي - صلَّى الله عليه وسَلَّم -: ((بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت)) [23].
ويجب على المسلم أن يَصُون صيامه وقيامه عمَّا حرم الله عليه من الأقوال والأعمال؛ لأن المقصود بالصيام هو طاعة الله - سبحانه - وتعظيم حرماته وجهاد النفس على مخالفة هواها في طاعة مولاها، وتعويدها الصبر عما حرم الله، وليس المقصود مجرد ترك الطعام والشراب وسائر المفطرات؛ ولهذا صح عن رسول الله - صلَّى الله عليه وسَلَّم - أنه قال: ((الصيام جنَّة: فإذا كان يوم صوم أحدكم، فلا يَرفُث ولا يصخب، فإن سابَّه أحد أو قاتله فليقل: إنِّي صائم)) [24].
وصح عنه - صلَّى الله عليه وسَلَّم - أنه قال: ((مَن لم يَدع قول الزور والعملَ به والجهل، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه)) [25].
فعُلِم بهذه النصوص وغيرها: أن الواجب على الصائم الحذَرُ من كل ما حرم الله عليه، والمحافظةُ على كل ما أوجب عليه، وبذلك يرجى له المغفرةُ، والعتقُ من النار، وقبولُ الصيام والقيام.
أمور قد تخفى على بعض الناس:
وهناك أمور قد تخفى على بعض الناس، منها أن الواجب على المسلم أن يصوم إيمانًا واحتسابًا، لا رياء ولا سُمعَة ولا تقليدًا للناس أو متابعة لأهله أو أهل بلده، بل الواجب عليه أن يكون الحامل له على الصوم هو إيمانه بأن الله قد فرض عليه ذلك، واحتسابه الأجر عند ربه في ذلك.
وهكذا قيام رمضان يجب أن يفعله المسلم إيمانًا واحتسابًا لا لسبب آخر؛ ولهذا قال - صلَّى الله عليه وسَلَّم -: ((مَن صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه))؛ متفق عليه.
ومن الأمور التي قد يخفى حكمها على بعض الناس: ما قد يعرض للصائم من جراح، أو رُعاف، أو قَيْء، أو ذهاب الماء أو البنزين إلى حَلْقه بغير اختياره، فكل هذه الأمور لا تفسد الصوم، لكن من تعمَّد القيء فسد صومه؛ لقول النبي - صلَّى الله عليه وسَلَّم -: ((من ذَرَعَه القَيْءُ وهو صائِمٌ فلا قضاء عليه، ومن استقاء فعليه الإعادة)) [26].
ومن ذلك ما قد يعرض للصائم من تأخير غسل الجنابة إلى طلوع الفجر، وما يعرض لبعض النساء من تأخير غسل الحيض أو النفاس إلى طلوع الفجر، إذا رأت الطهر قبل الفجر، فإنه يلزمها الصوم، ولا مانع من تأخيرها الغسل إلى ما بعد طلوع الفجر، ولكن ليس لها تأخيره إلى طلوع الشمس، وهكذا الجنُب ليس له تأخير الغسل إلى ما بعد طلوع الشمس؛ بل يجب عليه أن يغتسل ويصلي الفجر قبل طلوع الشمس، ويجب على الرجل المبادرة بذلك حتى يدرك صلاة الفجر مع الجماعة.
ومن الأمور التي لا تفسد الصوم تحليل الدم، وضرب الإبر غير التي يقصد بها التغذية، لكن تأخير ذلك إلى الليل أولى وأحوط إذا تيسَّر ذلك؛ لقول النبي - صلَّى الله عليه وسَلَّم -: ((دع ما يَرِيبك إلى ما لا يَرِيبك)) [27]، وقوله - صلَّى الله عليه وسَلَّم -: ((من اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه)) [28]، متفق عليه.
ومن الأمور التي قد يخفى حكمها على بعض الناس: عدم الاطمئنان في الصلاة، سواء أكانت فريضة أم نافلة، وقد دلَّت الأحاديث الصحيحة عن رسول الله - صلَّى الله عليه وسَلَّم - على أن الطمأنينة ركن من أركان الصلاة، لا تصح الصلاة بدونها، وهي الركود في الصلاة، والخشوع فيها وعدم العجلة حتى يرجع كل فقار إلى مكانه، وكثير من الناس يصلي في رمضان صلاة التراويح، صلاة لا يعقلها ولا يطمئن فيها بل ينقرها نقرًا، وهذه الصلاة على هذا الوجه باطلة، وصاحبها آثم غير مأجور.
من الأمور التي قد يخفى حكمها على بعض الناس: ظن بعضهم أن التراويح لا يجوز نقصها عن عشرين ركعة، وظن بعضهم أنه لا يجوز أن يزاد فيها على إحدى عشرة ركعة أو ثلاث عشرة ركعة، وهذا كله ظن في غير محلِّه؛ بل هو خطأ مخالف للأدلَّة.
وقد دلَّت الأحاديث الصحيحة، عن رسول الله - صلَّى الله عليه وسَلَّم - على أن صلاة الليل موسع فيها، فليس فيها حد محدود، ولا تجوز مخالفته؛ بل ثبَت عن النبي - صلَّى الله عليه وسَلَّم - أنه كان يُصلِّي من الليل إحدى عشْرَةَ ركعةً؛ متفق عليه، وربما صلَّى - صلَّى الله عليه وسَلَّم - ثلاث عشرة، وربما صلَّى أقل من ذلك في رمضان وفي غيره، ولما سئل - صلَّى الله عليه وسَلَّم - عن صلاة الليل قال: ((مثنى مثنى، فإذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة واحدة توتر ما قد صلَّى))؛ متفق عليه.
ولم يحدد ركعات معينة لا في رمضان ولا في غيره؛ ولهذا صلى الصحابة - رضي الله عنهم - في عهد عمر - رضي الله عنه - في بعض الأحيان ثلاثًا وعشرين ركعة، وفي بعضها إحدى عشرة ركعةً، كل ذلك ثبت عن عمر - رضي الله عنه - وعن الصحابة في عهده [29].
وكان بعض السلف يصلي في رمضان ستًّا وثلاثين ركعة ويوتر بثلاث، وبعضهم يصلي إحدى وأربعين ركعة ذكر ذلك عنهم شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - وغيره من أهل العلم كما ذكر - رحمه الله - أن الأمر في ذلك واسع، وذكر أيضًا أن الأفضل لمن أطال القراءة والركوع والسجود أن يقلل العدد، ومن خفف القراءة والركوع والسجود زاد العدد، هذا معنى كلامه - رحمه الله - ومن تأمل سنته - صلَّى الله عليه وسَلَّم - علم أن الأفضل في هذا كله هو صلاة إحدى عشرة ركعة، أو ثلاث عشرة ركعة في رمضان وغيره؛ لكون ذلك هو الموافق لفعل النبي - صلَّى الله عليه وسَلَّم - في غالب أحواله؛ ولأنه أرفق بالمصلين وأقرب إلى الخشوع والطمأنينة، ومن زاد فلا حرج ولا كراهة كما سبق، والأفضل لمن صلَّى مع الإمام في قيام رمضان أن لا ينصرف إلا مع الإمام لقول النبي - صلَّى الله عليه وسَلَّم -: ((إن الرجل إذا قام مع الإمام حتى ينصرف كتب الله له قيام ليلة)) [30].
ويشرع لجميع المسلمين الاجتهاد في أنواع العبادة في هذا الشهر الكريم، من صلاة النافلة وقراءة القرآن بالتدبر والتعقُّل، والإكثار من التسبيح والتحميد، والتكبير والاستغفار والدعوات الشرعية، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله - عز وجل - ومواساة الفقراء والمساكين، والاجتهاد في بر الوالدين وصلة الرحم، وإكرام الجار، وعيادة المريض، وغير ذلك من أنواع الخير؛ لقوله - صلَّى الله عليه وسَلَّم - في الحديث السابق: ((ينظر الله إلى تنافسكم فيه فيباهي بكم ملائكته، فأروا الله من أنفسكم خيرًا، فإن الشقي من حرم فيه رحمة الله)).
ولقوله - صلَّى الله عليه وسَلَّم - في الحديث السابق: ((يا باغي الخير، أَقْبِلْ، ويا باغي الشر، أقصر)).
ولما رُوي عنه - صلَّى الله عليه وسَلَّم - أنه قال: ((مَن تقرَّب فيه بخصلة من خِصال الخير، كان كمَن أدَّى فريضَةً فيما سِواه، ومَن أدَّى فيه فريضة كان كمَن أدَّى سبعين فريضةً فيما سواه)) [31]، ولقوله - صلَّى الله عليه وسَلَّم - في الحديث الصحيح: ((عمرة في رمضان تعدِل حجة))، أو قال: ((حجة معي)) [32].
والأحاديث والآثار الدالة على شرعيَّة المسابقة والمنافسة في أنواع الخير في هذا الشهر الكريم كثيرة، والله المسؤول أن يوفقنا وسائرَ المسلمين لكل ما فيه رضاه، وأن يتقبل صيامنا وقيامنا ويصلح أحوالنا ويعيذنا جميعًا من مُضلاَّت الفتن، كما نسأله - سبحانه - أن يصلح قادة المسلمين ويجمع كلمتهم على الحق؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.