لا يعدو الوقت أن يكون هو الوقت، والزمان هو ذاته الزمان، فساعاتنا لا تتبدل، والأوقات تحتمي بلحظاتها المرتمية بداخلها، وإنما يَبين عند ذلك ما يختبئ خلف تلك اللحظات من دوافع ومرغبات تحفز المرء لأن يقبض على كل جزء منها باهتمام شديد، واندفاع من حديد، وهو يشعر حينها أن عمره يفرط منه، وأن ساعاته الأخيرة قد بدأت تلوح له في الأفق، فيهمُّ فيها بجدة ونشاط، ويجابهها بعزيمة متوقدة لاستثمار كل دقيقة منها، واستجلاب فوائدها والغايات التي يرومها، فلا نختلف في تقرير أن المرء يركن إلى الدعة حينًا، وإلى الأهبة والقوة حينًا آخر، وذلك بحسب علائق الأوقات من محفزات وبواعث تستنفر لها الطاقات بعنانها وكل حماسها.
ولا تزال أنفسنا تعيش وصلا من رياحين شهر رمضان الكريم، الذي غادرنا ولم يغادر قلوبنا، وإن كان قد غادر همم البعض فخارت معها العزائم ووهنت حيالها القوى، التي وقفت طوال ثلاثين يومًا في بحبوحة العبادة ومعين الطاعة، فكان رمضان لهم روضة تفيء إليها الأرواح، وتنقاد إليها النفوس طائعة باذلة، وكأن هذه الطاقات لن تستنهض قدرتها إلا في ثلاثين يومًا من أيام السنة كاملة، ولنرى العزائم كيف تتضعضع أمام مسكنات الأيام بعيدًا عن محفزاتها من مناسبات الخير والبر، حتى يظن المرء أن فعال الخير ووصال حبل الأرض بالسماء لا تتم إلا في مناسباتها الباعثة لها، ومرغباتها الدافعة إليها.
فارقنا رمضان وكانت النفوس فيه تواقة، والقلوب فيه رقراقة، والجباه فيه شاخصة، والأجساد معه وجلة واجفة، تنضح ببديع الأقوال، وتضوع بجميل الأفعال؛ حتى يتم صيام هذا الشهر وقيامه بأكمل وجوهه وأحسن صوره، لا سيما أنها مناسبة شهرية يفتر ثغر العام عنها مرة، ولتأمل النفس حيال ذلك كله أن يكون رمضان طول العام، وموصول الليل بالنهـار حتى تسعد فيه النفس، وتبرق بما تحوز فيه من الأجور والبركات، وما تبصر أمامها من حسن الأفعال والتصرفات.
وددت أن لم نخنق طاقاتنا، وتضيق عزائمنا، وتقف على مجرد مناسبات تكون حجر عثرة عن وصال فتوتها وحماستها، بل أن يصل من فورانها أن تصل القمة وتشمخ إلى الاحتذاء بسنة الهادي الأمين صلوات الله وسلامه عليه، الذي كان قوله وعمله، وليله ونهاره، بل وكل حياته في خضوع للواحد الديّان، فلا تختزل الجهود في ساعات دون ساعات، ولا يضيق نطاقها عن لحظات ولحظات، فلا فرق بين جدٍّ وهزل، ولا خير في قول يصدمه عمل، بل إن المرء يكون على جادة واحدة، واطراد مستمر في بذل الغاية والمهجة، فلا نجترّ مبادئ مادية فتنقسم أعمارنا في تناقضات مشوهة بأن نغمرها ساعات في الخير وبذله، وساعات في الوهن والتقصير، في حين غمره آخرون في الشر وعطنه.
إن التغيير المأمول والمنشود هو المصاحب لحافزه في كل وقت وكل حين، الموائم له في كل لحظاته، فلا تفتر حياله النفس وتختبئ تحت غطاء التسويف والتقصير، فتستجلب الهمة كل جوانبها في سبيل الاستمرارية واطراد قوتها في كل ساحة وميدان، وتنتظم مع كل وقت، فلا تغيب تحت ظرف زماني، ولا يناوشها فتور يقبع تحت سكون عاتم من الغايات والأهداف، برغم أن النفس ميالة لمحفزها وباعثها لما تصبو إليه، وإنما يكمن الحديث عن غايات سامية لا تغيب عن حَذِق يستشرف أقصى الغد بكل أبعاده، حينها لا تدخر الطاقات جهدًا من قوتها، ولا تختزلها في مناسبات دون أخرى، ولهذا كان سلفنا الصالح لا تثنيهم المناسبات عن بذل المهج واستنزاف الجهود في أوقاتهم وأدق أعمالهم، بل وكان عرى ارتباطها بالهمم السامقة وثيقًا جدًا، لا سيما وأن أمانيهم -وهي كذلك أمانينا- (ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر) [رواه البخاري].
وحتى وإن سكنت النفس عن اندفاعها فلا تغيب عن جادتها، ولا تنكص أعقابها عن درب بهي تسلكه كل حينها، بل يخمد سكونها تحت أضواء الخير وأنوار البركة.
فلا تقف النفس في ارتقاء همتها وصعود مراقي الفلاح تحت الانقياد لإطلالة مناسبة تتوثب معها لارتداء ثوب النشاط والهمة، فالأصـل أن تمضي على دربـها النافع والناجح طوال سويعاتها التي تقضيها في هذه الدنيا، فإن العمر قصير، والوقت أقصر بكثير، (وما عند الله خير وأبقى).