-عن ابن عباس - رضيَ الله عنهما - قال: "كان النَّبي - صلى الله عليه وسلم - أجود ما يكون في رمضان، حين يَلْقاه جبريل، فيُدَارسه القرآن - فَلَرَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - حين يلقاه جبريل أجود منَ الرِّيح المرسلة".
وَدَلَّ الحديث[1] أيضًا على استحبابِ دراسة القرآن في رمضان، والاجتماع على ذلك، وعَرْض القرآن على مَن هو أحفظ له، وفيه دليلٌ على استحبابِ الإكثار مِن تلاوة القرآن في شهر رمضان.
في حديثِ فاطمة - رضي الله عنها - عن أبيها - صلى الله عليه وسلم - أنه أخْبَرَهَا أنَّ جبريل - عليه السلام - كان يعارضُه القرآن كل عام مَرَّة، وأنه عارَضَه في سنة وفاتِه مَرَّتين.
وفي حديثِ ابن عباس: أنَّ المُدَارَسة بينه وبين جبريل - عليهما الصلاة السلام - كانتْ ليلاً، فدَلَّ على استحباب الإكثار منَ التلاوة في رمضان ليلاً، فإنَّ اللَّيل تنقطع فيه الشَّواغل وتجتمع فيه الهِمم، وَيَتَوَاطأ فيه القلب واللسان على التَّدَبُّر، كما قال - تعالى -: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلاً}[2].
وشهر رمضان له خصوصيَّة بالقرآن، كما قال - تعالى -: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ}[3]، وقد قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: إنه أُنْزِل جملةً واحدة منَ اللوح المحفوظ، إلى بيت العِزَّة في ليلة القدر، ويشهد لذلك قوله - تعالى -: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ}[4]، وقوله: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ}[5]، وقد سَبَق عن عبيد بن عمير أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم -: بدئ بالوحي ونزول القرآن عليه في شهر رمضان.
وفي "المسند" عن وَاثِلة بن الأسقع، عنِ النَّبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((نزلت صحف إبراهيم في أول ليلة من شهر رمضان، وأنزلت التَّوراة لستٍّ مضينَ من رمضان، وأنزل الإنجيل لثلاث عشرة من رمضان، وأنزل القرآن لأربع وعشرين خَلَت من رمضان)).
وكان النَّبي - صلى الله عليه وسلم - يُطيل القراءة في قيام رمضان باللَّيل، أكثر من غيره.
وقد صَلَّى معه حُذَيفة ليلة في رمضان، قال: فقرأ بـ"البقرة"، ثمَّ "النِّساء"، ثم "آل عمران"، لا يمرُّ بآيةِ تخويفٍ إلاَّ وقف وسَأَل، قال: فما صَلَّى الرَّكعتينِ حتى جاءَه بلال فآذنه بالصَّلاة؛ خرجه الإمام أحمد؛ وخَرَّجه النَّسائي، وعنده: أنه ما صلى إلاَّ أربع ركعات[6].
وكان عمر قد أَمَر أُبَي بن كعب، وَتَمِيمًا الدَّاري، أن يقوما بالنَّاس في شهر رمضان، فكان القارئ يقرأ بالمائتينِ في ركعة، حتى كانوا يعتمدونَ على العصي من طول القيام، وما كانوا ينصرفون إلاَّ عند الفجر[7]. وفي رواية: أنَّهم كانوا يربطونَ الحبال بين السواري، ثمَّ يَتَعَلَّقُون بها.
ورُويَ أنَّ عمر جمع ثلاثة قُرَّاء، فأمر أسرعهم قراءة أن يقرأَ بالناس ثلاثين، وأوسطهم بخمس وعشرين، وأبطأهم بعشرينَ.
ثم كان في زمن التابعين يَقْرَؤُون بـ"البقرة" في قيام رمضان في ثماني ركعاتٍ، فإن قرأ بها في اثنتي عشرة ركعة، رأوا أنه قد خَفَّف.
قال ابن منصور: سُئِل إسحاق بن راهويه: كم يقرأ في شهر رمضان؟ فلم يرخص في دون عشر آيات، فقيلَ له: إنهم لا يرضون، فقال: لا رضوا، فلا تؤمنهم إذا لم يرضوا بعشر آيات من (البقرة)؛ يعني في كل ركعة.
وكذلك كَرِه مالك أن يقرأ دون عشر آيات.
وسُئِل الإمام أحمد عَمَّا رُوي عن عمر؛ كما تقدم ذكره في السَّريع القراءة، والبطيء، فقال: في هذا مَشَقَّة على الناس، ولا سِيَّما في هذه اللَّيالي القصار، وإنَّما الأمر على ما يحتمله النَّاس.
وقال أحمد لِبَعْض أصحابه، وكان يُصَلِّي بهم في رمضان: هؤلاءِ قومٌ ضُعَفاء، اقرأ خمسًا، ستًّا، سبعًا، قال: فقرأت، فَخَتَمْتُ ليلة سبع وعشرين.
وَقَد رَوَى الحَسَن: أنَّ الذي أَمَره عمر أن يُصَلِّي بالناس، كان يقرأ خمس آيات، ست آيات، وكلام الإمام أحمد يدل على أنَّه يُرَاعى في القراءة حال المَأْمومينَ، فلا يشقّ عليهم.
وقاله أيضًا غيره منَ الفقهاء من أصحاب أبي حنيفة، وغيرهم.
وقد روي عن أبي ذر: أنَّ النَّبي - صلى الله عليه وسلم - قام بهم ليلة ثلاث وعشرين، إلى ثلث الليل، وليلة خمس وعشرين إلى نصف الليل، فقالوا له: لو نَفَّلْتَنَا بَقِيَّة ليلتنا، فقال: ((إنَّ الرَّجل إذا صَلَّى مع الإمام حتى ينصرفَ، كُتِبَ له بقيَّة ليلته))؛ خرجه أهل "السُّنن"، وحسنه الترمذي.
وهذا يدل على أنَّ قيام ثلث الليل يكتب به قيام ليلة؛ لكن مع الإمام.
وكان الإمام أحمد يأخذ بهذا الحديث، ويُصَلِّي مع الإمام حتى ينصرفَ، ولا ينصرفُ حتى ينصرفَ الإمام.
وقال بعض السَّلَف: مَن قام نصف الليل، فقد قامَ اللَّيل.
وفي "سُنَن أبي داود"، عن عبدالله بن عمرو عنِ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((مَن قام بعشر آيات لَمْ يُكْتَبْ مِنَ الغافلين، ومَن قام بمائة آية كُتِبَ منَ القانتين، ومَن قام بألف آية كتب منَ المقنطرين))؛ يعني: أن يكتبَ له قنطار منَ الأجر.
ويُرْوَى من حديث تميم وأنس مرفوعًا: "مَن قرأ بمائة آية في ليلة، كتب له قيام ليلة"، وفي إسنادهما ضَعف، وروي حديثُ تميم موقوفًا عليه، وهو أصح.
وعن ابن مسعود قال: مَن قرأ في ليلة خمسين آية لَمْ يكتبْ مِنَ الغافلينَ، ومَن قَرَأَ مائة آية كُتِب منَ القانتينَ، ومَن قرأ ثلاثمائة آية كتب له قنطار، ومن أراد أن يزيدَ في القراءة ويطيل - وكان يُصَلِّي لنفسه - فليطول ما شاء؛ كما قاله النَّبي - صلى الله عليه وسلم - وكذلك مَن صَلَّى بِجَماعة يرضون بِصَلاته.
وكان بعضُ السَّلَف يختم في قيام رمضان في كُلِّ ثلاث ليال، وبعضهم في كلِّ سبع، منهم قتادة، وبعضهم في كلِّ عشرة، منهم أبو رجاء العطاردي.
وكان السَّلَف يَتْلُون القرآن في شهر رمضان في الصلاة، وغيرها، كان الأسود يقرأ القرآنَ في كلِّ لَيْلَتينِ في رمضان، وكان النَّخَعِي يفعل ذلك في العشر الأواخر منه خاصَّة، وفي بقيَّة الشهر في ثلاث.
وكان قتادة يَخْتِم في كل سَبْع دائمًا، وفي رمضان في كلِّ ثلاث، وفي العَشْر الأواخر كل ليلة.
وكان للشَّافعي في رمضان سِتُّون ختمة يقرؤها في غير الصلاة، وعن أبي حنيفة نحوه، وكان قتادة يَدْرس القرآن في شهر رمضان، وكان الزُّهْرِي إذا دَخَل رمضان قال: فإنَّما هو تلاوة القرآن، وإطعام الطَّعام.
قال ابن عبدالحكم: كان مالك إذا دَخَل رمضان يفِرُّ مِن قراءة الحديث، ومُجَالَسة أهل العلم، وأقبل على تِلاوة القرآن منَ المُصْحف.
وقال عبدالرَّزَّاق: كان سُفْيان الثَّوْري إذا دَخَل رمضان، تَرَك جميع العِبادة، وأقْبل على قراءة القرآن.
وكانت عائشة - رضي الله عنها - تَقْرأ في المصحف أول النهار في شهر رمضان، فإذا طَلَعتِ الشَّمس نامَتْ.
وقال سفيان: كان زُبَيْد اليَامِي[8] إذا حَضَر رمضان، أحضر المَصَاحف، وجَمَع إليه أصحابه.
وإنَّما وَرَد النَّهيُ عن قِرَاءة القرآن في أقل مِن ثلاث على المُدَاوَمة على ذلك؛ فأمَّا في الأوقات المُفَضَّلة؛ كشهر رمضان، خصوصًا الليالي التي يطلب فيها ليلة القدر، أو في الأماكنِ المُفَضَّلة؛ كمكة لِمَن دخلها من غير أهلها، فيُسْتَحَبُّ الإكثار فيها مِن تلاوة القرآن؛ اغتنامًا للزَّمان والمكان، وهو قولُ أحمد، وإسحاق، وغيرهما منَ الأئمَّة، وعليه؛ يدل عمل غيرهم كما سبق ذكره.
واعلم أنَّ المؤمن يجتمع له في شهر رمضان جِهَادان لنفسه: جهاد بالنَّهار على الصيام، وجهاد باللَّيل على القيام، فمَن جمع بين هذين الجهادين، وَوَفَّى بحقوقهما، وصَبَرَ عليهما، وُفِّي أجره بغير حساب.
قال كعب: يُنادي يوم القيامة منادٍ: إنَّ كلَّ حارث يعطى بحرثه ويزاد، غير أن أهل القرآن والصيام يعطون أجورهم بغير حساب، ويشفعان له أيضًا عند الله - عَزَّ وَجَلَّ - كما في "المسند"، عن عبدالله بن عمرو، عن النَّبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((الصِّيام والقُرآن، يشفعان للعبد يوم القيامة، يقول الصيام: ربِّ مَنَعْته الطَّعام والشراب بالنهار، ويقول القرآن: منعته النَّوم باللَّيل، فَشَفّعني فيه، فيشفعان)).
فالصِّيام يشفع لِمَن منعه الطَّعام والشَّهَوات المُحَرَّمة كلها، سواء كان تحريمها يختص بالصِّيام، كشَهوة الطعام، والشَّراب، والنِّكاح، ومقدماتها، أو لا يختص به، كشهوة فضول الكلام المُحَرَّم، والسَّماع المحرم، والنَّظَر المُحَرَّم، والكَسْب المُحَرَّم، فإذا منعه الصيام مِن هذه المحرمات كلها، فإنه يشفع له عند الله يوم القيامة، ويقول: ياربِّ، منعته شهواته، فشَفِّعني فيه، فهَذا لِمَن حفظ صيامه، ومنعه من شهواته، فأمَّا مَن ضَيَّع صيامَه، ولم يمنعه عمَّا حَرَّمَهُ الله عليه، فإنه جديرٌ أن يضرب به وجه صاحبه، ويقول له: ضَيَّعَكَ الله كما ضَيَّعْتَنِي، كما وَرَد مثل ذلك في الصَّلاة.
قال بعض السَّلَف: إذا احتضر المؤمن يُقال لِلْملك: شم رأسه، قال: أجد في رأسه القرآن، فيقال: شم قلبه، فيقول: أجد في قلبه الصيام، فيقال: شم قدميه، فيقول: أجد في قدميه القيام، فيقال: حفظ نفسه، حفظه الله - عز وجل.
وكذلك القرآن إنَّما يشفع لِمَن منعه منَ النَّوم بالليل، فإن مَن قَرَأ القرآن وقام به، فقد قام بحقِّه؛ فيشفع له.
وقد ذكر النَّبي - صلى الله عليه وسلم - رجلاً فقال: ((ذاك لا يتوسد القرآن))؛ يعني لا ينام عنه، فيصير له كالوسادة.
وخرج الإمام أحمد، من حديث بُرَيْدة مرفوعًا: "إنَّ القرآن يلقى صاحبه يوم القيامة، حتى ينشق عنه قبره، كالرجل الشاحب، فيقول: هل تعرفني؟ أنا صاحبكَ الذي أظمأتُكَ في الهَوَاجِر، وأسهرتُ ليلكَ، وكل تاجِرٍ من رواء تجارته، فيُعْطَى المُلْك بِيَمِينه، والخلد بشماله، ويوضع على رأسه تاج الوَقار، ثم يقال له: اقْرأ، واصعد، في درج الجنة وغرفها، فهو في صعود ما دام يقرأ هَذًّا كان، أو ترتيلاً".
وفي حديث عُبادة بن الصامت، الطويل: أنَّ القرآن يأتي صاحبه في القبر، فيقول له: أنا الذي كنت أسهر ليلكَ، وأظمئ نهارك، وأمنعك شهوتك، وسمعك وبصرك، فستجدني منَ الأَخِلاَّء خليل صدق، ثم يصعد فيسأل الله له فِرَاشًا ودثارًا، فيُؤْمَر له بفراشٍ منَ الجَنَّة، وقنديل منَ الجنَّة، وياسمين منَ الجنَّة، ثم يدفع القرآن في قبلة القبر، فيوسع عليه ما شاء الله مِن ذلك".
قال ابن مسعود: ينبغِي لقارئ القرآن أن يُعْرَف بِلَيْلِه إذا الناس ينامون، ونهاره إذا الناس يفطرون، وببكائه إذا الناس يضحكون، وبِوَرَعه إذا الناس يخلطون، وبِصَمْته إذا الناس يخوضون، وبِخُشوعه إذا الناس يَخْتالون، وبِحُزنه إذا الناس يفرحون.
قال محمد بن كعب[9]: كنا نعرف قارئ القرآن بِصُفرة لونه، يشير إلى سَهَره، وطول تَهَجُّده.
قال وهيب بن الورد[10]: قيل لرجل: ألا تنام؟ قال: إنَّ عجائب القرآن أطرن نَوْمي، وصحب رجل رجلاً شهرين، فلم يره نائمًا، فقال: مالي لا أراك نائمًا؟ قال: إنَّ عجائب القرآن أطرن نومي، ما أخرج من أعجوبة إلاَّ وقَعْتُ في أخرى.
قال أحمد ابن أبي الحواري[11]: إنِّي لأقرأ القرآن، وأنظر في آية فيحير عقلي بها، وأعجب من حُفَّاظ القرآن، كيف يهنيهم النوم، ويسعهم أن يشتغلوا بشيء منَ الدنيا، وهم يتلون كلام الله، أما إنهم لو فهموا ما يتلون، وعرفوا حقه، وتَلَذَّذوا به، واستحلوا المناجاة به، لذهب عنهم النوم فرحًا بما قد رزقوا[12].
أنشد ذو النون المصري:
مَنَعَ القُرَانُ بِوَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ مُقْلَ العُيُونِ بِلَيْلِهَا لاَ تَهْجَعُ
فَهِمُوا عَنِ المَلِكِ العَظِيمِ كَلاَمَهُ فَهْمًا تَذِلُّ لَهُ الرِّقَابُ وَتَخْضَعُ
فأمَّا مَن كان معه منَ القرآن فنامَ بالليل، ولم يعملْ به بالنهار، فإنَّه ينتصب القرآن خصمًا له، يطالبه بحقوقه التي ضَيَّعَها.
وخرج الإمام أحمد من حديث سمرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى في منامِه رجلاً مستلقيًا على قفاه، ورجل قائمٌ بيده فهر[13] أو صخرة، فيشدخ به رأسه، فيتدهده[14] الحجر، فإذا ذهبَ ليأخذه عاد رأسه كما كان، فيصنع به مثل ذلك، فسأل عنه، فقيل له: هذا رجل آتاه الله القرآن، فنامَ عنه بالليل، ولم يعمل به بالنهار، فهو يفعل به ذلك إلى يوم القيامة؛ وقد خرجه البخاري بغير هذا اللفظ.
وفي حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((يمثل القرآن يوم القيامة رجلاً، فيؤتى بالرجل قد حمله، فخالف أمره، فيمثل له خصمًا، فيقول: يا ربِّ حملته إياي، فبئس حامل تعدى حدودي، وضيع فرائضي، وركب معصيتي، وترك طاعتي، فلا يزال يقذف عليه بالحجج حتى يقال: شأنك به، فيأخذ بيده فما يرسله حتى يكبه على منخره في النار، ويؤتى بالرجل الصالح كان قد حمله، وحفظ أمره، فيمثل خصمًا دونه، فيقول: يا رب حملته إياي، فخير حامل، حفظ حدودي، وعمل بفرائضي، واجتنب مَعصيتي، واتبع طاعتي، فلا يزال يقذف له بالحجج حتى يقال: شأنك به، فيأخذ بيده فما يرسله حتى يلبسه حلة الإستبرق، ويعقد عليه تاج الملك، ويسقيه كأس الخمر)).
يا مَن ضَيَّع عمره في غير الطاعة، يا مَن فَرَّط في شهره؛ بل في دهره وأضاعه، يا مَن بضاعته التسويف والتفريط، وبئست البضاعة، يا مَن جعل خصمه القرآن وشهر رمضان، كيف ترجو ممن جعلته خصمك الشفاعة.
وَيْلٌ لِمَنْ شُفَعَاؤُهُ خُصَمَاؤُهُ وَالصُّورُ فِي يَوْمِ القِيَامَةِ يُنْفَخُ
رُبّ صائم حظه من صيامه الجوع والعطش، وقائم حَظّه من قيامه السَّهر، كل قيام لا يَنْه عن الفَحْشاء والمنكر لا يزيد صاحبه إلاَّ بُعْدًا، وكل صيام لا يُصان عن قول الزُّور والعمل به، لا يورث صاحبه إلاَّ مَقْتًا وردى، يا قوم أين آثار الصيام، أين أنوار القيام.
إِنْ كُنْتَ تَنُوحُ يَا حَمامَ البَانِ لِلْبَيْنِ أَيْنَ شَوَاهِدُ الأَحْزَانِ
أَجْفَانُكَ لِلدُّمُوعِ أَمْ أَجْفَانِي لاَ تُقْبَلُ دَعْوى بِلا بُرْهَانِ
هذا - عبادَ الله - شهر رمضان، الذي أُنْزل فيه القرآن، وفيه بقيته للعبادين مستمتع، وهذا كتاب الله يُتْلى فيه بين أظهركم ويسمع، وهو القرآن الذي لو أنزل على جبل لرأيته خاشعًا يَتَصَدَّع، ومع هذا فلا قَلْب يخشع، ولا عين تدمع، ولا صيام يُصان عنِ الحرام فينفع، ولا قيام استقام فيرجى لصاحبه أن يشفع، قلوب خَلَت منَ التقوى فهيَ خراب بلقع[15]، وتراكمتْ عليها ظلمة الذنوب، فهي لا تبصر ولا تسمع.
كم تتلى علينا آيات القرآن، وقلوبنا كالحجارة أو أشد قسوة، وكم يتوالى علينا شهر رمضان، وحالنا فيه كحال أهل الشقوة، ولا الشاب منا ينتهي عنِ الصبوة، ولا الشيخ منَّا يَنْزَجر عن القبيح فيلتحق بالصفوة، أين نحن من قوم، إذا سمعوا داعي الله أجابوا الدعوة، وإذا تليت عليهم آيات الله وجلت قلوبهم، وجلتها جلوة؛ وإذا صاموا صامت منهم الألسنة والأسماع والأبصار، أفما لنا فيهم أسوة؟ كم بيننا وبين أهل الصفا؟ بيننا أبعد مما بيننا، وبين الصفا والمروة[16]، كلما حسنت منَّا الأقوال، ساءت منا الأعمال، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وحسبنا الله.
يَا نَفْسُ فَازَ الصَّالِحُونَ بِالتُّقَى وَأَبْصَرُوا الحَقَّ وَقَلْبِي قَدْ عَمِ
يَا حُسْنَهُمْ وَاللَّيْلُ قَدْ جَنَّهُمُ وَنُورُهُمْ يَفُوقُ نُورَ الأَنْجُمِ
تَرَنَّمُوا بِالذِّكْرِ فِي لَيْلِهِمُ فَعَيْشُهُمْ قَدْ طَابَ بِالتَّرَنُّمِ
قُلُوبُهُمْ بِالذِّكْرِ قَدْ تَفَرَّغَتْ دُمُوعُهُمْ كَلُؤْلُوءٍ مُنْتَظِمِ
أَسْحَارُهُمْ بِهِمْ لَهُمْ قَدْ أَشْرَقَتْ وَخلعُ الغُفْرَانِ خَيْر القَسَمِ
وَيْحَكِ يَا نَفْسُ أَلاَ تَيَقّظ يَنْفَعُ قَبْلَ أَنْ تَزِلَّ قَدَمِي
مَضَى الزَّمانُ فِي تَوَانٍ وَهَوًى فَاسْتَدْرِكِي مَا قَدْ بَقِي وَاغْتَنِمِي
[1] يقصد حيث الصَّحيحينِ عن ابن عباس - رضيَ الله عنهما - قال: "كان النَّبي - صلى الله عليه وسلم - أجود ما يكون في رمضان، حين يَلْقاه جبريل، فيُدَارسه القرآن - فَلَرَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - حين يلقاه جبريل أجود منَ الرِّيح المرسلة".
[2] سورة المزمل الآية 6.
[3] سورة القدر الآية 1.
[4] سورة البقرة الآية 185.
[5] سورة الدخان الآية 3.
[6] يُلاحَظُ أنَّ النَّبي - صلى الله عليه وسلم - قَدَّمَ "النِّساء" على "آل عمران"، وهذا أحق بالاتِّباع منَ الذين أَوْجَبُوا متابعة القراءة في الصلاة، حسب تَرْتيب المُصْحَف.
[7] إذا كان الإمام في التَّراويح بعهد عمر، يقرأ في الرَّكعة مائتي آية، ويطيل القِيَام والركوع والسجود، فكَيف تكون التَّراويح أكثر من ثماني ركعات؟! وانظر رسالة "صلاة التَّراويح"، طبع المكتب الإسلامي.
[8] هو أبو عبدالرحمن، زبيد بن الحارث بن عمرو بن كعب اليامي الكُوفي، ثقة ثَبْت عابِد، روى له الجماعة، توفِّي سنة 122 هـ.
[9] هو أبو حمزة القرظي التابعي المدني، من أهل العِلْم والرِّواية، قالوا عنه: ما كان أحدٌ أعلم بتأويل القرآن منه، وكان يقص في المسجد، فوقع عليهم السّقف، ومات سنة 118.
[10] هو عبدالوهاب بن الورد المخزومي بالولاء، أبو أمية، تابعي، متعبد، معروف بالحكمة والأدب، كان الإمام سفيان الثوري يسميه: الطيب، عاش وتوفي في مكة سنة 153هـ، وصغر اسمه وعرف بـ"مهيب".
[11] هو أحمد بن عبدالله بن ميمون بن أبي الحواري، التغلبي، منَ الزُّهاد، وكان ثقة في الحديث، مات سنة 146هـ.
[12] ولو شهد ما نعهده من أكثر القُرَّاء الآن، مِن اهتمام بالإلحان، وجعل القرآن مزامير وغناء، وأخذ الأجور على التلاوة، وارتكاب المخالفات!! فماذا يقول؟!
[13] الفهر: الحجر الذي يملئ الكف، ويكون رقيقًا.
[14] أي: يتدحرج.
[15] البلقع: المكان المقفر الخالي من كل خير.
[16] الصفا والمروة في مكة، وهو يقول هذا في دمشق للدلالة على بعد المسافة.