عن أبي هريرة - رضيَ الله عنه - قال: قال رسول الله - صَلَّى الله عليه وسَلَّم -: ((أتاكم رمضان شهر مبارك، فرض الله - عَزَّ وَجَلَّ - عليكم صيامه، تفتح فيه أبواب السَّماء، وتغلق فيه أبواب الجحيم، وتغلّ فيه مَرَدَة الشَّياطين، لله فيه ليلة خير من ألف شهر، مَن حرم خيرها فقد حرم))؛ رواه أحمد، والنسائي، وإسناده صحيح[1].
في هذا الحديث بشارة لعباد الله الصَّالحين بقُدوم شهر رمضان المبارك؛ لأنَّ النَّبيَّ - صَلَّى الله عليه وسَلَّم - أخبر الصَّحابة - رضيَ الله عنهم - بقُدومه، وليس هذا إخبارًا مجردًا؛ بل معناه بشارتهم بمَوسم عظيم، يقدره حق قدره الصَّالحون المُشَمرون؛ لأنَّه - صَلَّى الله عليه وسَلَّم - بَيَّنَ فيه ما هَيَّأَ الله لعباده من أسباب المغفرة والرضوان وهي أسباب كثيرة، فمَن فاتته المغفرة في رمضان فهو مَحروم غاية الحرمان.
وإنَّ من فضل الله تعالى ونعمه العظيمة على عباده، أن هَيَّأَ لهم المواسمَ الفاضلة لتكون مغنمًا للطائعين، وميدانًا لتنافس المُتَنافسين؛ وإنَّ المواسمَ موضوعة لبُلُوغ الأمل بالاجتهاد في الطاعة، ورفع الخلل والنقص بالاستدراك والتوبة، "وما من هذه المواسم الفاضلة موسم إلاَّ ولله تعالى فيه وظيفة من وظائف طاعاته يُتَقَرَّب بها إليه، ولله لطيفة من لطائف نفحاته، يصيب بها من يشاء بفضله ورحمته، فالسَّعيد مَن اغْتَنَمَ مواسم الشُّهور والأَيَّام والسَّاعات، وتقرب فيها إلى مولاه بما فيها من وظائف الطاعات، فعسى أن تُصيبَه نفحةٌ من تلك النَّفَحات. فيسعد بها سعادةً يأمَنُ بعدها منَ النَّار وما فيها منَ اللَّفَحات"[2].
وإنَّ بلوغَ رمضان نعمة عظيمة على مَن بلغه وقام بحقه. فقام ليله وصام نهاره، ورجع فيه إلى مولاه من معصيته إلى طاعته، ومنَ الغفلة عنه إلى ذكره، ومنَ البُعد عنه إلى الإنابة إليه.
وإنَّ واجبَ المُسلم استِشْعار هذه النِّعمة، ومعرفة قدرها، فإن كثيرًا منَ النَّاس حُرِموا الصيام إمَّا بموتهم قبل بلوغه، أو بعجزهم عنه، أو بضلالهم وإعراضهم عنه، فليحمد الصائم ربَّه على هذه النِّعمة، ويستقبل شهره بالفَرَح والاغتباط بموسم عظيم من مواسم الطاعة، وأن يجتهد في أعمال الخير، وأن يدعو الله تعالى أن يرزقه صيامه وقيامه، وأن يرزقه فيه الجد والاجتهاد والقوة والنَّشَاط، وأن يوقظه من رقدة الغفلة ليغتنم مواسم الطاعات والخيرات.
ومنَ المُلاحَظ أنَّ الإنسانَ يُعَان على الطاعات في رمضان، فعليه أن يشكرَ ربَّه ويستفيد من وقته.
ومما يُؤسَف عليه أنَّ كثيرًا منَ النَّاس لا يعرفونَ لمواسم الخيرات قيمة. ولا يرون لها حرمة، فلم يكن شهر رمضان موسم طاعةٍ وعبادة وتلاوة قرآن وصدقة وذكر الله تعالى؛ بل كان عند بعض الناس مَوسِمًا لتنويع المآكل والمَشَارب. وإشغال رَبَّات البيوت بصنوف الأطعمة، وبعض الناس لا يعرفون رمضان إلاَّ أنَّه شهر السَّهَر بالليل، والنَّوم بالنَّهار، حتى إنَّ منهم من يَنَام عن الصَّلَوات المفروضة فلا يُصَلِّي مع الجماعة، بل ولا في وقت الصلاة.
وفئة من الناس لا يعرفون رمضان إلاَّ أنَّه موسم من مواسم الدُّنيا، لا من مواسم الآخرة. فينشطون فيه على البَيع والشِّراء، ويلازمون الأسواق ويهجرون المساجد وإن صلَّوْا مع الناس فَهُم على عجل، وهكذا تَغَيَّرَت المفاهيم، وفسدت الموازين... فالله المستعان، يقول بعض السَّلَف: "إنَّ اللهَ تعالى جعل شهر رمضان مِضْمارًا[3] لخلقه يستبقون فيه بطاعته إلى مرضاته. فسبق قوم ففازوا، وتَخَلَّفَ آخرون فخابوا"[4].
وما يُدْري الإنسان فلَعَلَّ هذا الشَّهر هو آخر رمضان في عمره. فكم صامَ معنا العام الماضي منَ الرِّجال والنساء والشَّباب؟ وهم الآن تحت أطباق الثَّرى، مرتهنون بأعمالهم، وقد أمَّلوا صيام رمضانات عديدة، ونحن على دربهم سائرونَ، فَعَلى المسلم أن يفرحَ بمواسم الطاعة ولا يفرط فيها؛ بل يشتغل بما يدوم نفعه، ويبقى أثره، وما هي إلاَّ أيام معدودات تصام تباعًا، وتنقضي سراعًا.
اللهُمَّ اجعل التَّقوى لنا أربح بضاعة، ولا تجعلنا من أهل التفريط والإضاعة، وآمن خوفنا يوم تقوم الساعة، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين، وصَلَّى الله وسلَّم على نبينا محمد.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] رواه أحمد (9/225، 226 "الفتح الرباني")، والنسائي (4/129)، انظر: تحقيق أحمد شاكر للمسند رقم (7148) وصحيح "الترغيب" للألباني (1/ 490)، و"تمام المنة" ص395.
[2] من كلام ابن رجب في "اللطائف" ص8.
[3] قال في "القاموس": (المضمار: الموضع تُضمَّر فيه الخيل، وغاية الفرس في السباق) ا. هـ، "ترتيب القاموس (3/37)".
[4] "لطائف المعارف" ص246.