الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وبعد:
فإنَّ الخالق لجميع المخلوقات - جل وعلا - قد فَضَّلَ بعضها على بعض، واختار منها ما شاء، فخلق الناس واختار منهم الأنبياء، وخلق الأماكن واختار منها المساجد، وخلق الشهور واختار منها رمضان، قال تعالى: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [القصص: 68].
وهذا (الشهر) قد خصه الله - عز وجل - بخصائص، من أعظمها وأجلها: أن الله تعالى أنزل فيه هذا القرآن العظيم هُدًى للناس وبينات، قال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: 185].
قال بعض أهل العلم: إن الله - تبارك وتعالى - عَقَّبَ بالفاء السببية التي تفيد التعليل؛ ليبين أن سبب اختيار رمضان ليكون شهر الصوم هو إنزال القرآن فيه، قال تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر: 1].
ومن المعلوم أن ليلة القدر في رمضان، فينبغي للمسلم أن يكثر من قراءة القرآن في هذا الشهر المبارك.
فعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: "كَان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فلَرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجود بالخير من الريح المُرْسَلَة"[1].
ومنها أنه تفتح فيه أبواب الجنان، وتغلق فيه أبواب النيران، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إِذَا كَانَ أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، صُفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ وَمَرَدَةُ الْجِنِّ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النِّيرانِ فَلَمْ يُفْتَحْ مِنْهَا بَابٌ، وَفُتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ فَلَمْ يُغْلَقْ مِنْهَا بَابٌ، وَيُنَادِي مُنَادٍ يَا بَاغِيَ الْخَيْرِ أَقْبِلْ، وَيَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ، وَلِلَّهِ عُتَقَاءُ مِنْ النَّارِ، وَذَلكَ كُلَّ لَيْلَةٍ فِي رَمَضَانَ))[2].
ومنها أن فيه ليلةً خير من ألف شهر؛ كما قال تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر: 2: 3].
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((مَنْ قَامَ لَيْلَةَ القَدْرِ إيمانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ))[3].
والمقصود من هذه الخيريَّة أنَّ العَمَلَ الصالح في هذه اللَّيْلَةِ أفضل من العمل ألفَ شهر.
ومنها: استجابة الدعاء فيه، عن أبي سعيد الخُدْرِيّ - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إِنَّ للهِ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ عُتَقَاءَ مِنَ النَّارِ – يعني في رمضانَ - وَإِنَّ لِكُلِّ مُسْلِمٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ دَعْوَةً يَدْعُو بِهَا، فَيُسْتَجَابُ لَهُ))[4].
ومنها: أن خلوف فم الصائم، أطيب عند الله من ريح المسك.
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يُضَاعَفُ، الحَسَنَةُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا إِلَى سُبْعَمائة ضِعْفٍ، قال الله - عز وجل -: "إلاَّ الصَّوْمَ فإِنَّه لِي، وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، يَدَعُ شَهْوَتَهُ وطَعَامَهُ مِنْ أَجْلِي. لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ: فَرْحَةٌ عِنْدَ فِطْرِهِ؛ وَفَرْحَةٌ عِنْدَ لِقَاءِ رَبِّهِ، وَلَخُلُوفُ فِيهِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللهِ مِنْ رِيحِ المِسْكِ))[5].
ومنها: فضل الاعتمار فيه، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لامرأة من الأنصار يقال لها أم سنان: ((مَا مَنَعَكِ أنْ تَكُونِي حَجَجْتِ مَعَنَا، قالت: "ناضحان كانا لأبي فلان - زوْجها - حج هو وابنه على أحدهما، وكان الآخر يسقي عليه غلامنا"، قال: ((فَعُمْرَةُ رَمَضَانَ تَقْضِي حَجَّةً أَوْ حَجَّةً مَعِي))[6].
ومنها تكفير الخطايا والسيئات، فعن مالك بن الحسن بن مالك بن الحويرث عن أبيه عن جده قال: "صعِدَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المنبر فلما رقي عتبة، قال: ((آمِين))، ثم رقي عتبة أخرى، فقال: ((آمين))، ثم رقي عتبة ثالثة، فقال: ((آمين))، ثم قال: ((أَتَانِي جِبْرِيلُ، فَقَال: يَا مُحَمَّدُ مَنْ أَدْرَكَ رَمَضَانَ، فَلَمْ يُغْفَرْ لَهُ فَأَبْعَدَهُ اللهُ، قُلْتُ: آمِين، قال: وَمَنْ أَدْرَكَ وَالِدَيْهِ أَوْ أَحَدَهُمَا فَدَخَلَ النَّارَ، فَأَبْعَدَهُ اللهُ آمِين، فَقَالَ: وَمَنْ ذُكِرْتَ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْكَ فَأَبْعَدَهُ اللهُ، قُلْ: آمِين، فَقُلْتُ: آمِين))[7].
وَعَنْ أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال - صلى الله عليه وسلم -: ((مَنْ قَامَ لَيْلَةَ القَدْرِ إيمانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ، وَمَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ))[8].
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال - عليه الصلاة والسلام -: ((مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إيمانًا واحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ))[9].
ومعنى إيمانًا واحتسابًا في الحديثَيْن السابقين أي مصدقًا بفرضية الصيام، وراغبًا في ثوابه، طيبة نفسه بالصيام، غير كاره لصيامه ولا مستثقل لقيامه، وبعض الناس يصوم ويقوم عادة؛ لأنه رأى الناس يفعلون ذلك، وهذا خطأ، فإنه لا تُنَال هذه الأجور العظيمة إلا بإخلاص وابتغاء ثواب الله وجزائه.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
ـــــــــــــــــــــــــــ
[1] صحيح البخاري (1/16) برقم (6). وصحيح مسلم (4/1803) برقم (2308).
[2] سنن الترمذي (3/67) برقم (682).
[3] صحيح البخاري (2/31) برقم (1901)، وصحيح مسلم (1/523) برقم (759).
[4] كشف الأستار (1/457-458) برقم (962)، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (ص419).
[5] صحيح البخاري (2/31) برقم (1904)، وصحيح مسلم (2/807) برقم (1151).
[6] صحيح البخاري (1/539) برقم (1782)، ومسلم (2/917) برقم (1256).
[7] صحيح ابن حبان (2/140) برقم (409).
[8] صحيح البخاري (2/31) برقم (1901). وصحيح مسلم (1/523) برقم (759).
[9] صحيح البخاري (2/60) برقم (2009). وصحيح مسلم (1/523) برقم (759).