بقلم الأستاذة: حفان مليكة
تقديم:
بعد أن تمت بيعة العقبة الثانية، ونجح الإسلام في تأسيس وطن له وسط صحراء تموج بالكفر والجهل- وهو أعظم مكسب حصل عليه الإسلام منذ بداية دعوته - وبعد أن اشتد أذى قريش للمؤمنين بمكة، أذن النبي صلى الله عليه وسلم للمسلمين بالهجرة إلى المدينة فخرجوا أرسالا (أفرادا وجماعات مهاجرين) ولم يبق منهم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعلي أو معذب محبوس أو مريض أو ضعيف لا يستطيع الخروج.
وقد كان أهل المدينة خير ناصر فقد آووا المهاجرين في بيوتهم وواسوهم ونصروهم، وقدموا المثل الصادق للأخوة الإسلامية والمحبة في الله عز وجل، وقد مرت الدعوة الإسلامية في المدينة بثلاث مراحل:
أولا: مرحلة أثيرت فيها القلاقل والفتن من الداخل، وزحف الأعداء من الخارج، لاستئصال المسلمين، وتنتهي هذه الفترة بعد صلح الحديبية، في سنة ست من الهجرة.
ثانيا: فترة الهدنة مع المشركين، وتنتهي بفتح مكة سنة ثمان للهجرة، وفيها كانت دعوة الملوك إلى الإسلام.
ثالثا: فترة دخول الناس في دين الله أفواجا، وتمتد هذه الفترة إلى انتهاء حياة الرسول صلى الله عليه وسلم سنة إحدى عشر للهجرة.
1- هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم:
لما رأى كفار قريش أصحاب رسول الله صلى عليه وسلم قد فروا بدينهم إلى المدينة، أخذ القلق يساورهم بشكل لم يسبق له مثيل، فقد تجسد أمامهم الخطر الحقيقي العظيم الذي يهدد كيانهم الوثني والاقتصادي، فقد كانوا يعلمون ما في شخصية محمد صلى الله عليه وسلم من قوة التأثير مع كمال القيادة والإرشاد، وما في أصحابه من العزيمة والاستقامة والفداء في سبيله، ثم ما في قبائل الأوس والخزرج من قوة ومنعة، كما كانوا يعرفون ما للمدينة من موقع استراتجي بالنسبة إلى تجارة قريش المتوجهة إلى الشام. ومعلوم أن مدار هذه التجارة كان على استقرار الأمن في تلك الطريق.
شعر المشركون بتفاقم الخطر الذي كان يهدد كيانهم، فصاروا يبحثون عن أنجح السبل بدفع هذا الخطر الذي مبعثه الوحيد حامل لواء دعوة الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم، فاعتزمت قريش قتل النبي صلى الله عليه وسلم. جاء في سيرة ابن هشام"وفي هذه الأثناء رأت قريش أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد صارت له شيعة وأصحاب من غيرهم بغير بلدهم فحذروا خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم، وخافوا أن يكون قد اجمع لحربهم. فاجتمعوا له في دار الندوة يتشاورون فيما يصنعون بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاجتمع رأيهم أخيرا على أن يأخذوا من كل قبيلة فتى شابا جلدا، ثم يعطى كل واحد منهم سيفا صارما ثم يعمدوا إليه فيضربوه ضربة رجل واحد، فيقتلوه، كي لا يقدر بنو عبد مناف على حربهم جميعا، وضربوا لذلك ميعاد يوم معلوم، فأتى جبريل عليه السلام رسول الله صلى الله عليه السلام، يأمره بالهجرة وينهاه أن ينام في مضجعه تلك الليلة" (سيرة ابن هشام، 1/155).
لم ينم رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الليلة في فراشه، وطلب من علي كرم الله وجهه أن ينام مكانه، وأن يرد في الصباح الودائع التي أودعها لديه كفار قريش، وذهب صلى الله عليه وسلم إلى بيت أبي بكر، وكان قد هيأ من قبل راحلتين له وللرسول فعزما على الخروج واستأجر أبو بكر عبد الله بن أريقط الديلمي وكان مشركا ليدلهما على طريق المدينة، على أن يتجنب الطريق المعروف إلى طريق آخر لا يهتدي إليه كفار قريش وواعده غار ثور بعد ثلاث ليال بالراحلتين.
وأما أسماء بنت أبي بكر ذات النطاقين فكانت تأتيهما بالطعام، وكان عبد الله بن أبي بكر يبيت عندهما، فيخرج من عندهما بالسحر، ويصبح مع قريش بمكة كأنه كان نائما فيها، فلا يسمع من قريش أمرا يبيتونه من المكروه لهما إلا وعاه حتى يأتيهما في المساء بخبره، وأما عامر بن فهيرة مولى أبي بكر فكان يرعى غنما يريحها عليهما ساعة من العشاء فيأخذان منها حاجتهما من اللبن (البخاري باب هجرة النبي صلى الله عليه وسلم).
بعد أن انقطع طالبو رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه خرجا من الغار بعد مطاردة حثيثة استمرت ثلاثة أيام دون جدوى فأخذا طريق الساحل (ساحل البحر الأحمر) متوجهين نحو المدينة. وصل رسول الله صلى الله عليه وسلم مع صاحبه إلى المدينة المنورة في اليوم الثاني عشر من ربيع الأول بعد أن طال انتظار أصحابه له، يخرجون كل صباح إلى مشارف المدينة فلا يرجعون إلا حين تحمى الشمس وقت الظهيرة- ولبث في بني عمرو بن عوف بضع عشرة ليلة، وأسس مسجد قباء وصلى فيه، ثم ركب راحلته، فسار يمشي معه الناس حتى بركت في المكان الذي بني فيه مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال هذا إن شاء الله المنزل ثم بناه رسول الله صلى الله عليه وسلم مسجدا.(سيرة ابن هشام،1/479).
2- الوضع في المدينة عند الهجرة:
تمثل الهجرة تحولا ضخما لإقامة مجتمع جديد في بلد آمن، ولذلك كانت الهجرة قبل فتح مكة، فرضا على كل مسلم قادر، ليسهم في بناء هذا الوطن الجديد، ومن هنا نرى أهمية التأريخ للإسلام بالهجرة ذلك الحدث العظيم.
أما مجتمع المدينة الجديد فقد كان يتألف من ثلاث فئات:
- فئة المسلمين المهاجرين الذين هاجروا مع الرسول صلى الله عليه وسلم، والأنصار الذين آووا ونصروا.
- فئة المشركين الذين لم يؤمنوا بعد من قبائل المدينة
- فئة اليهود، وكان في المدينة منهم ثلاث قبائل: بنو قينقاع وبنو الضير وبنو قريضة.
وقد واجهت الرسول صلى الله عليه وسلم عدة قضايا في بداية هجرته إلى المدينة أهمها:
أولا: تكوين مجتمع إسلامي بالمدينة، يمثل الدعوة الإسلامية، ويتكامل فيه التشريع والتقنين والتربية، وتنهض فيه الحضارة والعمران والاقتصاد والسياسة ومسائل السلم والحرب
ثانيا: دعوة مشركي المدينة إلى الإسلام، وإيجاد صيغة للتعايش معهم حتى يدخلوا في الإسلام ويكفوا أيديهم عن الكيد للمسلمين.
ثالثا: مواجهة دسائس اليهود وعتوهم وفسادهم وعداوتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمسلمين.
رابعا: الإعداد والتجهيز للقوى المناوئة للإسلام خارج المدينة، وعلى رأسها قريش، فحالة الحرب واقعة يقينا بين هؤلاء الطغاة من أهل مكة، وبين المسلمين في وطنهم الجديد.
3- أسس المجتمع الجديد:
كانت هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة تعني ظهور أول دولة إسلامية إذ ذاك على وجه الأرض، بإشراف منشئها الأول محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذا فقد كان أول عمل قام به، إقامة الأسس الهامة لهذه الدولة ممثلة في الأعمال الآتية: بناء المسجد والمؤاخاة بين المسلمين عامة، والمهاجرين والأنصار خاصة، وكتابة وثيقة (بمثابة دستور)تحدد نظام حياة المسلمين فيما بينهم، وتوضح علاقتهم مع غيرهم بصورة عامة، ومع اليهود بصفة خاصة.
أ – بناء المسجد النبوي:
بعد وصول النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة كان أول خطوة خطاها وأول عمل قام به هو بناء المسجد النبوي. ففي المكان الذي بركت فيه ناقته أمر ببناء هذا المسجد، واشتراه من غلامين يتيمين كانا بمكانه، وساهم في بنائه بنفسه صلى الله عليه وسلم ولم يكن المسجد النبوي مكانا لأداء الصلوات فحسب، بل كان جامعة يتلقى فيها المسلمون تعاليم الإسلام وتوجيهاته، وقاعدة لإدارة جميع شؤون المجتمع المتعددة، ومركزا لانطلاق جحافل الجيوش الإسلامية، وبرلمانا لعقد المجالس الاستشارية والتنفيذية، ومنتدى تلتقي فيه العناصر القبلية المختلفة التي طالما نافرت بينها النزاعات الجاهلية وحروبها، فتتقوى أواصر التعاون والتآلف بين المسلمين. وكان المسجد النبوي مع هذا كله دارا يسكن فيه عدد من الفقراء المهاجرين الذين لم يكن لهم هناك دار ولا مال ولا أهل ولا ولد إضافة إلى إقام صلاة الجماعة والجمعة والعيدين كمظهر قوي من مظاهر اجتماع المسلمين ووحدة عملهم وأهدافهم وتعاونهم على البر والتقوى.
ب – المؤاخاة بين المسلمين:
من أهم أعمال الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة، المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار، فقد آخى بينهم على الحق والمساواة وعلى أن يتوارثوا فبما بينهم بعد الممات، بحيث يكون أثر الأخوة الإسلامية أقوى من أثر قرابة الرحم، قال ابن القيم الجوزية " ثم آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار في دار أنس بن مالك وكانوا تسعين رجلا نصفهم من المهاجرين ونصفهم من الأنصار، آخى بينهم على المواساة يتوارثون بعد الموت دون ذوي الأرحام إلى حين وقعة بدر، فلما أنزل الله عز وجل {وَالَّذِينَ آمَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ فَأُوْلَـئِكَ مِنكُمْ وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }(الأنفال75) رد التوارث إلى الرحم دون عقد الأخوة" (زاد المعاد،3/63).
ومعنى هذا الإخاء أن تذوب عصبية الجاهلية، فلا حمية إلا للإسلام، فلا يتقدم أحد أو يتأخر إلا بمروءته وتقواه. وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم من هذه الأخوة مسؤولية حقيقية تشيع بين هؤلاء الإخوة .وحسبنا دليلا على ذلك ما قام به سعد بن الربيع الذي كان قد آخى الرسول صلى الله عليه وسلم بينه وبين عبد الرحمان بن عوف إذ عرض على عبد الرحمان بن عوف أن يشركه في بيته وأهله وماله في قسمة متساوية، ولكن عبد الرحمان شكره وطلب منه أن يرشده إلى سوق المدينة ليشتغل فيها، ولم يكن سعد بن الربيع منفردا عن غيره من الأنصار فيما عرضه على أخيه بل هذا شأن عامة الصحابة في علاقتهم وتعاونهم مع بعضهم.
جـ - كتابة وثيقة بين المسلمين وغيرهم:
ذكر ابن هشام أن النبي صلى الله عليه وسلم، لم تمض له سوى مدة قليلة في المدينة حتى اجتمع له إسلام عامة أهل المدينة من العرب، ولم تبق دار من دور الأنصار إلا أسلم أهلها، عدا أفرادا من قبيلة الأوس، فكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابا بين المهاجرين والأنصار وادع فيه اليهود وعاهدهم وأقرهم على دينهم وأموالهم وشرط لهم واشترط عليهم.(ابن هشام، 1/502-503).
أولا:- وثيقة التحالف الإسلامي: تعد هذه الوثيقة أهم ما قام به النبي صلى الله عليه وسلم فيما يتعلق بتأسيس الدولة الإسلامية في المدينة، فقد أزاح بها كل ما كان من حزازات الجاهلية والنزاعات القبلية، وفي ما يلي بعض نصوص الوثيقة: هذا كتاب من محمد النبي صلى الله عليه وسلم بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم:
- أنهم كانوا أمة واحدة من دون الناس.
- المهاجرون من قريش على ربعتهم[1] يتعاقلون[2] بينهم وهم يفدون عانيهم[3] بالمعروف والقسط بين المؤمنين، وكل قبيلة من الأنصار على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم[4] الأولى، وكل طائفة منهم تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
- وأن المؤمنين لا يتركون مفرحا[5] بينهم أن يعطوه بالمعروف في فداء أو عقل.
- لا يقتل مؤمنا في كافر، ولا ينصر كافر على مسلم.
- وان ذمة الله واحدة يجير عليهم أدناهم.
- وأنه لا يحل لمؤمن أن ينصر محدثا (أي من أحدث منكرا غير معتاد) ولا يؤويه.
وأنه من نصره أو آواه فإن عليه لعنة الله، وغضبه يوم القيامة، ولا يؤخذ منه صرف ولا عدل،( أي لا يشارك في تصريف الأمور ولا في الشهادة عليها).
ثانيا: المعاهدة مع اليهود:
كان لابد -لتأمين سلامة المجتمع الجديد- من تنظيم العلاقة بغير المسلمين في هذا المجتمع فكانت هذه المعاهدة مع اليهود، وكانوا أقرب من يجاوروا المدينة من غير المسلمين، فعقد رسول الله صلى الله عليه وسلم معاهدة ترك لهم فيها مطلق الحرية في الدين والمال ولم يتجه إلى سياسة الإبعاد والمصادرة والخصام. وجاءت هذه المعاهدة ضمن المعاهدة التي تمت بين المسلمين أنفسهم. وأهم بنودها:
- إن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم، مواليهم وأنفسهم، كذلك لغير بني عوف من اليهود.
- وأن على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم.
- وأن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة،.
- وأن اليهود يتفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين.
- وأنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده، فإن مرده إلى الله عز وجل وإلى محمد رسول اله صلى الله عليه وسلم.
وبإبرام هذه المعادة قامت الدولة الإسلامية الراشدة تحت قيادة الرسول صلى الله عليه وسلم.
[1] ربعتهم: الحال التي هم عليها
[2] يتعاقلون: يدفعون دياتهم بعضهم مع بعض.
[3] عانيهم: أسيرهم.
[4] معاقلهم: دياتهم.
[5] المفرح: المثقل بالديون الكثير العيال..