لماذا يحبّ الناس الكلاسيكو؟
عزالدين ميهوبي
يؤجّل العالم، هذا اليوم، ساعتين من وقته ليشاهد أقوى مباراة كرة على الكرة.. الأرضية (..). فلا حديث عن أزمة اليورو، ولا عن فضيحة هافيلانج، ولا عن الشبيحة في سوريا، ولا عن الجنزوري وميدان التحرير والسلفيين في مصر، ولا انتخابات روسيا، ولا اكتشاف كوكب شقيق للأرض يبعد عنها ب600 سنة ضوئية فقط (..). فالعالم مشدود إلى ملعب بيرنابيو الذي يتحوّل إلى معركة بين نجوم البلاي ستيشن وثيران القلعة البيضاء، بين ميسي الذي تحدّى كريستيانو بالفوز عليه في مدريد.. وبالتالي تكون المباراة لحظة فارقة لاختيار اللاعب الأفضل في العالم، ولن تخرج عن أحدهما إلا إذا رأى العالم حاجة في تكريم تشافي اللاعب المثالي في أواخر مشواره.
كل الناس يعشقون الكلاسيكو لأنّه يختزل أشياء كثيرة، منها الكرة الجميلة، ولأنّه يجمع أفضل وأغلى النجوم في مباراة واحدة، لكنّه أيضا يمثل مواجهة بين فريق ملكي هو الريال، وفريق غير ملكي وانفصالي هو برشلونة، لهذا فإنّ إسبانيا لا تنظر إليه من زاوية الكرة وحدها ولكن أيضا من باب السياسة..
وأعتقد أن غوارديولا الذي عرف بتصريحاته المرنة، يسعى للفوز حتى يدخل كأس العالم للأندية بمعنويات الفائز لا المرشح للفوز.. بينما لم يعد مورينيو كسابق عهده، يطلق تصريحات استفزازية، فيخرج من مولد برشلونة بيد فارغة وأخرى لا شيء فيها، فهو يدرك أنّ منافسه ليس عملاقا من ورق، إنّما قد يسيل له العرق (..). وحتىّ لا نخوض في من سيفوز، من دون شك، الفائز إن لم يكن برشلونة، فالريال، أو ينتهي بتعادل يغضب المداردة، ولا يرضي البراشلة.. أسأل لماذا يحب الناس ومنهم الجزائريون الكلاسيكو ونجومه.. وأعتقد أن الأمر يعود إلى تلاقح الأوربة والبرزلة. أي أن الأمر يقودنا إلى أنّه لولا أياكس أمستردام ما امتلكت هولندا ذلك المنتخب القوي الذي بلغ النهائي مرتين على التوالي في السبعينيات، أيام سيد الكرة الشاملة كوفاكس، والنجوم كرويف ونيسكنس وكرول وهان وفان ديكركوف.. ولولا برشلونة ما أحرزت إسبانيا كأسها الأولى في تاريخ المونديال، بعد أن ارتكز ديل بوسكي على سبعة من لاعبي النادي الكاتالوني، إدراكا منه أن وجود لاعبين يمتلكون مهارات عالية وقدرة استيعاب خارقة لكل ما يجري على المستطيل الأخضر، هو الوصفة السحرية لبلوغ الهدف، وأي هدف.
فالذين عايشوا السبعينيات شاهدوا كيف أن الروماني كوفاكس استطاع أن يحدث انقلابا في لعبة كرة القدم، بإلغائه لأساليب اللعب والخطط التقليدية، وتخلى عن الأنماط الستاتيكية التي تجعل من اللاعب مجرد بيدق يتحرك في اتجاهات معدة مسبقا مع هامش صغير، فالظهير الأيمن ليس له الحق في أن يكون في موقع لاعب وسط أو هجوم، والمساحة التي يلعب فيها محددة سلفا.. بينما قال كوفاكس إن لعبة كرة اليد تسحر الناس لأنها تلعب بشكل جماعي، الكل يهاجم والكل يدافع ولا فضل للاعب على آخر إلا بما يملك من مهارات.. وانتقلت الخطة من أياكس إلى المنتخب البرتقالي، فقال الناس إنها ثورة جديدة في عالم الكرة. وفي هذا الوقت كان البرازيل يشعر أنه بحاجة إلى أن يأخذ قليلا من الانضباط التكتيكي الذي تتميز بها الكرة الإيطالية والانجليزية، فوقع في الفخ وصارت مشاركته في المونديالات دون قامته وإنجازاته، وزاد الطين بلة أن 90 بالمائة من لاعبي السامبا يلعبون في أوروبا ممّا سهل عملية ''أوربة'' الكرة البرازيلية، بينما حدثت حالة تأثر ملحوظة بالتجربة الهولندية على مستوى أندية أوروبا دون منتخباتها، حيث استمر أغلب أنديتها في انتهاج نظرية بافلوف، التجربة والخطأ، إلى أن ظهر المنتخب الإسباني (حاصل جمع برشلونة والريال) بأسلوب يجمع بين ''الأوربة والبرزلة'' معا، أي اعتماد الكرة الشاملة مع المتعة الكاملة، وبينهما يفتش الخبراء عن تسمية جديدة لهذه اللغة الكروية الأندلسية التي وضعها كبار التدريب في إسبانيا، أراغوناس وديل بوسكي، وما كان هذا ليتحقق لولا أن التوابل الهولندية انتشرت بصورة واضحة في أسواق الكرة الاسبانية منذ أيام كرويف وكومان وريكارد، يضاف إليها وجود أبرز لاعبي البرازيل والأرجنتين وكرة أمريكا اللاتينية التي تعتمد الموهبة كمنطلق أساسي في اللعبة، وبالتالي نجحت الخلطة، وعاد لقب كأس العالم 2010 للإسبان، لأنهم كانوا الأفضل والأمتع.. ولو أن الكأس ذهبت إلى جهة أخرى لقال العاقلون إن في هذا ظلما للكرة قبل إسبانيا.. ومن هنا فما صرح به كرويف قبل نهائي المونديال، من أنه يشجع هولندا بقلبه وإسبانيا لأجل الكرة، لم يخطئ، ففي قلبه شيء من النوستالجيا تجاه بلده التي لا يمكنه التخلص منها، فدمه برتقالي ولن يكون أحمر مهما بلغ ولاءه للإسبان الذين أكل ملحهم ولحمهم وشاركهم حلمهم.
ومؤكد الآن أن منتخبات الدنيا كلها تسعى لاستنساخ النموذج الإسباني الناجح، لكن المسألة مشروطة بوجود أندية بحجم برشلونة ومدربين بحنكة ديل بوسكي وأرغوناس، أو كما أحب تعريب اسمه ''عرق الناس'' لأنه حوّل العرق إلى متعة للناس..