الأموات لا يمثلون أمتنا
الدكتور :- على بن عمر بادحدح
فرق ما بين الحياة والموت سلب الروح وخروجها ، فحينئذ تتعطل الجوارح وتنتهي مظاهر الحياة، فلا قلب ينبض ، ولا عين تبصر ، ولا أذن تسمع ، ولا شيء من الجوارح يتحرك.
غير أننا في واقع الحياة المادية على وجه الخصوص نعرف ألواناً أخرى من الموت تسمى - كما في المصطلحات الطبية - بالموت الدماغي الذي تبقى فيه أصل الحياة في أدنى درجاتها لكن الحياة الحقيقة غير موجودة ، فالحواس كلها معطلة ، وصاحب هذه الحالة لا يدرك، لا يعقل، لا يحس، لا يشعر، لا يستجيب، لا يتفاعل، لا يستطيع أن يدفع أذى ولا أن يجلب نفعاً ، فهو والميت سواء في الحقيقة من حيث كل مظاهر الحياة وتفاعلاتها.
لكن من الأحياء من ينبض قلبه، وتتحرك قدمه وينطق لسانه وتبصر عينه وتعمل كل جوارحه ، لكنه في الحقيقة ميت، ميتٌ لأن أسباب الحياة المعنوية الحقيقة التي تعرف بها للإنسان إنسانيته معطلة عنده، فكيف يكون حياً من يعيش بلا عزة ولا كرامة ؟ وكيف يوصف بالحياة من لا تكون عنده غيرة ولا صيانة ؟ وكيف يكون حياً من هو متسربل بالذل والمهانة، وموصوف بموت المشاعر والبلادة ؟!
إن هذا الدين العظيم (الإسلام) الذي هو دين الإنسانية بيّن أصلاً أن إنسانية الإنسان لا تكون بالماديات الحسية ، وإنما بقيمته المعنوية، وبأخلاقه الإيمانية ، بمشاعره الإنسانية، بتفاعلاته الإيجابية، ولذلك إن عدمت هذه فَقدَ صفة الإنسانية ابتداءً فضلاً عن صفة الإسلام والإيمان !
ومن هنا يأتي الفهم الإسلامي في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (من قتل دون ماله فهو شهيد، من قتل دون عرضه فهو شهيد) لماذا؟
لأن هذا هو تحقيق الإنسانية وتحقيق الحمية والغيرة الإيمانية.
_________________________________________
ونرى المقابل أيضاً في حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي رواه النسائي في سننه قال عليه الصلاة والسلام: (ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة، وذكر منهم الديوث) وجاء وصفه (الذي يرضى السوء في أهله) فالذي تنزع منه الغيرة، والحمية، والكرامة، والعزة، يكون في صورة ممسوخة أحط من الحيوانية بل أقرب إلى التجرد من الصفة الحياتية للإنسان والحيوان معا!
إنه ليعز علينا، ويحز في نفوسنا هذا الواقع الذي يتصدر مشهده كثيرٌ من ساسة بلادنا العربية والإسلامية في قضية فلسطين وما نسمع من المهازل الذي يندى لها الجبين، ومن الذل الذي لا أحسب أن مرَّ له مثيل في تاريخ أمتنا الإسلامية حتى عند دخول التتار إلى بلاد الإسلام !!
_________________________________________
كلنا سمعنا ورأينا ما جرى في المسجد الأقصى مع أعياد الصهاينة المزعومة، ومع الأحكام الجائرة الظالمة الصادرة من المحاكم الصهيونية على أهل الأرض وأصحابها بأنهم محتلون غاصبون ! وأن المجرم السارق هو المالك وصاحب الحق !
ونرى ما نرى من العدوان على الأطفال الصغار ودهسهم بالسيارات أمام الكاميرات، وتأتي القوى العظمى تقدم المزيد من الأسلحة والقوة والوعود استرضاءً للمجرم حتى يوغل في بطشه وعدوانه !
صورة لا يكاد يصدقها العقل، ولا يمكن أن يتصورها إنسان فيه ذرة من عزة وكرامة، فضلاً عن أن يكون نموذجاً لمسلم قلبه حي، وحميته الإيمانية يقظة، وحماسته الإسلامية متقدة .
_________________________________________
وهاهم ساستنا – بعد كل هذه الجرائم والفظائع – يقابلون ذلك كله بمزيد من عروض الاستسلام والاستجداء ؛ استعداداً لـ"حل الدولتين" واعترافاً بـ"إسرائيل" وعكوفاً على "المفاوضات المباشرة" وغير المباشرة ، وإنهاء لـ"الصراع" وسحباً لـ"المطالب التاريخية" بما فيها حق العودة ، واستعادة القدس وغيرها !
وربنا سبحانه وتعالى يقول لنا في محكم كتابه : { الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا } [النساء : 139] .
ويقول سبحانه : { وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا * كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا } [مريم : 81 ، 82].
فكل من اعتز بغير الله مصيره الذل في دنياه قبل أخراه ، ونرى ذلك واضحاً على الوجوه التي شاهت ، وفي الكلمات التي يندى لها الجبين ، { وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ } [المنافقون : 8].
كل هذه الصورة ينبغي أولاً أن نفهمها وأن نعيها وأن نتأملها وأن نتدبرها وأن لا نبقى مشغولين بترهات الأمور وبالخلافات والنزاعات التي تشعل بين بلادنا العربية والإسلامية ، بل بين شعوبنا في داخل كل بلد ، ونحن غافلون نائمون مغيبون !
_________________________________________
لماذا لا تستفتى شعوبنا كما تستفتي الأمم شعوبها في أمور أحياناً في غاية التفاهة؟ فكيف بالأمر الذي لا يتعلق بفرد ولا بمجموعة ولا بدولة ؟ إنه مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنه آيات القرآن التي تتلى، وأحاديث الرسول التي تروى، إنه تاريخ الأمة الذي روته بدمائها، وحضارة الإسلام التي شعت في كل أنحاء الكون، إن لجماهير الأمة كلها حقها في مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، في أن تدافع عن دينها وعرضها وشرفها، وأن لا يكون الذل شعارها، والهوان لباسها، والنفاق لسانها، والمصالح الدونية قبلتها !
ولئن كان هذا على مستوى الأمة فإنه على مستوى الآحاد له صور مماثلة، فلنأخذ الدرس ولنطبقه على أنفسنا، هل نحن في أمور الدين والحرمات التي لنا سلطان عليها نغار حماية لها ، ونعطيها أولويتها كما يجب، ودعوني أضرب لكم مثالاً يتضح به المقال: هل تكون غيرتك وحسابك لابنك إذا كان مفرطاً في الصلوات ومقصراً في أدائها مثل غيرتك وحميتك عندما يرسب في مادة أو عندما يتخلف عن النجاح في مرحلة من المراحل؟ فعندما لا يصلي الفجر حتى ينبثق ضوء الشمس نقول له: انتبه ولا تعد، ولكن إذا رسب نقاطعه ونمنع عنه المصروف ، وكأن هذا عندنا أهم من هذا ! وما ابتلينا بما هو أكبر إلا لأننا قد ابتلينا بما هو أصغر!
_________________________________________
وقبل أن أختم أقول إن باستطاعتنا على المستوى الفردي أمور لا يعجز عنها أحدٌ منا :
* أن نحرر غيرتنا لديننا، وانتصارنا لحرمات ربنا، ورعايتنا لحدود الله عز وجل في حياتنا الشخصية وفيما ولانا الله ، سواءً في أسرنا أو في أعمالنا .
* أن ندعو في صلواتنا وسجودنا وفي سائر دعواتنا بأن يثبت إخواننا المجاهدين والمرابطين في أرض بيت المقدس ، والمستمسكين بالحقوق ، وأن يحرر المسجد الأقصى من رجس ودنس اليهود ، فإننا في وقت الراية والخط البياني مرتفع لنا ولكن المنافقين لا يعلمون ، والعميان لا يبصرون.
* أن نحدث الناس بهذا الأمر ونعلم به أبناءنا وأسرنا ، ونربي علي أجيالنا ، ونذكر لهم أن أمتنا لم تكن يوماً ذليلة وإن كانت قليلة، ولم تكن يوماً مهانة وإن كانت في أدنى درجات استعداداتها المادية والبشرية، لأنها دائما عزيزة بإيمانها، وقوية بإسلامها، وشامخة بوحدتها.
* أن نفعل شيئاً، نتكلم كلمة، نكتب رسالة، نشارك بقول، نبذل مالاً فإن الأبواب مشرعة وكثيرة، ولا تقل ماذا أفعل ؟ فإنك إن كنت تريد أن تقوم بالواجب فستستطيع وستجد أمراً بقدر قدرتك وطاقتك تنفذه، لكن الأمر إن لم يكن خاطراً ببالك ، ولا وارداً في أولوياتك فلن تستطيع أن تفعل شيئاً ، وذلك هو الخطر الداهم الذي نريد ألا نقع فيه.
فالله الله في حرمات الله عز وجل، والله الله في مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم، الله الله في أرض الإسراء، الله الله في دماء وقبور الصحابة الموجودة إلى الآن في تلك البقاع المقدسة، كيف ننسى كل ذلك؟ كيف نغمض أعيننا عن كل تلك الجرائم والمهالك؟ ذلك ما لا ينبغي أن يكون