قهوة العصر وأشياء أخرى
تتميز الجلسة العائلية في فترة الظهيرة والمعروفة بوقت "قهوة العصر"، بنكهة خاصة وسط العائلات الجزائرية، والتي اعتاد عليها سكان سيرتا منذ القدم. وعلى الرغم من التطور التكنولوجي الحاصل وتغير بعض العادات والتقاليد المعاشة، لا يزال وقت "قهوة العصر" تحافظ على طقوسه الكثير من الأسر، حيث تجتمع العائلة بكاملها، خاصة مع رجوع الأطفال من المدرسة، ويكون المكان غالبا وسط الدار حيث تقدم القهوة في سينية من النحاس مع الحلويات التقليدية المحضرة في المنزل. كما تعتبر هذه الجلسة فترة لقاء، حيث يجتمع أفراد الأسرة وهم يرتشفون القهوة ويتبادلون أطراف الحديث، وغالبا ما يكون الموضوع هو أحداث ذلك اليوم.
وأكد بعض المواطنين ممن يفتخرون بعاداتها الأصيلة، بأنه يمكنهم التخلي عن وجبة الغداء أو حتى العشاء وليس عن "قهوة العصر"، فهي من الحتميات التي لا تقبل الجدال. في حين ترى ريمة، وهي طالبة في الرابعة والعشرين من العمر، أن "قهوة العصر" هي من العادات التي دأب عليها سكان مدينة الصخر العتيق منذ قرون، والتي لا يمكن الاستغناء عنها بالنظر إلى ما يضفيه جمعها من أجواء حميمية والتفاف أسري. وأضافت هذه الطالبة التي تدرس في الصيدلة، أن "قهوة العصر" التي تقدسها العائلات الكبيرة والأسر الصغيرة على حد السواء، هي فرصة تنتهزها ربات البيوت لتنال فيها قسطا من الراحة بعد يوم مرهق من الشغل، ضاربة المثل بأمها، بل وذهبت ريمة في حديثها إلى أبعد من ذلك، مؤكدة أن "قهوة العصر" التي تحضّر تلقائيا كل عصر في بيت أسرتها، جزء من شخصيتها: "لا يمكنني تصور حياتي من دون فنجان القهوة أو الحليب الذي تحضره أمي لي ولأسرتي".
ويعتبر محمد صالح، وهو طالب آخر في الثالثة والعشرين من العمر، أن هذا العرف بمثابة عنصر ضروري للحياة، قائلا: "اعتدت منذ صباي على هذه العادة العريقة لارتشاف قهوة العصر، فهي تمنح أفراد الأسرة الواحدة قعدة مميزة تفوح بأجواء حميمية وتزيد في تآخي وتآزر الأسر التي تعيش في عالم يعرف تغيّرا كليا".
"قهوة العصر" هي أفضل أوقات اليوم وأجملها
ويحن محمد الصالح المقيم حاليا بالطابق السادس بحي قريب من المدينة، إلى قعدة "قهوة العصر" في منزل أسرته الصغير كان يعيش سابقا، وقال: "أفضل الأوقات التي نقضيها في اليوم، تبدأ حين يجتمع أفراد أسرتي وسط الدار تحت ظل الدالية وهب شجرة العنب لترتشف قهوة العصر". ويصادف بعض سكان مدينة الجسور المعلقة بسبب ارتباطاتهم المهنية صعوبة في الحفاظ على هذه العادة الجميلة، إلا أن هذا لا يعني أنهم سيتخلون عنها، حيث يطلبونها فور وصولهم إلى المنزل ويحتسونها أمام التلفاز بمفردهم، حتى وإن كان ذلك في وقت متأخر.
وهكذا، يمثل ما اصطلح على تسميته ب "قهوة العصر" سلوكا اجتماعيا يشجع على لم شمل أفراد الأسرة الواحدة وسط أجواء حميمية تقوي علاقات الأفراد فيما بينهم وتزيد في تآزرهم وتقويهم لتخطى محن الحياة، وفضلا عن المأكولات والألبسة التقليدية، فإنّ ارتشاف ق"هوة العصر" تظل عادة مقدسة وسط العائلات الجزائرية التي لا يمكنها الاستغناء عنها، وهي القهوة التي دأبت ربات البيوت على تحضيرها منذ القدم، حيث يتخذن من هذه الفترة من النهار فرصة لنيل قسط من الراحة من أعباء شغل البيت في غياب أزواجهن، وليجتمعن لتبادل أطراف الحديث حول مواضيع مختلفة متعلقة بالطبخ والأمور الشخصية... وغيرها.
كما ينعم سكان الأرياف بدورهم بارتشاف "قهوة العصر" بعيدا عن ضوضاء المدينة، فالرجال الذين يعملون بالحقول، حيث الهواء النقي والأجواء الهادئة التي تبعث بالراحة والسكينة، يوقفون نشاطهم لفترة من الوقت من أجل أخذ قسط من الراحة أو ارتشاف "قهوة العصر"، إما وسط عائلاتهم أو في مكان عملهم تحت ظلال الأشجار، وهم يستنشقون عبق المروج التي تصاعد منها زقزقة العصافير وأصوات الحيوانات.
"قهوة العصر" عادة قسنطينة متوارثة
واعتبر عالم النفس، عبد الرحمن بوزيان، أن هذه العادة ل "قهوة العصر" تقوم أساسا على ثقافة مادية، ففضلا عن مائدة "قهوة العصر" التي تحمل سينية النحاس التي تفننت أنامل الحرفيين في نحتها، توجد عدة كاملة من الأغراض التي تزين هذه السينية وتعرض جزءا هاما من الصناعة والحرفة التقليدية، ويتعلق الأمر بالمائدة المصنوعة من الخشب المكسوة بغطاء مطرز وتحمل "السنيوة"، "سينية النحاس"، ورشاش النحاسي المعبأ بماء الورد المقطر عادة بالبيت لتعطير القهوة وإعطائها نكهة خاصة، بالإضافة إلى مناديل القهوة المطرزة والأقداح الفخارية والسكرية النحاسية، إلى جانب صفيحة الزبدة والمربى وصحون الحلوى اللذيذة التي تفسح لربات البيوت المجال لاستعراض مهاراتهن والتفنن في عرض الحلويات الشهية، على غرار المقرود والكروكي، أو كما في بعض المناطق بغرب الوطن فوق مائدة مستديرة صغيرة تسمى "الطيفور" وصحون الحلويات التقليدية مثل "المبسس" و"المسمن" و"البغرير"، وغيرها.
كما هناك بعض التعابير المرتبطة ب "قهوة العصر". فعندما تقدم هذه القهوة دون حلويات أو مرطبات يطلق عليها "قهوة حفيانة". وإذا ما كانت القهوة مكثفة، فستحضر في مثل هذه الحالة روح الدعابة والمزاح، ويقول من يرتشفها إنها قهوة "سميكة"، بحيث يستطيع صرصار المشي فوقها منتعلا قبقاب دون أن يهوي بقعرها.. "قهوة يمشي عليها ڤرلو بقبقاب"، ويقال عن القهوة الخفيفة "ماء ساخن وزغاريد".
وبعيدا عن هذا كله، تظل "قهوة العصر" من الأمور المقدسة التي لا يمكن الاستغناء عنها، لأنها تبقى إحدى اللحظات القليلة في اليوم التي يجتمع أفراد الأسرة صغارا وكبار خلالها، وحتى الأقارب، من أجل أخذ قسط من الراحة وهم يتبادلون أطراف الحديث ويمزحون وسط أجواء حميمية مفعمة بالتآخي والتآزر.