عبد الحميد رئيس جمعية العلماء:
تأسست جمعية العلماء بعد الاحتفال بمضي قرن على احتلال الجزائر
فكان ذلك رداً عملياً على المحتفلين الذين كانت أصواتهم تردد الجزائر
فرنسية وكان شعار العلماء المصلحين "الإسلام ديننا ، العربية لغتنا ،
الجزائر وطننا" ، وقد ظهر هذا الشعار أول ما ظهر مكتوباً على كتاب الجزائر
للشيخ أحمد توفيق ، ثم تناولته الألسنة والأقلام ولقن للتلامذة في المدارس
وذلك سنة 1931، وفي 5 ماي [أيار] من هذه السنة اجتمع علماء القطرالجزائري
بنادي الترقي فأسسوا جمعية العلماء وأسندوا رئاستها إلى عبد الحميد بن
باديس بإجماع ، وكان غائباً حيث لم يحضر معهم في اليوم الأول ولا في اليوم
الثاني ، وفي اليوم الثالث جاء إلى الاجتماع وألقى كلمة جاء فيها:
"إخواني ، إنني قد تخلفت عن جمعكم العظيم اليوم الأول والثاني
فحرمت خيراً كثيراً، وتحملت إثماً كبيراً، ولعلكم تعذرونني لما لحقت في
اليوم الثالث، وأذكر لحضراتكم ما تعلمونه من قصة أبي خيثمة الأنصاري لما
تخلف عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في غزوة تبوك ثم لحقه فقال الناس
هذا راكب يرفعه الإل ويضعه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : كن
أبا خيثمة ، فقالوا: هو أبو خيثمة ، فاعتذر إلى النبي صلى الله عليه وسلم
فقبل عذره ودعا له بخير . ومثلكم من كان له في رسول الله صلى الله عليه
وسلم القدوة الحسنة." هكذا كان يستلهم أقواله وأفعاله من السنة النبوية.
وألقى خطاباً آخر في ذلك الاجتماع عندما باشر مهام الرئاسة ، هذا
نصه:
"الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه.
إخواني، إنني ما كنت أعد نفسي أهلاً للرئاسة لو كنتُ حاضراً يوم الاجتماع
الأول ، فكيف تخطر لي بالبال وأنا غائب ؟ لكنكم بتواضعكم وسلامة صدوركم
وسمو أنظاركم جئتم بخلاف اعتقادي في الأمرين فانتخبتموني للرئاسة.
إخواني ، كنت أعد نفسي ملكاً للجزائر أما اليوم فقد زدتم في عنقي
ملكية أخرى ، فاللهَ أسأل أن يقدرني على القيام بالحق الواجب.
إخواني إنني أراكم في علمكم واستقامة تفكيركم لم تنتخبوني لشخصي،
وإنما أردتم أن تشيروا بانتخابي إلى وصفين عرف بهما أخوكم الضعيف هذا:
الأول إنني قَصَرْتُ وقتي على التعليم فلا شغل لي سواه فأردتم أن ترمزوا
إلى تكريم التعليم اظهاراً لمقصد من أعظم مقاصد الجمعية وحثاً لجميع
الأعضاء على العناية به كل بجهده ، الثاني: أن هذا العبد له فكرة معروفة ،
وهو لن يحيد عنها ولكنها يبلغها بالتي هي أحسن ، فمن قبلها فهو أخ في الله ،
ومن ردها فهو أخ في الله، فالأخوّة في الله فوق ما يقبل وما يرد ، فأردتم
أن ترمزوا بانتخابي إلى هذا الأصل ، وهو أن الاختلاف في الشيء الخاص لا يمس
روح الأخوة في الأمر العام."
هذا مبدأ عبد الحميد في الحياة. فالرجل قرآني ورباني استمد هذا
من قول الله تعالى : (ادعُ إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلتم
بالتي هي أحسن). وهذه الطريقة كان يسلكها مع جميع الناس سواء أكانوا من
تلامذته ومريديه ، أم من خصوم فكرته ومناوئيه، ورغم هذا فلم تمضِ سنة على
تأسيس جمعية العلماء حتى دخلت في معارك حامية مع أذناب الاستعمار ومع أصحاب
البدع والخرافات، وأخذت تؤسس المدارس الابتدائية لتعليم الدين واللغة،
وترسل وفود الوعاظ يجولون المدن والقرى، وكان عبد الحميد أسس بقسنطينة
مدرسة التربية والتعليم وجعل لها فروعاً في القطاع القسنطيني وكاد التعليم
يعم المداشر والقرى ، فأوجست الحكومة الفرنسية خيفة في نفسها فعطلت غالبية
المدارس، وزجت ببعض المعلمين في السجون وحاكمتهم محاكمة المجرمين، فكان عبد
الحميد يشجع أبناءه المعلمين على المقاومة ويثير حماس الجماهير، ويحتج على
هذه المعاملة.
طريقته في الاحتجاج على الحكومة:
له في الاحتجاج طريقتان: الأولى باسمه رئيس جمعية العلماء وهي
الاحتجاجات التي لا تخرج عن دائرة القانون ، الثانية باسمه الخاص وهي
الاحتجاجات اللاذعة التي يصف فيها الاستعمار بكل نقيصة، ويفضح فيها مكائده
ويكشف مخازيه. وسألناه مرة لماذا هذه التفرقة في الاحتجاجات؟ فقال:
الاحتجاجات التي أمضيها باسم جمعية العلماء أحافظ فيها على الجمعية،
والاحتجاجات التي أمضيها باسمي لا أحافظ فيها على شخصي. ولمح إلى هذا في
خطاب ألقاه في 27سبتامبر [أيلول] 1936 إثر اجتماع الجمعية العامة حيث قال:
"إن هذا العبد الضعيف يقدم بلسان العجز الشكر لأعضاء الإدارة
إخوانه أن قدموه للرئاسة وجددوا له ثقتهم به هذا مع علمه بعبء الرئاسة
الثقيل وما يلزم لها من التضحية التي هي أول شروط الرئاسة. ولقد قال
الهذلي:
فإن رئاسة الأقوام فاعلم * لها صعداء مطلعها طويل
وإن هذا العبد الضعيف لثقته في الله وقوته بالله واعتزازه بقومه
واعتماده بعد الله على إخوانه لمستعد لهذه الصعداء وإن طال مطلعها وطال."
ثم قال: "إن ميدان العمل في هذه الجمعية لميدان واسع وهنالك للعمل ميادين
أخرى لا أدخلها باسمها. ولكن (إن كان فيها منفعة) أدخلها باسمي إن كان عند
قومي قيمة لاسمي، وأرجو أن يعينني الله عليها. أيها الإخوان! إن على كل
رئيس حقاً وقد قال الأحنف بن قيس:
إن على كل رئيس حقاً * أن يخضب الصعداء أو تندقا
والصعداء هي الرمح يريد أنها تخضب بالدماء أو تنكسر وتندق في يده
أثناء محاربته الأعداء. ولكن صعدتنا نحن التي نخضبها هي القلم (وخضايه
الحبر) ولكنه لا يندق هذاالقلم حتى تندق أمامه جبال من الباطل.
وإن من الحق أن نتأدب بالأدب النبوي ومنه أن لا نتمنى لقاء العدو
فإذا لقيناهم فلنصبر والله معنا.
عبد الحميد بن باديس والمؤتمر الإسلامي:
تهاتف كثير من رجال السياسة على الاندماج ورأوا أنه الطريقة
الوحيدة التي تصل بها الجزائر إلى حقوقها المسلوبة ، ومن بين هؤلاء نواب
يرون أن لا حق لأحد أن يتكلم في السياسة الجزائرية سواهم وان لهم البت في
مصير الأمة، والأمة غائبة عن الميدان، فنشر عبد الحميد أراء له في السياسة
الجزائرية في جريدة (لادفانس) "الدفاع" التي كان يصدرها الأستاذ العمودي
رحمه الله باللسان الفرنسي وذلك في عدد 2جانفي [كانون الثاني] 1936، وكان
من تلك الآراء عقد مؤتمر إسلامي جزائري لأن المرجع في مسائل الأمة هو
الأمة، والواسطة لذلك هي المؤتمرات ، فبقيت الفكرة تتردد في النوادي حتى
فازت الجبهة الشعبية بفرنسا في تلك الانتخابات فتأسس المؤتمر الإسلامي
الجزائري يوم 7 جوان [حزيران] سنة 1936 وكان غالبية من به من دعاة الاندماج
وأنصار مشروع بلوم فيوليت.وقرر العلماء أن يشارك فيه الشيوخ عبد الحميد بن
باديس، الطيب العقبي، البشير الإبراهيمي، محمد خير الدين وغيرهم من
العلماء باسمهم الخاص، وقد كان لمشاركة العلماء أثر فعال في تعطيل الاندماج
وإبراز الذاتية الإسلامية العربية الجزائرية، حيث جاء في مطالب المؤتمر ما
يلي:
- المحافظة على الحالة الشخصية الإسلامية مع إصلاح هيئة المحاكم
الشرعية بصفة حقيقية ومطابقة لروح القانون الإسلامي.
- فصل الدولة عن الدولة بصفة تامة وتنفيذ هذا القانون حسب مفهومه
ومنطوقه.
- إرجاع سائر المعاهد الدينية إلى الجماعة الإسلامية تتصرف فيها
بواسطة جمعيات دينية مؤسسة تأسيساً صحيحاً.
- إلغاء كل ما اتخذ ضد اللغة العربية من وسائل استثنائية وإلغاء
اعتبارها لغة أجنبية.
حينئذ علم دعاة الاندماج أنهم أخِذوا على غرة، وأن هذه المطالب
التي قدمها العلماء وأيدها الشعب قد أفسدت عليهم تدبيرهم. وقالوا: العلماء
يجهلون السياسة فما معنى مشاركتهم فيها؟ إنهم لرجعيون وو.. فأجابهم الأستاذ
الإبراهيمي حفظه الله إذا ذاك على صفحات الشهاب، وكان مما قاله لهم:
"فويحكم.. إن العلماء الذين تعنون من الأمة في الواقع والحقيقة
في حال أنكم لا تعدون منها إلا على الزعم والدعوى، وأن العلماء يمثلون
الوصف الذي ما كانت الأمة أمة إلا به وهو الإسلام ولسانه. وأن مطالب الأمة
التي رفعت صوتها بها في المؤتمر ترجع إلى أصول أربعة: الدين والسياسة
والاجتماع والاقتصاد ، وأن لكل مطلب من هذه المطالب فروعاً متشابكة وأن كل
أصل من هذه الأصول يحتاج إلى بحوث ودراسات تفتقر إلى كفايات واختصاصات،
وإذا كان في نواب الأمة ومفكريها من فيه الكفاءة والمؤهلات لدراسة المطالب
السياسية ووصل مقدماتها بنتائجها وإعطاء رأي ناضج فيها، أو كان في فلاحينا
وتجارنا من نعتمد عليه وعلى رأيه في المطالب الاقتصادية مثلا، فمن للمطالب
الدينية وما يتبعها من اللغة العربية غير العلماء؟"
وفد المؤتمر إلى باريس:
شكل المؤتمر وفداً إلى فرنسا لتقديم المطالب إلى الحكومة
الفرنسية، وكان عبد الحميد من أعضاء الوفد. ذهب الوفد يوم 18 جوليت (تموز)
1936 وشرح القضية في النوادي السياسية واتصل بالوزراء ورؤساء الأحزاب،
وصارحه م. دالادي وزير الحربية إذ ذاك أنه لا يمكنه أن يوافق على إعطاء
المسلمين الجزائريين النيابة في البرلمان مع محافظتهم على الشريعة
الإسلامية في الحقوق الشخصية، وقال لهم إن فرنسا معها مدافع، فقال له عبد
الحميد: والجزائر معها الله. فقفل الوفد إلى الجزائر وهو بين اليأس
والرجاء، بل هو إلى اليأس أقرب. وكتب عبد الحميد مقالاً في الشهاب وصف فيه
تلك المقابلات ختمه بقول الشاعر:
إذا أنت لم تنصف أخاك وجدته * على طرف الهجران إن كان يعقل
ويركب هذا السيف من أن تضيمه * إذا لم يكن عن شفرة السيف مزجل
- الحرية الكاملة في تعلم اللغة العربية. وبهذا أخفق المؤتمر
الإسلامي، ومرجع إخفاقه إلى مشاركة العلماء فيه، فلجنة قسنطينة طلبت من عبد
الحميد أن يضع لها من المطالب ما لا ينافي الإسلام فوضع مطالب منها:
"المساواة في الحقوق السياسية مع المحافظة على جميع الذاتية، وهذا الذي
أقره المؤتمر بإجماع، وبه سقطت جميع المشاريع "الأبروجيات" كما قال عبد
الحميد رحمه الله.
شبح الحرب الأخيرة، وأثره في نفس عبد الحميد:
في سنة 1937 تكاثفت السحب في سماء السياسة العالمية فظن الناسُ
أنهم من الحرب قاب قوسين أو أدنى، فبعثت جمعية الميعاد الخيري (هيئة متكونة
من الأغوات والقياد) وبعثت جماعة اتحاد الزوايا وغيرها من الهيئات برقية
ولاء وتأييد للحكومة الفرنسية، وشذت جمعية العلماء عن ذلك فكبر ذاك على
الإفرنسيين، فأوعزوا إلى من يعد العلماء ويمنيهم ويرغب منهم إرسال برقية
ولاء ليُظهر المسلمون الجزائريون مظهر اتحاد ووفاق في موالاة فرنسا،
وخاطبوا في ذلك الشيخ الطيب العقبي رحمه الله فعرض القضية على الشيخ عبد
الحميد فقال سينعقد الاجتماع العام للجمعية في هذه الأيام، وطبعاً يتقدم
ذلك اجتماع المجلس الإدراي، وسأضع هذا الاقتراح في اجتماعه ليقول الأعضاء
الإداريون كلمتهم.
وفي الاجتماع الإداري طرح عبد الحميد القضية بهدوء وطلب من
الأعضاء إبداء آرائهم فكانت غالبية الآراء ضد كتابة البرقية واستصوب العقبي
إرسالها وقال الحرب على الأبواب وإرسال البرقية يخفف من حدة الفرنسيين
فتسلم مدارسنا ونوادينا ومشاريعنا الخيرية، ونبقى على اتصال بأمتنا ولو في
زمن الحرب، وأخذ يدافع عن نظريته، فعارضه كثير من الأعضاء، وعبد الحميد
معتصم بالسكوت. ولما طالت المناقشة طلب عبد الحميد من الأعضاء التصويت برفع
الأيدي، فكانت النتيجة أربعة أصوات منهم العقبي يقولون بإرسالها، واثني
عشر يقولون بعدم إرسالها، واحتفظ عبد الحميد بصوته، ولما انتهت المناقشة
حمد الله وأثنى عليه، وكان مما قاله:
"لو كانت أغلبيتكم تؤيد إرسال البرقية ما كنتم ترونني في مجلسكم
هذا بعد اليوم." وانتقلت القضية من الاجتماع الإداري الخاص بالأعضاء
الإداريين إلى الاجتماع العام الذي تحضره الجماهير، فقال عبد الحميد على
رؤوس الملأ: "أقول صراحة –واجتماعنا هذا لا يخلو من جواسيس رسميين أو غير
رسميين- إني لن أمضي البرقية ولن أرسلها ولو قطعوا رأسي، وماذا تستطيع
فرنسا أن تعمل؟ إن لنا حياتين حياة مادية وحياة أدبية روحية، فتستطيع
القضاء على حياتنا المادية بقتلنا ونفينا وسجننا وتشريدنا، ولن تستطيع
القضاء على عقيدتنا وسمعتنا وشرفنا فتحشرنا في زمرة المتملقين، إننا قررنا
السكوت."
نتج عن هذه الحادثة استعفاء الشيخ الطيب العقبي من العضوية
الإدارية لجمعية العلماء. وقال المسؤولون الفرنسيون ما معنى السكوت؟ السكوت
دعوة صارخة إلى عدم التأييد، وقال الخصوم: هل أصبح العلماء دولة فهم
محائدون؟ وغير ذلك من عبارات التهكم والتحريش. فاشتدت معاكستهم للجمعية
وحربهم لها حتى اندلعت الحرب الثانية، وبعد أسبوعين من اندلاعها فرضت
الإدارة الإقامة الجبرية على الحميد في قسنطينة ومنعوه من مغادرتها.
تفكيره في الثورة:
أيامَ اشتعال الحرب اجتمعتُ به لآخر مرة بنادي الترقي وكان حاضر
الاجتماع تلميذه الشيخ محمد بن الصادق الملياني ليس غير، وبعدما تحادثنا
معه في مواضيع خاصة وعامة انتفض رحمه الله وقال: "هل لكم أن تعاهدوني؟"
فقال له الشيخ محمد الملياني: "لا أستطيع قبل أن أعرف" ثم توجه إلي وقال:
"وأنت؟" فقلت: "إذا كان على شيء أنت فيه معي فإني أعاهدك"، قال: "طبعاً أنا
لا أكلف غيري بما لا أكلف به نفسي". فمددتُ يدي وصافحته وقلت: إني أعاهدك
ولكن على ماذا؟ قال: "إني سأعلن الثورة على فرنسا عندما تشهر عليها إيطاليا
الحرب". ثم افترقنا ولم يعد بعدها إلى الجزائر. وهكذا كانت نيته. ولست
أدري كيف تكون الحالة لو عاش فينا إلى ذلك الحين.
طريقته في العمل:
يطوف ببعض أنحاء الجزائر للوعظ والتذكير وتفقد الرفقاء وتوجيههم
كل أسبوع. والنظام الذي كان يسير عليه هو: أن دروسه تبتدئ صباح السبت
وتنتهي مساء الأربعاء، وفي ذلك المساء يغادر قسنطينة وما يعود إليها إلا
صباح السبت حيث يستأنف التدريس، فتارة يقضي يومي عطلة الأسبوع بالجزائر،
وتارة بتلمسان وتارة ببسكرة أو غيرها من البلدان. فكانت أيام الأسبوع
بالنسبة إليه أيام عمل لا تخلو من مفيد أو جديد، بالإضافة إلى ما يقوم به
من مشاركة أعضاء جمعية العلماء في تحرير الجريدة التي تصدرها الجمعية
بلسانها.
صموده وثباته إلى أن مات:
حاول الفرنسيون أيام الحرب أخْذ مدرسة التربية والتعليم
وإحلال اللغة الفرنسية فيها محل اللغة العربية، فقال لهم: لا أسمح بهذا حتى
أموت دونه. فحاولوا الحصول منه على كلمة يشم منها رائحة تأييد في حربهم مع
الألمان فما استطاعوا، حتى أسلم الروح لباريها يوم 16 أفريل [نيسان] 1940 أثر مرض
لازم فيه الفراش اياماً معدودات، وحامت الأقاويل حول موته، فمن قائل مات
مسموماً ومن قائل أنه مات موتة طبيعية –ولا يعلم الحقيقة إلا الله- وذلك
شأن الناس عند موت كل عظيم.
في جامع الزيتونة
في عام 1908 م قرر ابن باديس -وهو الشاب المتعطش
للعلم- أن يبدأ رحلته العلمية الأولى إلى تونس، وفى رحاب جامع الزيتونة الذي كان مقراً كبيراً للعلم والعلماء يُشبه في
ذلك الأزهر في مصر. وفي الزيتونة تفتحت آفاقه، وعبّ من
العلم عبًّا، والتقى بالعلماء الذين كان لهم تأثير كبير في شخصيته
وتوجهاته، مثل الشيخ محمد النخلي الذي غرس في عقل ابن باديس غرسة الإصلاح وعدم تقليد الشيوخ،
وأبــان لــه عـــن المنهج الصحيح في فهم القرآن. كما أثار فيه الشيخ محمد الطاهر بن عاشور حب العربية وتذوّق جمالها ، ويرجع
الفضل للشيخ البشير صفر في الاهتمام بالتاريخ ومشكلات المسلمين المعاصرة
وكيفية التخلص من الاستعمار الغربي وآثاره.
تخـرج
الشيخ من الزيتونة عام 1912 م وبقي عاماً آخر للتدريس حسب ما
تقتضيه تقاليد هذه الجامعة، وعندما رجع إلى الجزائر شرع على الفور بإلقاء
دروس في الجامع الكبير في قسنطينة، ولكن خصوم الإصلاح تحركوا لمنعه، فقرر القيام برحلة
ثانية لزيارة أقطار المشرق العربي.
في المدينة النبوية
بعد أداء
فريضة الحج مكث الشيخ ابن باديس في المدينة المنورة ثلاثة أشهر، ألقى خلالها دروساً في المسجد النبوي، والتقى بشيخه السابق أبو حمدان الونيسي وتعرف
على رفيق دربه ونضاله فيما بعد الشيخ البشير الإبراهيمي. وكان هذا التعارف من أنعم اللقاءات
وأبركها، فقد تحادثا طويلاً عن طرق الإصلاح في الجزائر واتفقا على خطة
واضحة في ذلك. وفي المدينة اقترح عليه شيخه الونيسي الإقامة والهجرة
الدائمة، ولكن الشيخ حسين أحمد الهندي المقيم في المدينة أشار عليه بالرجوع للجزائر لحاجتها
إليه. زار ابن باديس بعد مغادرته الحجاز بلاد الشام ومصر واجتمع برجال العلم والأدب وأعلام
الدعوة السلفية، وزار الأزهر واتصل بالشيخ بخيت المطيعي حاملاً له رسالة من الشيخ الونيسي.
العودة إلى الجزائر
وصل ابن
باديس إلى الجزائر عام 1913 م واستقر في مدينة قسنطينة، وشرع في العمل التربوي الذي صمم عليه، فبدأ بدروس
للصغار ثم للكبار، وكان المسجد هو المركز الرئيسي لنشاطه، ثم تبلورت لديه
فكرة تأسيس جمعية العلماء المسلمين، واهتماماته كثيرة لا يكتفي أو يقنع
بوجهة واحدة، فاتجه إلى الصحافة، وأصدر جريدة المنتقد عام 1925 م وأغلقت بعد العدد الثامن عشر؛
فأصدر جريدة الشهاب الأسبوعية، التي بث فيها آراءه في الإصلاح، واستمرت كجريدة حتى
عام 1929 م ثم تحولت إلى مجلة شهرية علمية، وكان شعارها: "لا يصلح آخر
هذه الأمة إلا بما صلح بها أولها"، وتوقفت المجلة في شهر شعبان 1328 هـ
(أيلول عام 1939 م) بسبب اندلاع الحرب العالمية الثانية، وحتى لا يكتب فيها
أي شيء تريده الإدارة الفرنسية تأييداً لها، وفي سنة 1936 م دعا إلى مؤتمر إسلامي يضم
التنظيمات السياسية كافة من أجل دراسة قضية الجزائر، وقد وجه دعوته من خلال
جريدة لاديفانس التي تصدر بالفرنسية، واستجابت أكثر التنظيمات السياسية لدعوته
وكذلك بعض الشخصيات المستقلة، وأسفر المؤتمر عن المطالبة ببعض الحقوق
للجزائر، وتشكيل وفد سافر إلى فرنسا لعرض هذه المطالب وكان من ضمن هذا
الوفد ابن باديس والإبراهيمي والطيب العقبي ممثلين لجمعية العلماء، ولكن
فرنسا لم تستجب لأي مطلب وفشلت مهمة الوفد.
العوامل المؤثرة في شخصية ابن باديس
لا شك أن
البيئة الأولى لها أثر كبير في تكوين شخصية الإنسان، وفي بلد كالجزائر
عندما يتفتح ذهن المسلم على معاناته من فرنسا، وعن معاناته من الجهل
والاستسلام للبدع-فسيكون هذا من أقوى البواعث لأصحاب الهمم وذوي الإحساس
المرهف على القلق الذي لا يهدأ حتى يحقق لدينه ولأمته ما يعتبره واجباً
عليه، وكان ابن باديس من هذا النوع. وإن بروز شخصية كابن باديس من بيئة
ثرية ذات وجاهة لَهو دليل على إحساسه الكبير تجاه الظلم والظالمين، وكان
بإمكانه أن يكون موظفاً كبيراً ويعيش هادئاً مرتاح البال ولكنه اختار طريق
المصلحين.
وتأتي
البيئة العلمية التي صقلت شخصيته وهذبت مناحيه والفضل الأكبر يعود إلى
الفترة الزيتونية ورحلته الثانية إلى الحجاز والشام حيث تعرف على المفكرين
والعلماء الذين تأثروا بدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب وما دعا إليه من نقاء العقيدة
وصفائها. وكان لمجلة المنار التي يصدرها الشيخ رشيد رضا أثر قوي في النظر لمشكلات المسلمين المعاصرة والحلول
المطروحة.
ومما شجع
ابن باديس وأمضى عزيمته وجود هذه العصبة المؤمنة حوله-وقد وصفهم هو بالأسود
الكبار-من العلماء والدعاة أمثال الإبراهيمي والتبسي والعقبي والميلي. وقد
عملوا معه في انسجام قلّ أن يوجد مثله في الهيئات الأخرى.