هو المجاهد الوطني الكبير الشيخ علي الغاياتي والذي عاش في عصرٍ ينوء بالعواصف والفتن، فمصر كانت ولاية تتبع الدولة العثمانية بالاسم، لكنها واقعة تحت نير الاحتلال البريطاني، وقد ترك فيها جمال الدين الأفغاني (1871م- 1879م) أثرًا كبيرًا لإيقاظِ الفكر وظهور تيار جديد أساسه الدعوة إلى الحرية والحكم النيابي والدستور والتخلص من النفوذ الأجنبي المتمثل في الاحتلال، وكذلك التخلص من حكم الفرد المطلق ونفوذ الخديوي، وحاشيته التركية المحيطة به.
المولد والنشأة
ولد علي الغاياتي يوم 24 أكتوبر 1885م، وتلقى تعليمه في أحد الكتاتيبِ الكثيرة التي كانت منتشرةً في دمياط، وكان يملكه والده الشيخ "محمود الغاياتي" وبه تعلَّم مبادئ القراءة والكتابة وحفظ بعض آيات القرآن الكريم، ثم استكمل مرحلة تعليمه الابتدائي في مدرسة (الفتوح الرباني) التي أنشاها الشيخ علي الحزاوي عام 1873م، انتقل بعدها إلى المعهد الأزهري بجامع البحر، ثم عمل مدرسًا في نفسِ المدرسة التي تلقى فيها تعليمه الأولي.
الغاياتي كاتبًا
ويبدو أنَّ الحياة الهادئة المطمئنة التي كان يعيشها في بلده الوديع أو (المحافظ) كما كان يُسميه، لم تكن تلائم طبيعته ، الجامحة إلى الكفاح والنضال، بدليل قوله عن شعره البدائي الذي كان ينظمه في بدء شبابه، بعيدًا عن الأغراض السياسية والوطنية (.. ولقد أضلني ما أضل الشعراء من قبل، فطرقت في بدء محاولتي للنظم موضوعات لا خيرَ فيها للبلاد ولا ذكر للأمة والوطن، أما عذري في ذلك إن حاولت الاعتذار فذالك أنني في معزل عن الحركة الوطنية ولا أعرف من أمرها شيئًا وحسبي أني ولدتُ في مدينة دمياط ونشأت فيها بين قومٍ كرام، غير أنهم (محافظون) يعبدون الحكام كأنهم آلهة يحيون ويميتون، ثم لا يكادون يذكرون الوطن والوطنية على الإطلاق.
وفي اليوم الرابع من إبريل عام 1907م رحل إلى القاهرة فقيرًا مجهولاً يبلغ من العمر اثنين وعشرين عامًا، فاتخذ مسكنًا في حي عابدين قريبًا من دور الصحف، وما لبث أن عمل محررًا بجريدة "الجوانب المصرية "لصاحبها خليل مطران، وحدث أنْ كتب الغاياتي مقالاً بعنوان (الدستور أميرنا) لم يُعجب صاحب الجريدة، فجمع النسخ من أيدي الباعة، ووضع مكانه مقالاً آخر، فغضب الغاياتي لهذا التصرف وترك العمل بالجريدة، وانتقل إلى "اللواء".
الغاياتي ثائرًا
- عمل الغاياتي في مجلةٍ يصدرها الشاعر خليل مطران، وخاض على صفحاتها أولى معاركه عام 1907م ضد علماء الدين الذين نشروا صناديق النذور والتوسل بأرباب القبور ووصفهم بأنهم "من ذوي الأفكار العتيقة البالية الجاهلة"، فعاقبت السلطات الغاياتي على جرأته بالتحقيق معه وسجنه اثني عشر يومًا.
- وانضم الغاياتي إلى الحزب الوطني؛ لأنه كان الأعلى صوتًا في تلك الفترة ضد الاحتلال والقصر، وأخذ ينشر قصائده النارية هجومًا على المحتلين وأبواقهم.
- وهاجم أمير الشعراء أحمد شوقي، وشيوخ الأزهر وغيرهم من رجال الإعلام الموالين للاحتلال.
- وأيد الغاياتي في مقالاته وشعره كل عملٍ ثائرٍ في مصر وخارجها، من أجل إجلاء الإنجليز، والأخذ بالدستور، وإصلاح الحكم، والضرب علي يد الفساد، ونشر التعليم.
- وامتدح بقصائده قادة الحركة الوطنية مثل مصطفى كامل، ومحمد فريد.
- وشن الغاياتي حملة على أحمد شوقي أمير الشعراء؛ لأنه صرَّح بلسانِ الخديوي أنَّ إعلان الدستور غير ممكن إلا بإذنٍ من الإنجليز.
- وكتب قصيدةً ناريةً وقف فيها مع إضراب طلبة الأزهر وتحقيق مطالبهم.
- وحين صدر قانون المطبوعات المقيد للحريات كتب قصيدة يقول فيها : "لئن قيدوا مني اليراع وأوثقوا لساني.. فقلبي كيفما شئت ينطق".
- ولم يفلت الخديوي عباس من لسان الغاياتي حين ظهر ميله إلى الاحتلال.
- كما رحَّب في قصيدةٍ له بموقفِ الشاب الهندي الذي أطلق رصاصه على السير "ويللي" في أحد شوارع لندن فأرداه قتيلاً، وكتب إنَّ الهند بذلك قد نالت المجد كله في نضالها من أجل الحرية.
- في عام 1910م قام الرئيس الأمريكي السابق تيودور روزفلت بزيارة لمصر أشاد خلالها بالاحتلال البريطاني، فهاجمه علي الغاياتي بعنفٍ.
وكانت تلك كلها مواقف جريئة شجاعة لروح ثائرة، ضاق بها صدر الحكومة، بل وضاق بها صدر عباس العقاد الذي تساءل: "أيمكن أن تُلام الحكومة إذا ضيقت من حرية الصحافة بعد أن استفاضت الدعوة لارتكاب الجرائم؟".
الغاياتي شاعرًا
في الفترة من 1907م إلى 1910م، وهي التي قضاها الغاياتي في القاهرة كان لعمله في الصحافة أثر كبير في اتصاله بأدباء عصره، فكان يشاركهم جلساتهم ويعرض عليهم قصائده، وفي يوليو 1910 أصدر ديوانًا جمع فيه شتات مقطوعاته الشعرية وقصائده المتفرقة واختار له اسمًا ما لبث أن ذاعت فيما بعد شهرته وهو (وطنيتي).
لم تزد صفحاته عن 135 صفحة من القطع الصغير، ولم تزد قصائده عن مائة بعضها لا تتجاوز أبياته الأربعة، وكان في الديوان قصائد وطنية تندد بالاحتلال البريطاني لمصر وتصدر عن روح التمرد التي أشاعتها دعوة الزعيم مصطفى كامل وخليفته الزعيم محمد فريد.
وديوان "وطنيتي" كما يقول فتحي رضوان في كتابه "عصر ورجال" هو بلا شك: "ديوان الوطنية المصرية في الفترة ما بين سنة 1907 حتى سنة 1911" إذا قرأته اكتملت لديك صورة كاملة للعهد الذي ظهر فيه.. إذ لم تترك قصيدةٌ منها حدثًا سياسيًّا إلا وتعرضت له بروح ثائرة محبة للوطن.
لكن صحيفة المؤيد وصاحبها الشيخ علي يوسف شنت حملةً على الديوان، فلفتت إليه أنظار القصر والإنجليز، وأدركت الحكومة أنها أمام قذيفة مركزة من التحريض على الاحتلال والدعوة للثورة والاستقلال، فراحت تبحث عن الديوان في كل مكان، وأصدرت أمرًا باعتقال الغاياتي ومحمد فريد، والشيخ عبد العزيز جاويش لمشاركتهما في كتابة مقدمته، وبسبب ذلك الديوان الصغير قامت الحكومة لأول مرة بتعديل القانون ليصبح النظر في قضايا الصحافة والنشر من اختصاص محاكم الجنايات، بعد أن كان ينظر إليه بصفته "جنحة".
بدأت المأساة حين وجهت إليه النيابة تهمة (تحبيذ الجرائم وإهانة الحكومة)، فاختفى الغاياتي عن الأنظار ولم يحضر المحاكمة وحكم غيابيًّا على الغاياتي بالحبس سنة مع الأشغال.
الهجرة
نشطت السلطات في البحث عن (الغاياتي الذي غادر البلاد ظهر يوم الأربعاء متنكِّرًا في ملابس إفرنجية، فقص شاربه، ولبس نظارة سوداء، وسار بجانب ضابط تركي سهل هروبه من ميناء الإسكندرية حيث نزل بالآستانة، وبها تولى تحرير جريدة (دار الخلافة) وأخذ ينشر قصائده ومقالاته ضد السلطة الطاغية في مصر التي كانت تبحث عنه في كل مكان، وأخيرًا عرفت عنوانه في تركيا، وخوفًا من تسليمه بمعرفة الحكومة العثمانية للسلطات المصرية استقر عزمه على التوجه إلى سويسرا .
وهناك عاش على تدريس اللغة العربية بمعهد لتعليم اللغات، وقام في الوقت ذاته بمراسلة صحيفة الحزب الوطني في القاهرة والعمل مترجمًا في صحف سويسرية، ثم كاتبًا في أكبر الصحف هناك بمرتب شهري قدره ثلاثمائة فرنك، وبعد انقضاء عدة سنوات على الحكم عليه بالسجن حاول الغاياتي العودة إلى مصر، فاعتقلوه ثانية بتهمة أنه وصل إلى البلاد لتدبير الدسائس ضد الخديوي، وقاموا بترحيله إلى الخارج.
منبر الشرق
عندما قامت ثورة 1919 راح الغاياتي يدافع عنها في الخارج دفاعًا حارًّا، فقطعت الصحف السويسرية العمل عنه، فأصدر جريدةً على حسابه هي منبر الشرق كان يطبع ثلاث صفحات منها بالفرنسية وصفحة واحدة بالعربية، واستمرت الصحيفة منتظمةً في الصدور منذ عام 1922 حتى عام 1937 في ظروف بالغة الصعوبة إلى أن رجع الغاياتي بعد ذلك إلى مصر عام 37، حين انضمت مصر لعصبة الأمم المتحدة.
الغاياتي عندما كان في الخارج تزوج بفتاة سويسرية عام 1912، أعلنت إسلامها، وأسس أسرته، وزوج بناته من شباب مصريين.
العودة للوطن
ظل (الغاياتي) سنوات طويلة في سويسرا وقلبه يهفو إلى وطنه ويحنُّ إلى أهله وعشيرته، ولاحَ في الأفق ضوء جديد حين وصل إلى "مونتريه" بسويسرا وفدٌ مصريٌ فطلب إليه أن يعود إلى وطنه، وعاد إلى مصر يوم 28 يونيه 1937، وكان يوما مشهودا في حياة الغاياتى حين نزل بأسرته إلى أرض الوطن الذي غاب عنه سبعة وعشرين عامًا، عاد ومعه قلمه وجريدته (منبر الشرق) ليبدأ مرحلة جديدة من كفاحه حيث أعيد إصدار ديوانه وطنيتي وعاود إصدار منبر الشرق من القاهرة، وكان الإخوان المسلمون يلتقون على هذه المجلة يكتبون فيها، وهو ما جعل الجريدة تحيا بعد موات، وتشتهر بعد خمول وقد استمرت حتى وفاته.
وكان شعاره
باسم الكنانة واسم شعب ناهض لا باسم أحزاب ولا زعماء
ظل يزول وينقضي، أما الحِمى فـوديعـة الآباء للأبناء
وفاته:
توفي علي الغاياتي في اليوم السابع والعشرين من أغسطس عام 1956 بالقاهرة حيث دفن بها.
من شعره:
يقول في قصيدة بعنوان (ثمن الاحتلال) يهيب بالشباب أن يثور على الظلم:
أيها الشعب أفـق ولى الظلام، ولاح النور للمستبصر فانهض الآن ولا ترقب غدًا وادفع الشر بسيف الحذر
وفي قصيدة نحن و الاحتلال يقول:
كفكفي يا مصرُ دمعَ الوَجَلِ وارتقبْ يا نيلُ نَيْلَ الأملِ
جاوزَ الصبرُ المدى، والصدرُ لم يُبقِ فيه الوجدُ من مُحْتَمَل
مشكلة أو مأساة على الغاياتي أنه لم يحسب بين الشعراء، لأنه لم يكن شاعرًا عظيمًا، ولا بين أعلام الصحافة، أو النقد، لكنه يحسب كروح عابرة ثائرة مرت على أحلام مصر وحلقت بها قليلاً لأعلى، وفي أيامنا هذه يشتاق المرء كثيرًا إلى روح حية من نوع علي الغاياتي.
المراجع
- "كامل الدابي، علي الغاياتي"، مارس 4 198م.
- محمد الخولي، وطنيتي على نهر الإيست، استراحة البيان.
- أحمد الخميسي، ديوان- وطنيتي- قصة الروح الثائرة، الحوار المتمدن- العدد: 731 – 1/2/2004م.
- موقع كنانة أون لاين.