لم يرد في الأخبار الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء عن الشخص الذي أشار بتحريق خليل الله إبراهيم عليه السلام ، وإنما جاء ذلك في كتب المفسرين والمؤرخين عن بعض الصحابة والتابعين :
عن مجاهد قال : تلوت هذه الآية على عبد الله بن عمر – يعني قوله تعالى : ( قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ) الأنبياء/68 فقال :
أتدري - يا مجاهد - من الذي أشار بتحريق إبراهيم عليه السلام بالنار ؟ قال : قلت : لا . قال : رجل من أعراب فارس . قال : قلت : يا أبا عبد الرحمن ! وهل للفرس أعراب ؟ قال : نعم ، الكرد هم أعراب فارس ، فرجل منهم هو الذي أشار بتحريق إبراهيم بالنار .
رواه الطبري في " جامع البيان " (18/465)، وفي " تاريخ الرسل والملوك " (1/168) قال : حدثنا ابن حميد ، قال حدثنا سلمة ، قال حدثني محمد بن إسحاق ، عن الحسن بن دينار ، عن ليث بن أبي سليم ، عن مجاهد .
وهذا إسناد ضعيف ، بسبب الليث بن أبي سليم ، فإن أكثر النقاد على تضعيف حديثه ، وله كثير من المناكير في رواياته عن مجاهد عن ابن عمر خاصة . انظر " تهذيب التهذيب " (8/468)، " سير أعلام النبلاء " (6/179)، وفي الإسناد أيضا الحسن بن دينار متفق على ضعفه . انظر حاشية محقق " تهذيب الكمال " (6/145) ، ومحمد بن حميد الرازي ، شيخ الطبري : ضعيف جدا ، متهم بالكذب ، على سعة حفظه . انظر : تهذيب التهذيب (9/111) وما بعدها .
وعن شعيب الجبائي قال :
إن الذي قال حرقوه " هيزن "، فخسف الله به الأرض ، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة .
رواه الطبري في " جامع البيان " (9/42)، وفي " تاريخ الرسل والملوك " (1/168) قال : حدثنا القاسم ، قال : ثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : أخبرني وهب بن سليمان ، عن شعيب به .
وشعيب هذا إخباري يروي عن كتب بني إسرائيل ، كحال روايات وهب بن منبه ، وقد سئل عنه الإمام أحمد فقال : رجل قرأ الكتب ، يشبه وهبا .
ومن كان هذا حاله فأخباره التي يرويها ، ولا يكون لها شواهد من الكتاب والسنة الصحيحة تبقى موقوفة ، من غير تصديق ولا تكذيب . انظر ترجمة شعيب في " ميزان الاعتدال " (2/278)
هذا فضلا عن أن في السند إليه بعض العلل ، فوهب بن سليمان هذا لم يذكره أحد بجرح ولا تعديل ، وترجمته في " التاريخ الكبير " للبخاري (8/169)، و " الجرح والتعديل " لابن أبي حاتم (9/27)، وذكره ابن حبان في " الثقات " (7/557)
وقد تتابع كثير من المفسرين والمؤرخين على ذكر هذه الحادثة ، ولكن ليس على وجه التصديق والجزم ، وإنما على سبيل الحكاية للاستئناس والاعتبار .
يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله :
" وذلك أنهم شرعوا يجمعون حطبا من جميع ما يمكنهم من الأماكن ، فمكثوا مدة يجمعون له ، حتى إن المرأة منهم كانت إذا مرضت تنذر لئن عوفيت لتحملن حطبا لحريق ابراهيم .
ثم عمدوا إلى جوبة عظيمة ، فوضعوا فيها ذلك الحطب ، وأطلقوا فيه النار فاضطرمت وتأججت والتهبت ، وعلا لها شرر لم ير مثله قط .
ثم وضعوا ابراهيم عليه السلام في كفة منجنيق صنعه لهم رجل من الأكراد يقال له هيزن ، وكان أول من صنع المجانيق ، فخسف الله به الأرض ، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة .
ثم أخذوا يقيدونه ويكتفونه وهو يقول : لا إله إلا أنت سبحانك ، لك الحمد ، ولك الملك ، لا شريك لك .
فلما وضع الخليل عليه السلام في كفة المنجنيق مقيدا مكتوفا ثم ألقوه منه إلى النار قال : حسبنا الله ونعم الوكيل " انتهى.
" البداية والنهاية " (1/168-169)
والخلاصة : أنه لم يرد في الأدلة الصحيحة شيء عن أول من صنع المنجنيق لرمي إبراهيم عليه السلام في النار بواسطته ، ولا من أشار على قومه بتحريقه ، وإنما يحكى ذلك في كتب المؤرخين ، منقولا عن علماء أهل الكتاب ، فلا يمكننا الجزم بصدقه ولا بكذبه .
والله أعلم .