يفخر أبناء آسيا الوسطى المعاصرون بأهم المراصد الفلكية فيتاريخالحضارة الإسلامية, وهما مرصد مراغة شرقاومرصد سمرقند غرباً, وكلا المرصدين له أهميته وتاريخه العلمي, والواقع أنهما كانافي سياق منظومة من المراصد تتابع ظهورها على مدى قرون عدة.
إن الاهتمام بالأرصاد الفلكية له في الحضارة الإسلامية أسباب علميةوعملية عدة ، لقد عرف العرب جهود علماء الحضارات القديمة في الفلك, وحاولوا تدقيقهاوإعادة النظر فيها وتجاوزها إلى مزيد من المعرفة الدقيقة. وكانت الاهتمامات العلميةذات طابع ديني أيضا, وذلك لأن تحديد القبلة أمر ضروري لإقامة الصلاة في موعدهابدقة، وأدى هذا المتطلب الديني إلى اهتمام بصناعة المزاول لقياس الوقت, وإلى ظهورما يسمى باسم علم الميقات.
ولكن بحوث العلماء في الحضارة الإسلامية تجاوزت هذه المتطلبات العمليةإلى البحوث الفلكية الأساسية, وكان (المرصد) أو (بيت الرصد) أو (الرصدخانة) من أهمالمؤسسات العلمية. العلماء المبكرون كانوا يقومون بأرصادهم الفردية, ثم بدأتالمراصد تؤسس لتكون مؤسسات علمية للدراسات الفلكية العلمية ، وهناك فرق بين علمالفلك Astronomy بوصفه علماً دقيقاً يقوم على الحقائق والقياسات العلمية من جانب،وعلم التنجيم Astrology وما يرتبط به من افتراضات وتصوّرات حول الإنسان ومصيره،وعلاقة ذلك بالكواكب وحركتها من الجانب الآخر.
ثمان وعشرون حركة:
المراصد الفلكية مؤسسات علمية تختص بدراسات (علم الفلك) أو (علمالهيئة), أو (علم المدار السماوي), تقوم المراصد بالقياسات الدقيقة, وتقدم معلوماتعن حركة الكواكب يجمعها العلماء في جداول منظمة, يسمى الواحد منها باسم الزِّيج ، وهيكلمة فارسية أو باسم القانون. نجد كلمة (الزِّيج) في كتاب البتاني الذي اهتم بهالأوربيون وترجموه إلى اللاتينية, كما تعرف كلمة (القانون) بهذا المعنى عندالبيروني في كتابه: القانون المسعودي.
كانت هذه القياسات الفلكية تتم طبقاً لخطة علمية, تقسم السنة الشمسيةإلى فترات زمنية محددة, كان عددها في الأغلب ثماني وعشرين حركة, وهذا التقسيم مكّنالعلماء من مقارنة المعلومات حول الكواكب بدقة, وفي هذا السياق نجد - مثلاً - منازلالقمر, ونجد تسجيل معلومات عن الكواكب الثابتة الأخرى ليلة بعد ليلة منذ بدايةالشهر القمري وحتى نهايته.
وكانت هذه القياسات تسجل بدقة تتابع ظهور بعض الكواكبعلى الأفق يوماً بيوم, كما تسجل حركة الشمس أيضاً ، التسجيل والقياسات كانا أساساًلاستخراج القوانين العلمية.
لقد أفاد العلماء المسلمون من تراث اليونان والهنود, وأضافوا إلى ذلكمعلومات كثيرة من خلال القياسات الدقيقة والتصحيحات ، وكانت المراصد موقع العملالعلمي ، وهذه الجهود تتجاوز مجرد تسجيل المعلومات إلى التوصل إلى قوانين منتظمة،عرفوا زيج بطليموس الذي يمثل علم الفلك عند اليونان ، كما عرفوا زيج السندهند, وذكروا - أيضاً - جهود علماء الفرس في القرنين الخامس والسادس للميلاد ، وأنها سجلت في (زيجالشاه).
إن الاهتمام بالأرصاد في الحضارة الإسلامية قديم, هناك معلومات عنأرصاد مهمة قام بها علماء كبار في إطار الحضارة الإسلامية, ويبدو أن القرن الثانيالهجري/الثامن الميلادي عرف بداية هذه الجهود في مدينة جنديسابور, تلك المدينة التيكانت مركزاً قديماً مهماً لعلوم اليونان على مدى عدة قرون قبل الإسلام ، ولكنالأرصاد التي وصلت إلينا نتائجها كانت في خلافة المأمون ، الخليفة العباسي على مدىالسنوات (208-218هـ).
لقد سجلت حركة الشمس والقمر تسجيلاً دقيقاً, والمقارنة كانتفي البداية بين موقعين, مع مقارنة ذلك بالملاحظات الواردة في كتاب المجسطيلبطليموس.
وتنسب إلى عدد كبير من علماء القرن الثالث الهجري/التاسع الميلاديأرصاد متــعددة, قـام بـها بنو موسى الذين حاولوا استكمال كل كتب الفلك اليونانيةبالحصول على مخطوطاتها من البيزنطيين, كانت مواقع هذه الأرصاد بين نيسابور شرقاًودمشق غرباً, وكان الهدف عمل (زيج ممتَحَن) يمثل إعادة النظر في القوانين المتداولةعند العلماء والمأثورة عن اليونان.
أما القرن الرابع الهجري/العاشر الميلادي فقد عرف عدة أرصاد في منطقةأكبر, استوعبت أيضاً مدن أصفهان والري في إيران والقاهرة في مصر, منها رصد القوهيوأبي الوفاء البوزجاني وعبد الرحمن الصوري والخجندي ، ثم ابن يونس الذي أنجز بالقاهرة(الزيج الحاكمي) في عهد الحاكم بأمر الله.
أما في الأندلس فقد اهتم عدد من العلماءبالأرصاد, ومنهم مسلمة المجريطي الذي راجع الجداول الفلكية التي أعدها محمد بن موسىالخوارزمي وترجمت إلى اللاتينية نحو سنة 1120م, وكان تأثيره كبيراً في الغرباللاتيني.
لقد وصل إلينا وصف لبناء المراصد الفلكية, كان موقع العمل في المرصدقاعدة كبيرة ومظلمة وبها فتحة صغيرة في السقف, التداريج المرسومة تسمح بقياس ارتفاعالشمس ، وتستخدم هذه المراصد آلات رصدية متعددة, وهناك معلومات عن آلات تماثل ما كانمعروفاً عند اليونان على النحو الذي سهّل عمل مقارنات مع الأرصاد التي وصلت عنهم،وثمة معلومات عن آلات يبدو أنها من إنجاز الصين وبلاد الشرق الأقصى, وذلك مثلأنابيب الرصد التي ثبت وجودها في الصين منذ القرن السادس الميلادي وعرفتها المراصدفي الحضارة الإسلامية, ويبدو أن المسلمين حصلوا عليها من الحضارة الصينية.
وصف ابن سينا (المتوفى 428هـ/1037م) الآلات المستخدمة في المراصد،وكان تصميم الآلات الرصدية وتطويرها مهمة علمية متخصصة ، وعلى سبيل المثال كان مؤيدالدين العرضي (المتوفى 664هـ/1266م) مسئولاً عن تصميم الآلات في مرصد مراغة،وللعرضي رسالة في كيفية الأرصاد وما يحتاج إلى علمه وعمله من الطرق المؤدية إلىمعرفة عودة الكواكب، وهذه الرسالة وصلت إلينا في عدة مخطوطات، تناول العُرضي فيهاأدوات المرصد الفلكي في مراغة, وهذه الرسالة مصدر مهم لدراسة الآلات الفلكية فيالحضارة الإسلامية حتى القرن الرابع الهجري, وكانت صناعة الآلات الفلكية -وفيمقدمتها الإسطرلاب - معروفة في غرب العالم الإسلامي, وقد وصلت إلينا عدة صور متقنةلإسطرلابات في مخطوطات عربية من أقطار متعددة, بعضها من الأندلس.
ويتضح أن عناية المشرق الإسلامي بالمراصد كانت كبيرة, كان مرصد أصفهانأول مرصد في وسط آسيا وفي عهد ملكشاه (564/1072-485/1092) وكان عمر الخيام الذييعرفه العرب برباعياته ويذكرهتاريخالعلم ببحوثهالفلكية أحد علمائه ، وكان العمل في المرصد طبقاً لخطة محددة, على أساس علمي ، لاحظالعلماء أن دورة كوكب زحل تستغرق ثلاثين عاماً, وأنه الأكثر بعداً عن الأرض, فوضعتخطة الأرصاد لمدة ثلاثين عاماً ، وبدأ العمل بقوة.
أما مرصد مراغة فهو المرصد الذي أداره عالم كبير ، هو نصير الدين الطوسي (597/1201-672/1274) إلى جانب عدد كبير من علماء الفلك ومصممي الآلات الفلكية ، كانتمويل إنشاء هذا المرصد سنة 657/1259 من أموال الأوقاف ، استمر بناء المرصد أربعسنوات ، وكان يتكون من منظومة أبنية على مساحة ستة آلاف متر ، ضم المرصد مكتبة علميةمتخصصة, احتوت نحو أربعين ألف كتاب, ومسبكة لصنع آلات القياس النحاسية.
حشد العرضي - وهو المكلف بالآلات - أفضل ما عرفه العصر من آلات القياس الفلكية, وطوّرها وابتكرآلات جديدة ، كانت خطة العمل المبدئية للأرصاد لثلاثين عاماً, ولكنها اختصرت إلىاثني عشر عاماً هي دورة المشتري, وأهم إنجاز لهذا المرصد هو الزيج الإلخاني, وظلالمرصد يعمل نحو خمسين عاماً.
وارتبط تاريخه بعلماء : منهم محيي الدين المغربي, وقطب الدين شيرازي، وكان العلماء الفلكيون الذين عملوا في هذا المرصد كثيرين, وكانت هناك رغبة في جعلهذا المرصد مركزاً عالمياً, فالتقى فيه علماء من الأندلس ومصر وآسيا الصغرى, كماكان به - أيضاً - علماء من الصين يقدمون معارفهم في الطرق الصينية لحساب الأعياد،ومن أشهر هؤلاء العلماء ابن أبي شكر المغربي الأندلسي (المتوفى بعد 680هـ/1281م)كان قد عاش في مصر, ثم عمل مع نصير الدين الطوسي في المرصد ، ذكر له بروكلمان فيتاريخالأدب العربي نحو عشرين عنواناً, منها: رسالةعن تقويم أهل الصين.
مرصد سمرقند هو مرصد (ألغ بك) بدأ تأسيسه سنة( 826هـ/1420م-832هـ/1428م) بتمويل من ذلك الحاكم العظيم في وسط آسيا الذي حكمسمرقند (1409-1449م), وهو من أهم حكام الأسرة التيمورية.
كان إنشاء المرصد في إطارمنظومة مؤسسات عامة, منها خانقاه ومدرسة وقصر وقاعة العرش ومسجد كبير جدرانه وسقفهمن الخشب المقطع, وكلها كانت نماذج رائعة من فن العمارة الإسلامية في آسيا الوسطى.
أما المرصد فكان خطة وضعها نخبة من العلماء, منهم: غياث الدين جمشيد ومعين الدينالقاشاني ، وقام بقيادة العمل فيه عالم الفلك علي قوشجي, وبإشرافه وضعت الجداولالفلكية (الزيج) سنة 841هـ/1437م ، وتضم هذه الجداول أربعة أقسام: قياسات لمختلفالعصور والمناطق, ثم المواقيت, ثم مسالك النجوم, ثم موقع الأجرام الثابتة ، وتعد هذهالجداول أفضل ما وصلت إليه الحضارة الإسلامية في علم الهيئة, في إطار رؤية علميةعالمية لألغ بك الذي كان يؤثر العلوم ذات الأهمية العالمية على الدراسات القومية.
لقاء الحضارات... في المراصد:
ويبدو أن مرصد سمرقند استمر حتى سنة 1500م وكشفت آثار هذا المرصد سنة 1908م وتم ترميم القسم المتبقي منه.
لقد استمر قدر من هذه التقاليد العلمية في الحضارة الإسلامية فيموقعين متواضعين, مرصد اسطنبول, وبناء الفلكي تقي الدين ، ولم يستمر سوى عدة سنوات،وكان استمرار هذه التقاليد أيضاً في مرصد جايبور في الهند 1740م, وفي جنوب غربدلهي.
أثبتتاريخكل هذه الجهود العلميةأهمية دعم الحكومات لها بما تحتاج إليه من علماء وعاملين ومبان وأموال، وارتبطالنجاح في عصر المأمون بتمويله لأعمال الرصد ، وانتهت هذه المشروعات بوفاته.
وكانالبويهيون ووزراؤهم يمولون برامج الرصد في الري وأصفهان وشيراز, وتطلب ذلك إقامةمحطات متخصصة ، وكان دعم الفاطميين لأعمال الرصد في القاهرة مما مكّن من القيام بها.
لقاء الحضارات سمة أساسية في الأعمال العلمية, كان احترام جهودبطليموس أعظم علماء الفلك عند اليونان وكتابه المجسطي وترجمته إلى العربية سمةواضحة, بل عد كتابه في الفلك بمنزلة كتاب سيبويه في النحو ، ولكن علماء الحضاراتالإسلامية لم يكتفوا بذلك المصدر العلمي مهما علت قيمته, وعرفوا - أيضاً - ما كانعند الهنود (زيج السند هند). لم يكن هدفهم النقل والاقتباس والتلخيص, بل كان عليهمالتثبت من دقة المعلومات بطريقة علمية للوصول من ذلك كله إلى (الزيج الممتحن)بقوانين دقيقة.
ومن هنا أهمية المنهج العلمي للحصول على معلومات جديدة وتحليلهاللوصول إلى قوانين علمية, وهذا ما يتم بقياسات، إن تطوير الآلات جزء مهم من مكوناتالمرصد, إلى جانب أن المبنى لابد أن يكون مناسباً ، المرصد ذو المبنى السداسي الذيصممه الخجندي في القرن الرابع الهجري/العاشر الميلادي في مدينة الري كان بمواصفاتخاصة (5ر3 x 10 x 20 متراً), ودخول الشمس من فتحة محددة ، وبالداخل تتضح القياساتعلى صفائح من النحاس ، وقد ذكر ابن سينا عدة آلات في كتابه (في الآلات الرصدية( وفيه وصف لآلة قياس بها مسطرة ذات مفصل عمودي تسجل الدورات حول المركز ، وهناك آلةبجهاز لتصويب النظر مع إمكان قراءة الدقائق والثواني.
لقد استمر كل مرصد من هذه المراصد عدداً من السنين, وحدثت بعدها نهايةكل مرصد, فكان توقف الجهود والانقطاع العلمي بين الأجيال وانكماش الخبرة في هذاالمجال في الحضارة الإسلامية.
كان توقف العمل بوفاة الحاكم الراعي لذلك العمل ظاهرةمتكررة ، كان مرصد الخجندي في الري بتمويل من فخر الدولة انتهى بوفاته, وقد عمل مرصدأصفهان ثلاثين عاما, ثم مرصد مراغة خمسين عاماً, واستمر عمل مرصد سمرقند أقل منسبعين عاماً, وبذلك انتهت منظومة المراصد الفلكية الكبرى في الحضارة الإسلامية.
وهناك تساؤل طرح عن لغة العمل في هذه المراصد, هل كانت العربية أمالفارسية أم إحدى اللغات التركية ؟ وإذا تصوّرنا أن لغة العمل في مؤسسة علمية هي - أيضاً - لغة المطبوعات العلمية التي يعدها العلماء المنتمون إليها, فقد تكونالإجابة ممكنة من خلال النظر في اللغة التي كتبت بها هذه المؤلفات، ألّف نصير الدينالطّوسي في الفلك خمسة عشر كتاباً, وذكرها بروكلمان في ترجمته للطوسي فيتاريخالأدب العربي ، ومن هذه الكتب نجد باللغة العربية كتباًتقدم المعارف العلمية الأساسية, وهي: تحرير المجسطي, وكتاب البارع في علوم التقويم،وحركات الأفلاك, ورسالة بمدار عطارد وحجمه ومسافته, ومختصر في علم التنجيم ومعرفةالتقويم.
ومن الكتب عربية اللغة أعمال أخرى تتضمن تحريرات لكتب يونانية سبقتترجمتها إلى العربية, منها: تحرير ظاهرات الفلك لإقليدس, وأوتوكليوس في الطلوعوالغروب, وكتاب المطالع, ورسالة الأيام والليالي, وأرسترخوس في جرمي النيرينوبعديهما, ونزهة الناظر.
أما الكتب المؤلفة لتهدى إلى الملوك أو تحمل أسماءهم فكانت بالفارسية،وهي التذكرة الناصرية الذي يوجد مخطوطاً في الأصل الفارسي ويوجد أيضاً في ترجمةعربية, ومنها أيضاً الزيج الإيلخاني الذي وصل إلى الأصل الفارسي وفي ترجمة عربية،ومنها فصول في التقويم بالفارسية, ومنها كتاب عن الإسطرلاب بالفارسية.
وهناك كتبحررت أولاً بالفارسية ثم نقلت إلى العربية, مثل: زبدة الإدراك في هيئة الأفلاك.
من هذه المعلومات نرجح كون العربية لغة العمل العلمي التي تقدم بهاكتب أساسية وتحرر بها مترجمات قديمة عن اليونانية, وأن السياق الحكومي كان يتطلبتأليف بعض الكتب الفارسية, وقد يكون كتاب تحرير كتاب الثمرة لبطلميوس مثالاً واضحاًلهذه الثنائية, فقد حرر بالعربية في مراغة, ثم ترجم إلى الفارسية وشُرح.
ويبدو أنمـتطلبات قارئ الفارسية جعلت الطوسى نفســـه يترجم كتاب صور الكواكب الـــثابتةللـــصّوفي من العربـــية إلى الفارســــية.
وفوق هذا كله, فإن حركة العلماء العرب إلى المرصد تكشف عن وجود قويللغة العربية في العمل العلمي في داخل المرصد ، ومن هؤلاء ابن أبي شكر القرطبي(المتوفى بعد سنة 680هـ/1281م) عاش في مصر, ولكنه بعد ذلك عمل مع نصير الدين الطوسيفي المرصد الفلكي في مراغة ، وله عشرون كتاباً في الفلك والرياضيات تتصل بتراثاليونان والصين والأيغور, وهم شعب صغير لغته من اللغات التركية ، ويعيش في الصين قربالحدود مع كازاخستان ، نجد كتبه تتناول هندسة إقليدس ومخروطات أبولونيوس, وكرياتمينلاوس وكريات تيودوسيوس وخلاصة المجسطي لبطليموس, كما ألف أيضاً رسالة في تقويمأهل الصين والأيغور, وكل هذه المؤلفات باللغة العربية.
وكانت هذه المراصد مجال متابعة واضحة من خارج العالم الإسلامي ، ويبدوأن المهتمين بالفلك في الصين ومنغوليا كانوا يتابعون تلك الجهود ، ويوضح أحدالمخطوطات الفلكية طبيعة العلاقة العلمية بين آسيا الوسطى والصين ومنغوليا.
ذكربروكلمان كتاباً لأبي محمد عطاء بن أحمد السمرقندي من سنة 764هـ/1462م, كتبه لأميرمنغولي في موضوع حساب الزمن وبه لوحات فلكية ، والطريف أن المخطوط بالعربية بخطالمؤلف, وعليه ملاحظات بالصينية والمغولية.
انتقلت جهود علماء الفلك المسلمين إلى أوربا من خلال الترجمة, ومعهاالقياسات التي قاموا بها والقوانين التي توصلوا إليها ، وكانت الجداول التي يضعهاالعلماء في الأندلس أو في المشرق تجد طريقها بسرعة إلى أوربا الغربية.
وكان اقتباسالجداول العربية قوياً منذ القرن السادس الهجري/الثاني عشر الميلادي, مع هذهالترجمات انتقلت كلمات عربية كثيرة في علم الفلك إلى اللغات الأوربية, ودرس اللغويالألماني Kunitzsch أسماء النجوم العربية في أوربا 1959.
وكان لهذه الجهود العربيةفي علم الفلك أثر كبير في النهضة العلمية في أوربا, وقد بدأت الدراسات حول هذاالموضوع.
ولعل أهم ما تكشف عنه البحوث هو تلك الصلة بين بحوث نصير الدين الطوسيفي مرصد مراغة وثورة كوبرنيكوس في علم الفلك, وعنها كتب ادوارد ستيوارت كندي (1966), وهارتنر (1971), وفي هذا السياق لاحظ مؤرخو العلم أن إحدى العمليات التقنيةالتي استخدمها كوبرنيكوس قد عرضها نصير الدين الطوسي (1201-1274م) في مؤلفه الكبير: (التذكرة في علم الهيئة), لذلك سمّاها الباحثون المعاصرون (مزدوجة الطوسي) (1/263) .
وكل هذا التقدم في علم الفلك في الحضارة الإسلامية لم تتعهده الأجيال التالية, وحدثذلك التوقف عن النمو وما صاحب ذلك من انقطاع معرفي, وأصبح ذلك التقدم مرحلة ماضيةفيتاريخالعلم.
إن التقدم في علم الفلك ارتبط بهذه المراصد في إطار الحضارةالإسلامية ، وعندما زار رفاعة الطهطاوي (1801/1872) باريس - انتبه, وهو المسلم الذيعرف أهمية (علم الميقات) , إلى المرصد الوطني الفرنسي بوصفه إحدى المؤسسات العلميةالمهمة, وسمّاه (الرصد السلطاني) .
ولكن إحياء المعرفة بالتقدم في الحضارة الإسلامية ضروري لتصحيح الوعيالمعاصر ، وإذا كان العلامة فؤاد سزكين (جامعة فرانكفورت) يقوم حالياً بالإشراف علىتنفيذ مشروع جليل لإعادة صناعة الآلات التي أفاد منها العلماء في الحضارةالإسلامية, وفي مقدمتها الإسطرلاب, فإن التخطيط لعمل متحف أو متاحف للعلوم فيالحضارة الإسلامية يضم أيضاً منظومة كاملة من كل ما يمكن عرضه من نماذج حقيقية أومصنّعة تمثل الإنجاز العلمي والتقني إلى جانب الإبداع الجمالي ، هو مشروع للمستقبل فيعصر المنافسة بين الشعوب والعولمة.
وهذا بطبيعة الحال إلى جانب إعادة الاهتمام بهذاالموضوع في العالم الإسلامي بصفة عامة, وفي منطقة آسيا الوسطى بصفة خاصة, وهي تسعىاليوم إلى عهد جديد يقوم على العمل والتقدم ولقاء الحضارات..
المصدر : مجلة العربي الكويتية ـ العدد 5271/10/2002