مقدمة :
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على محمد خاتم الأنبياء والمرسلين ، وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه إلى يوم الدين ، وبعد ... فإن شهر شوال يهل علينا كل عام ليذكرنا بغزوة أحد ، وما حل بالمسلمين فيها نتيجة مخالفة أمر النبي صلى الله عليه وسلم ، وكأن الذكريات تقول لنا : قد رأيتم عاقبة الطاعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم في النصر المبين الذي حققه المسلمون في غزوة بدر رغم قلة عددهم وعتادهم ، تلك المعركة التي دارت رحاها في رمضان ، ورأيتم عاقبة المعصية ومخالفة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما حل بالمسلمين من هزيمة في أحد ، وهي المعركة التي وقعت في شوال ، الشهر الذي يعقب مباشرة شهر الطاعة والإنابة والإقبال على الله سبحانه وتعالى ..
تلك الهزيمة التي حلت بعد نصر مبين في بداية المعركة وقبل أن تحصل المخالفة لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكادت أن تودي بحياة النبي صلى الله عليه وسلم نفسه ، وتقتلع شوكة الإسلام ، لولا لطف الله سبحانه وتعالى ..
وكأن الذكريات تقول لنا : احذروا المعصية بعد الطاعة ، واحذروا المخالفة بعد الاستجابة ، وإلا حلت بكم الهزائم .
دوافع تلك الغزوة :
كان الدافع الأول لتلك الغزوة هو رغبة سادة المشركين في مكة في الانتقام من المسلمين بعدما حلت بهم الهزيمة النكراء يوم بدر , ومحاولة استرجاع هيبتهم أمام العرب بعد الذي أصابهم ؛ إضافة إلى قيام كعب بن الأشرف اليهودي ببث الحمية فيهم ، فقد ذهب إلى مكة , وأخذ يحرض هؤلاء السادة على الثأر من المسلمين , وصار ينشد بينهم الأشعار ، حتى ألهب مشاعرهم ، فبدءوا يعدون العدة لذلك , فأوقفوا أموال القافلة التي كانت سببا في الحرب يوم بدر للإنفاق على المعركة المرتقبة , وقالوا لأصحاب الأموال المساهمين فيها : " يا معشر قريش، إن محمداً قد وَتَرَكُم وقتل خياركم، فأعينونا بهذا المال على حربه ؛ لعلنا ندرك منه ثأراً، فأجابوا لذلك" (1).
وباعوها فكانت ألف بعير، فضلا عن المال النقدي الذي قدر بخمسين ألف دينار ذهبا ، تلك الأموال التي أخبر الله سبحانه وتعالى أنها لن تعود عليهم إلا بالحسرة فقال عز وجل " إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ " [الأنفال : 36] .
ثم أخذوا يشجعون الناس على المشاركة في غزو المسلمين , فاستجاب لهم كل حاقد على الإسلام من الأحابيش وكنانة وأهل تهامة، وحثوا الخطباء والشعراء على تحريض الناس على الخروج معهم أو المساهمة في حرب المسلمين ،مستغلين حاجة فقراء الناس إلى مساعدتهم المادية , فقد أغرى صفوان بن أمية أبا عزة الشاعر ـ الذي كان قد أسر في بدر، ومَنَّ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم , وأطلق سراحه بغير فدية، وأخذ منه العهد بألا يقوم ضده ـ أغراه على أن يقوم بتحريض القبائل ضد المسلمين، وعاهده أنه إن رجع من الغزوة حياً يغنيه، وأن يكفل بناته .
فقام أبو عزة بتحريض القبائل بأشعاره التي كانت تذكي حفائظهم ، حتى اجتمع لهم قرابة ثلاثة آلاف مقاتل , وثلاثة آلاف بعير ومائتا فرس وسبعمائة درع ..
زحف المشركين إلى المدينة :
وبعد أن توفر لهم هذا الجمع وتلكم العدة جعلوا قيادتهم إلى أبي سفيان بن حرب ، ثم خرجوا متوجهين ناحية المدينة , وهناك عسكروا قرب جبل " أحد " وتركوا إبلهم وفرسانهم ترعى في زروع المدينة حتى أفسدت الكثير منها .
وكانت أخبارهم قد وصلت إلى النبي صلى الله عليه وسلم قبل ذلك عن طريق عمه العباس في مكة, فعقد اجتماعا موسعا لأصحابه لأخذ رأيهم في أسلوب المواجهة , فرأى بعضهم أن يخرج إليهم سريعا , ويلتقي بهم خارج حدود المدينة ، وقالوا : يا رسول اللّه لا نحب أَن تَرجع قريش إلَى قَومها فيقولون: حصرنا محمدا في حصون يثرب وطرقاتها , فيكون هذا جرأَة لقريش , وقَد وطئوا سعفَنَا فَإِذَا لم نَذبّ ( ندافع)عن عرضنا وأرضنا فعمن ندافع , وقد كنا يا رسول اللّه في جاهليتنا والعرب يأتوننا ، ولا يطمعون بهذا منا حتى نخرج إليهم بأسيافنا حتى نذبهم عنا ، فنحن اليوم أحق إذ أيدنا الله بك ، وعرفنا مصيرنا ، ولا نحصر أنفسنا في بيوتنا ..
وقال بعضهم : يا رسول الله إن قريشا قد مكثت حولا تجمع الجموع وتستجلب العرب في بواديها ومن تبعها من أحابيشها ، ثم جاءونا قد قادوا الخيل وامتطوا الإبل حتى نزلوا بساحتنا ، فإن حصرونا في بيوتنا وحصوننا ثم رجعوا وافرين لم يصب منهم أحد جرأهم ذلك حتى يشنوا الغارات علينا ، ويصيبوا طرقاتنا ، ويضعوا العيون والأرصاد علينا ، مع ما قد صنعوا بحروثنا ، ويجترئ علينا العرب حولنا حتى يطمعوا فينا ؛ إذا رءونا لم نخرج إليهم فنذبهم عن جوارنا ، وعسى الله أن يظفرنا بهم ، أو تكون الأخرى فهي الشهادة.
ورأى البعض أن يحصنوا أنفسهم داخل المدينة ويغلقوا طرقاتها الرئيسية , فإذا ما جاء الأعداء لم يجدوا إلى الدخول للمدينة سبيلا , ورماهم الولدان والنساء من فوق الحصون , وقاتلهم الرجال في الأزقة حتى يردوهم خاسئين , وكان رسول الله يؤيد هذا الرأي , وأيده أيضا عبد الله بن أبي كبير المنافقين .
وقال أحد المتحفزين لهذا الرأي : يا رسول الله كنا نقاتل في الجاهلية فيها ( أي المدينة ) ونجعل النساء والذراري في هذه الحصون ، ونجعل معهم الحجارة ، والله لربما مكث الولدان شهرا ينقلون الحجارة إعدادا لعدونا ، ونشبك المدينة بالبنيان فتكون كالحصن من كل ناحية, وترمي المرأة والصبي من فوق الحصون ، ونقاتل بأسيافنا في السكك ، يا رسول الله إن مدينتنا عذراء ما فضت علينا قط ، وما خرجنا إلى عدونا قط إلا أصاب منا ، وما دخل علينا قط إلا أصبناه , فدعهم يا رسول الله فإنهم إن أقاموا أقاموا بشر محبس ، وإن رجعوا رجعوا خائبين مغلوبين لم ينالوا منا خيرا.
لكن رسول الله لما رأى أن الأغلبية تأبى إلا الخروج نزل على رأيهم , ودخل صلى الله عليه وسلم بيته ليلبس ملابس القتال , فقال بعض من كانوا يشيرون عليه بالخروج : لعلنا استكرهناه على الخروج , وما كان لنا أَن نلح على رسول اللّه في أَمرٍ يهوى خلافه , والوحي ينزِل عليهِ من السماء فردوا الأمر إليه ، فما أمركم فافعلوه وما رأيتم له فيه هوى أو رأي فأطيعوه فبينما القوم على ذلك من الأمر إذ خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم قد لبس لأمته وقد لبس الدرع فأظهرها ، فقالوا : يا رسول الله ما كان لنا أن نخالفك فاصنع ما بدا لك ، وما كان لنا أن نستكرهك والأمر إلى الله ثم إليك فقال : " قد دعوتكم إلى هذا الحديث فأبيتم ولا ينبغي لنبي لبس لأمته أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبين أعدائه " ثم وعظ الناس وأمرهم بالجد والجهاد وأخبرهم أن لهم النصر ما صبروا وأطاعوا أمره ..
ثم أمرهم بالتهيؤ لعدوهم وصلى بهم العصر ، وحشد الناس ، وحضر من كان يسكن في عوالي المدينة ، وقد لبسوا السلاح ، وأقبل ابن أبي فنزل ناحية من العسكر فجعل حلفاؤه ومن معه من المنافقين يقولون له : أشرت عليه بالرأي ونصحته وأخبرته أن هذا رأي من مضى من آبائك وكان ذلك رأيه فأبى أن يقبله ، وأطاع الغلمان الذين معه فصادفوا من ابن أبي نفاقا وغشا(2) .
تأمين رسول الله المدينة قبل الخروج منها :
وقبل خروجه صلى الله عليه وسلم من المدينة عين حامية لها,جعل فيها الشباب الذين لم يجيزهم في الغزو لصغر سنهم وكبار السن , وجعل محمد بن مسلمة أميرا على هذه الحامية؛ خوفا من أن يطرقها طارق , وأناب عنه من يدير شئون الناس حتى يرجع , وكانت تلك عادته في كل سرية أو غزوة يغزوها ..
ثم سار صلى الله عليه وسلم حتى نزل مكانا يسمى " الشيخين " وعين دورية لحراسة الجيش في الليل , ونام صلى الله عليه وسلم حتى أدلج ، فلما كان في السحر قال صلى الله عليه وسلم : أين الأدلاء ؟ من رجل يدلنا على الطريق ويخرجنا على طريق لا يمر بالقوم ؟ فقال أحد أصحابه وهو" أبو حثمة الحارثي ": أَنا يا رسول الله! فسار رسول الله حتى نزل إلى جبل " أحد " حيث يرى جيش المشركين , وقد حانت الصلاة فأمر بلالا فأذن وأقام وصلى بأصحابه الصبح (3) .
انسحاب المنافقين من ساحة القتال قبل بدئه :
وقبل أن يلتقي الفريقان عاد ابن أبي بمن معه من المنافقين , وكانوا حوالي ثلاث مائة , وكأنهم كانوا متفقين مع المشركين على ذلك , فتبعهم أحد الأنصار وهو عبد الله بن حرام , ونصحهم بالثبات مع رسول الله والدفاع عن المدينة إن لم يكن إيمانا به , فرد عليه بأنه لن يحدث قتالا , وقال : لو نعلم أنه سيكون قتالا ما انصرفنا , فأنزل الله في شأنهم قوله تعالى " ولِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ " [آل عمران : 167]..
وبقي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قرابة سبعمائة مقاتل فقط ,أمام ثلاثة آلاف مقاتل للمشركين , ورغم ذلك لم يتأثر صلى الله عليه وسلم , وهيئ نفسه على أن يلقاهم بهذا العدد الذي معه , ونبه المسلمين إلى أن النصر سيكون معهم إن هم صبروا وأطاعوا أمره .
خطة رسول الله لخوض المعركة :
ثم بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم في تعبئة جيشه، فهيأهم صفوفاً للقتال، واختار منهم فصيلة من الرماة الماهرين ، قوامها خمسون مقاتلاً، وأعطي قيادتها لعبد الله بن جبير بن النعمان الأنصاري ، وأمرهم بالتمركز على جبل يقع جنوب شرق معسكر المسلمين، على بعد مائة وخمسين متراً من مقر الجيش الإسلامي, ثم استقبل المدينة ، وجعل جيش المشركين أمامه , أي بينه وبين المدينة , ثم جعل ظهره إلى هضاب جبل أحد والرماة فوقه .
وتقدم رسول الله صلى الله عليه وسم إلى الرماة فقال :" احموا لنا ظهورنا ، فإنا نخاف أن نؤتى من ورائنا ، والزموا مكانكم لا تبرحوا منه ، وإن رأيتمونا نهزمهم حتى ندخل عسكرهم فلا تفارقوا مكانكم ، وإن رأيتمونا نقتل فلا تعينوننا ولا تدفعوا عنا ، اللهم إني أشهدك عليهم "..(4).
وفي رواية البخاري أنه قال: " إن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا مكانكم هذا حتى أرسل إليكم، وإن رأيتمونا هزمنا القوم ووطأناهم فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم.. " (5)..
ثم أمن الرسول صلى الله عليه وسلم جبهته من الخلف , في الوقت الذي جعل فيه المشركين مضطربين خوفا من أن يؤتوا من جهة المدينة , ثم صف المقاتلين ، وبين لكل مجموعة ما تقوم به , كما حكى القرآن الكريم في قول الله عز وجل " وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ " [آل عمران : 121] .
ثم خطبهم فقال : " يا أيها الناس أوصيكم بما أوصاني الله في كتابه من العمل بطاعته والتناهي عن محارمه ، ثم إنكم اليوم بمنزل أجر وذخر لمن ذكر الذي عليه , ثم وطن نفسه له على الصبر واليقين والجد والنشاط ، فإن جهاد العدو شديد ، شديد كربه ، قليل من يصير عليه إلا من عزم الله رشده ، فإن الله مع من أطاعه ، وإن الشيطان مع من عصاه ، فافتتحوا أعمالكم بالصبر على الجهاد ، والتمسوا بذلك ما وعدكم الله ، وعليكم بالذي أمركم به ، فإني حريص على رشدكم ، فإن الاختلاف والتنازع والتثبيط من أمر العجز والضعف مما لا يحب الله ، ولا يعطي عليه النصر ولا الظفر ، يا أيها الناس جدد في صدري أن من كان على حرام فرق الله بينه وبينه ، ومن رغب له عنه غفر الله ذنبه " (6).
ثم بدأ يثير في نفوس المسلمين الحمية للجهاد والاستبسال , فعرض سيفا من سيوفه وقال : من يأخذ هذا السف بحقه ؟ فقال " أبو دجانة " : أنا آخذه بحقه , وأبدى هذا الرجل فيما بعد من الصمود ما أثار انتباه كل من حوله .
وقبل أن ينشب القتال جاء رجل آخر من منافقي المدينة ويسمى " أبو عامر الراهب " وكان قد انضم إلى المشركين بخمسين من أتباعه ـ وكان يحسب نفسه السيد المطاع ـ وأراد أن يفرق بين صفوف المسلمين فنادى يا آل أَوس أَنا أَبو عامر، فقالُوا : لا مرحبا بك ولا أَهلاً يا فاسق، فقال: لَقد أَصاب قومي بعدي شر ، ثم قام برجم المسلمين هو وعبيد أَهل مكةَ بالحجارة " فرد عليه المسلمون حتى ولى وأَصحابه , وفشلت خطته في التفريق بين جيش المسلمين , ولم ينجح في كسب رجل واحد إلى صفه .
حرص رسول الله على عدم مبادأة المشركين بالقتال :
وكما حدث في بدر رفض رسول الله أن يبدأ أصحابه القتال , وقال لا تبدءوهم بقتال حتى آمركم , فاستجابوا لأمره , حتى إذا خرج الرجل الذي يحمل لواء المشركين وهو" طلحة بن أَبى طلحة " ودعا إلى المبارَزِة ، فتقدم إليه الزبير بن العوام (ابن عمة رسول الله ) فلم يمهله ووثب إليه وثبة الليث حتى أنزله من على جمله وذبحه بسيفه.
فحمل لواء المشركين بعده أخوه أبو شيبة عثمان بن أبي طلحة، وتقدم للقتال وهو يتبختر فخرا , فحمل عليه حمزة بن عبد المطلب فضربه على عاتقه ضربة بترت يده مع كتفه، حتى وصلت إلى سرته، فبانت رئته.
فأخذ اللواء بعده أبو سعد بن أبي طلحة، فرماه سعد بن أبي وقاص بسهم أصاب حنجرته، فأُدْلِعَ لسانُهُ ومات لحينه , ثم أمر رسول الله أصحابه بأن يحملوا على القوم , واشتدت المعركة ضراوة , وكلما تعاقب على حمل اللواء منهم رجل قُتل , حتى بقي ملقى على الأرض لا يجد من يحمله بعد أن قتل منهم في سبيل حمله عشرة فرسان , فحملته امرأة منهم لما رأت الرجال يحجمون عن حمله .
نصر حاسم :
ودارت الدائرة على المشركين , واشتدت وطأة القتال عليهم , كما حكى الله عز وجل في قوله : " وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسّونَهُمْ بِإِذْنِهِ " أي تقتلونهم كما وعدكم إن صبرتم ..
وولى المشركون الأدبار حتى قال أحد الصحابة وهو "البراء بن عازب ": فهربوا حتى رأيت النساء يشتددن في الجبل، يرفعن سوقهن قد بدت خلاخيلهن , وتبع المسلمون المشركين يضعون فيهم السلاح ، ويجمعون الغنائم .(7).
وقد أدهش هذا النصر الحاسم من شاركوا في القتال حتى قال أحد الصحابة : ما ظفر الله نبيه في موطن قط ما ظفره وأصحابه يوم أحد ، لقد قتل أصحاب اللواء ، وانكشف المشركون منهزمين لا يلوون ونساؤهم يدعون بالويل بعد ضرب الدفاف والفرح(8) .
مخالفة الرماة أمر رسول الله وأثر ذلك في تغير مسار المعركة :
وما إن رأى المسلمون النصر وأحسوا بحلاوته حتى حدث ما حذر منه الرسول صلى الله عليه وسلم , إذ ترك الرماة أماكنهم , ونزلوا يشاركون إخوانهم فرحة النصر , ويجمعون معهم ما خلف المشركون من أموال ومتاع , ولما نهاهم قائدهم عن ذلك , وقال لهم : إن رسول الله أمرنا ألا نبرح أماكننا في حال من الأحوال قالوا : لم يرد رسول الله هذا , وَقد أذل اللّه المشركين، وهزمهم فما مقامنا هاهنا ، فتركوه في عشرة من أصحابه ورحلوا ؛ مما جرأ خالد بن الوليد (وكان محاربا ماهرا بكل ما تعنيه هذه الكلمة )على أن يدور بمن معه ، ويطوق المسلمين من الخلف , بعد أن رأى ظهرهم قد عري من الرماة , وأن أغلبهم اشتغل بجمع الغنائم ,فعاد باقي المشركين الفارين ليحصروا المسلمين بينهم , ومع هول المفاجئة غير المتوقعة اضطربت أوضاع المسلمين واختل توازنهم ,ودارت الدائرة على المسلمين , وقُتل بعضهم وأصيبوا بأيدي المسلمين أنفسهم .
وتفرقوا في الجبال ولم يبق مع رسول الله إلا عدد قليل , وفقدوا قرابة سبعين من خيرتهم , وعلى رأسهم حمزة أسد الله , إذ هوت به صخرة من سرعة حركته وهو لا يدري , فسلط عيه وحشي (أحد العبيد السود ) حربة نفذت في بطنه إلى أحشائه فانتزعها حمزة بيده لكن فارق الحياة بعدها , وفقدوا أيضا مصعب بن عمير الذي أسس دولة الإسلام بالمدينة والداعي الأول بها , وأصيب رسول الله نفسه في رأسه وفمه بعد أن استشهد دونه قرابة سبعة أو ثمانية من أصحابه , وجرح آخرون أمام تزاحم المشركين على قتله .
وحفظ الله للمسلمين هذا المشهد المؤلم , ليكون (والله أعلم بمراده )أمام أعينهم في كل حين فيحذروا تكراره فقال تعالى : " حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون " يقصد الرماة الذين عصوا أمر الرسول بعدما رءوا النصر " منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ثم صرفكم عنهم ليبتليكم " أي ألهكم عن متابعة الأعداء والانتباه لهم .
ثم وصف سبحانه حال باقي المسلمين وما وصلوا إليه نتيجة للخطأ السابق ذكره فقال عز وجل : " إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أحَدٍ " أي تصعدون في الجبال هاربين من أعدائكم , ولا تلوون على أحد من الدهش والخوف والرعب "وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ " أي يدعوكم إلى ترك الفرار من الأعداء، وإلى الرجعة والعودة إليه , إذ كان يدعوهم قائلا : إليّ عباد اللّه، إليّ عباد اللّه " فأثابكم غما بغم لكيلا تحزنوا على ما فاتكم ولا ما أصابكم والله خبير بما تعملون ".
غزوة أحد درس لن ينسى :
وهكذا انتهت غزوة أحد بتلك النتيجة المؤلمة وغير المتوقعة ؛ بسبب اختلاف الرماة على أنفسهم , وفشلهم في الانصياع لأمر النبي صلى الله عليه وسلم, وأحسب أن الله شاء أن يقدم للمسلمين وهم في بداية حياتهم الجهادية في هذه الغزوة درسا مضمونه ( والله أعلم ) :
1 ـ أن التضرع إلى الله وطاعة رسوله هي سبيل النصر الأول , وأن الغفلة ومخالفة أمر رسول الله تكون سببا في الحرمان من النصر المؤكد مهما كانت أسبابه قائمة متوفرة , وأن أي خطأ ترتكبه فئة من المسلمين قد تكون عاقبته وخيمة , ولذلك لما تعجب البعض مما أصابهم , قال الله لهم "أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَـذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ". [آل عمران : 165]
2ـ كما نبه سبحانه وتعالى إلى أن هزيمة المسلمين أمر وارد ,وقد حدث مع الأمم السالفة من المؤمنين فقال سبحانه وتعالى " وكأيّن من نبيٍّ قاتلَ معهُ رِبّيّونَ كثيرٌ فما وهَنُوا لِما أصابَهُم في سبيل الله وما ضَعُفُوا ومَا استكانوا واللهُ يُحِبُّ الصَّابرينَ" . [آل عمران : 146]
وهذا لا يؤثر على الإسلام في شيء , بل قد يكون فيه خير للمسلمين إذا ما استفادوا من أخطائهم , وتعلموا كيف يواجهون الشدائد والصعاب , وتصرفوا وقت الأزمات تصرف النبي صلى الله عليه وسلم الذي وقف في بضعة عشر رجلا بعد فرار الناس عنه ليواجه الجموع الغفيرة , ويتلقى السهام والنبال التي تنهال عليه من كل اتجاه دون أن يعبأ بها ، واستطاع أن يعيد الفارين إلى ساحة القتال , مما جعل المشركين يرضون بما حققوه من نصر وينصرفون قبل أن ترجح كفة المسلمين عليهم مرة أخرى, وبعد أن نصحهم صفوان بن أمية بقوله َ:" قد أصبتم القوم فانصرفوا فلا تدخلوا عليهم وأنتم كالون ولكم الظفر ، فإنكم لا تدرون ما يغشاكم"(9) .
وخرج إليهم صلى الله عليه وسلم في اليوم التالي لانتهاء المعركة رغم الجهد الذي لحقه وما كان يعانيه من آلام الجراح التي أصابته, وتبعهم إلى مكان يسمى " حمراء الأسد " يبعد عن المدينة ثمانية أميال ,وظفر فيها برجلين من جيش المشركين , فبلغ ذلك أبا سفيان فدبَّ الرعب في قلبه وجد في سيره إلى مكة, وأقام - صلّى الله عليه وسلَّم- فيها ثلاثة أيّام ؛ ليشعر من حوله أن نتيجة المعركة لم تؤثر على قوته .
وإن أصيب المسلمون في هذه الغزوة فقد لحق المشركين مثل ذلك ؛فقال تعالى " إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله , وتلك الأيام نداولها بين الناس " فالأيام دول ، وستكون كفة المسلمين هي الراجحة دائما ما أطاعوا ربهم واتبعوا نبيهم فليستبشروا بذلك , لأن الله عز وجل قال : "ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين " . [آل عمران : 139]
3 ـ وأن بقاء المسلم وثباته على الإيمان ينبغي ألا يرتبط بحياة أحد ولو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم , وإنما هو دائم بدوام الله وحده , وقد أيقظ الله هذا الشعور في قلوب المسمين لما قيل : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل في المعركة فأصيب بعض المسلمين بالإحباط , فقال تعالى لهم " وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ" [آل عمران : 144] .
وبعد تحليل الله عز وجل لأحداث المعركة ، وهو الرحمن الرحيم , أعلم الرماة من المسلمين الذين كانوا سبا في خسارة المعركة بأنه قد عفا عنهم , فالزلل من طبيعة النفس البشرية , فقال سبحانه وتعالى " وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ " [آل عمران : 152].
ولم يؤنب رسول الله صلى الله عليه وسلم هؤلاء الرماة بعد ذلك , ولم يعقد لهم أي محاكمة , مكتفيا بعتاب الله لهم ، فالخطأ من النفس البشرية في مثل تلك الظروف أمر وارد .
وبعد أن اطمأن صلى الله عليه وسلم على رحيل المشركين إلى ديارهم شرع في دفن من استشهد من أصحابه , فشق لهم القبور , وكان يكفن كل واحد في ثيابه , فلما جيء إليه بجثمان عمه حمزة بن عبد المطلب ـ رضي الله عنه ـ نظر إليه ، وقد مثل به وقطعت بعض أعضائه ، وهذا مشهد لم يره من قبل ، فاشتد عليه المصاب , وبدافع من الغضب قال صلى الله عليه وسلم : " والله لئن أظفرني الله عليهم أو مكنني منهم لأمثلن بسبعين منهم " فأنزل الله عليه في الحال قوله تعالى " وإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ" [النحل : 126] وقوله عز وجل : " خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ" [الأعراف : 199] فقال جبريل عليه السلام : " إن الله أمرك أن تعفو عمن ظلمك، وتعطي من حرمك، وتصل من قطعك " فنهاه حتى عن رد الإساءة بالإساءة , وإذا كان فعلهم هذا يستوجب الثأر فإن ذلك لا يكون بدافع من حب الانتقام , لذلك قال الله تعالى " لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ" [آل عمران : 128]..
وبعد أن فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من دفنهم قال : " أنا شهيد على هؤلاء , ما من جريح يجرح في سبيل الله إلا وبعثه الله يوم القيامة يدمي جرحه , اللون لون الدم , والريح ريح مسك " (10) .
تضرع رسول الله إلى ربه :
وقبيل أن ينصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعا إلى المدينة صف أصحابه , وأخذ يدعو الله سبحانه وتعالى , فهو لا ينساه في سراء ولا ضراء , وكان مما قاله :" اللهم لك الحمد كله، اللهم لا قابض لما بسطت، ولا باسط لما قبضت، ولا هادى لمن أضللت، ولا مضل لمن هديت، ولا معطى لما منعت ولا مانع لما أعطيت، ولا مقرب لما باعدت ولا مبعد لما قربت، اللهم ابسط علينا من بركاتك ورحمتك وفضلك ورزقك ، اللهم إني أسألك النعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول، اللهم إني أسألك النعيم يوم العيلة والأمن يوم الخوف، اللهم إني عائذ بك من شر ما أعطيتنا وشر ما منعتنا، اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين، اللهم توفنا مسلمين وأحينا مسلمين، وألحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مفتونين، اللهم قاتل الكفرة الذين يكذبون رسلك ويصدون عن سبيلك، واجعل عليهم رجزك وعذابك ، اللهم قاتل الكفرة الذين أوتوا الكتاب، إله الحق ".(11).
رضا وتسليم بقضاء الله :
ثم عاد النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ,وقد أظهر له أصحابه من التجلد والتصبر ما دل على حبهم الشديد له , واستعدادهم للتضحية بكل شيء في سبيل رضاه ورضا ربه حتى النساء, فهذه امرأة تأتي وقد أصيب زوجها وأخوها وأبوها وتسأل : فما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فلما قالوا لها : خيراً يا أم فلان، هو بحمد الله كما تحبين، قالت: أرونيه حتى أنظر إليه، فأشير إليه حتى إذا رأته قالت: كل مصيبة بعدك جَلَلٌ أي صغيرة (12) .
وجاءت إليه أم سعد بن معاذ تعدو، وسعد آخذ بلجام فرسه، فقال: يا رسول الله، أمي، فقال: مرحباً بها ، ووقف لها، فلما دنت عزاها بابنها عمرو بن معاذ، فقالت: أما إذ رأيتك سالماً فقد اشتويت المصيبة ـ أي استقللتها .
وبادلهم رسول الله بنفس الإحساس والشعور ,ودعا الله لهم فقال "اللّهم أذهب حزن قلوبهم، واجبر مصيبتهم، وأحسن الخَلفَ على من خُلِّفُوا" .(13).
وكان خير عزائه لهم أنة بشرهم بالفوز العظيم الذي حققه شهداؤهم , وكان مما قاله لأم سعد: " أبشري وبشري أهلهم أن قتلاهم ترافقوا في الجنة جميعاً، وقد شفعوا في أهلهم جميعاً" فقالت: رضينا يا رسول الله، ومن يبكي عليهم بعد هذا؟ !(14).
ورأى جابر بن عبد الله فقال: مالي أراك مهتماً؟ فقال : يا رسول الله قتل أبي وترك ديناً وعيالاً , فقال: ألا أخبرك؟ ما كلم الله أحداً إلا من وراء حجاب، وإنه كلم أباك كفاحاً، فقال له: يا عبدي سلني أعطك ، فقال: أسألك أن تردني إلى الدنيا فأقتل فيك ثانياً ، فقال: إنه سبق مني أنهم إليها لا يرجعون ، قال : يا رب فأبلغ من ورائي، فأنزل الله عز وجل: "ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون " (15) .
مواجهة رسول الله للآثار المترتبة على غزوة أحد :
وبعد ما خفت آلم النبي صلى الله عليه وسلم وبرئت جراحه بدأ يعمل على استعادة هيبة المسلمين بين الناس , ويستعد لمواجهة الآثار السلبية لتلك المعركة على دعوته ودولته بالمدينة , وذلك لأن قريش بدأت تنشر في إعلامها الكذاب أنها نالت من محمد وأتباعه , وكادت تقضي على دعوته , وأنها تستعد لتوجيه الضربة القاضية عليه , وهدفت من ذلك أن تعيد مكانتها بين العرب , وكان لذلك آثار فاقت آثار معركة أحد بكثير , وتمثلت هذه الآثار في :
1 ـ جرأة الأعراب عليه , فبدءوا يشنون غاراتهم على المدينة ؛ انتقاما منه وحقدا على الإسلام , أو إرضاء لقريش وتقربا إليها ، حيث صارت في نظرهم القوة العظمى في المنطقة , فقد جاءته الأنباء بعد عوده بقليل أن رجلا يسمى "طليحة الأسدي " جمع قومه لمهاجمته وهو في طريقه إلى المدينة , فأرسل أحد أصحابه وهو أبو سلمة في مائة وخمسين رجلا , وأوصاه بتقوى الله وبمن معه من المسلمين خيرا , فالتقى بهم عند مكان يسمى " قطن " وفرق جمعهم ثم عاد , وكذلك فعل بكل آت لمهاجمته .
كما جاءه أن رجلا من هذيل يسمى "خالد بن سفيان " يجمع له القبائل ,فأرسل إليه من بغته قبل أن يستعد ليسير إليه .
وبعضهم لجأ إلى أسلوب خداع المسلمين بالتظاهر بالرغبة في تعلم الإسلام ؛ لينالوا منهم , فقد جاء إلي رسول الله ناس من قبيلة " عضل والقارة " فقالوا : يا رسول الله إن فينا إسلاما فابعث معنا نفرا من أصحابك يفقهوننا في الدين , ويقرئوننا القرآن ويعلموننا شرائع الإسلام , فبعث صلى الله عليه وسلم معهم نفرا ستة من أصحابه , حتى إذا ما وصلوا بهم إلى مكان يسمى " الرجيع " غدروا بهم , واستصرخوا عليهم أتباعهم , فقتل ثلاثة من المسلمين , واستسلم ثلاثة للأسر بعد أن زعموا لهم أنهم لن ينالهم منهم مكروه ,وقالوا لهم : لكم عهد الله وميثاقه أن لا نقتلكم.
ولكنهم غدروا بهم وخانوهم كما خانوا رسول الله من قبل فقتلوا أحدهم, وباعوا الآخرين لأهل مكة , فقتلوهما ثأرا من المسلمين, وحكى من أسلم من أهل مكة بعد ذلك أن أحد الرجلين وهو زيد بن الدثنة قال له أبو سفيان حين قدم ليقتل : أنشدك بالله يا زيد أتحب أن محمدا الآن عندنا مكانك نضرب عنقه وأنك في أهلك ؟ فقال : والله ما أحب أن محمدا الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه وأني جالس في أهلي , فقال أبو سفيان : ما رأيت من الناس أحدا يحب أحدا كحب أصحاب محمد محمدا .
وأن الآخر وهو خبيب بن عدي كان مقيدا ومحبوسا في أحد البيوت ,فدخل عليه قبيل قتله غلام , ولم تشعر به أمه إلا وهو جالس معه , فقالت : أصاب والله الرجل ثأره , يقتله قبل أن يقتل , فأجابها من داخل حبسه : أتخشين أن أقتله ؟ ما كنت لأفعل .
نعم ما كان ليفعل ذلك ؛ لأن نبل الإسلام تأصل في قلبه , والرجل الذي خرج من بيته داعيا إلى الله وقدم حياته نصرة للإسلام كيف تمتد يده لقتل طفل بريء , وإن كانت نهايته ستكون بعد دقائق على يد والد هذا الطفل , ولا نعجب بعد ذلك أن نرى أم الطفل هذا تقبل على الإسلام وتقول : والله ما رأيت أسيراً قط خيراً من خبيب .
ثم قدم لتنفيذ حكم القتل فيه فقال لمن حوله : إن رأيتم أن تدعوني حتى أركع ركعتين فافعلوا ,قالوا : " دونك فاركع , فركع ركعتين أتمهما وأحسنهما , ثم أقبل على القوم فقال : أما والله لولا أن تظنوا أني إنما طولت جزعا من القتل لاستكثرت من الصلاة " وكيف يجزع وهو مقبل على من باع نفسه في سبيله ..
ولما أوثقوه ورفعوه على خشبة ختم حياته بهذه العبارة " اللهم إنا قد بلغنا رسالة رسولك ..".
ووصلت أنباء هؤلاء الدعاة الذين استشهدوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحتسبهم عند الله كما احتسب غيرهم من الشهداء .
ومع إن الخطب كان عليه عظيما إلا أنه لم يحجم عن تبليغ رسالته ربه , وعن إرسال الدعاة إلى الأماكن المختلفة داخل الجزيرة العربية , مهما كان في ذلك من مخاطر وكلفه من تضحيات , ولم يجبن المسلمون معه عن القيام بأي مهمة يكلفون بها مهما كانت شاقة , ولم يتقاعس أحد منهم عن الذهاب إلى الجهة التي يبعثه رسول الله إليها , بعد أثنى الله على السابقين بقوله " وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ " [البقرة : 207]..
وتكررت المأساة السابقة مرة أخرى , حيث قدم عليه رجل يسمى "أبو البراء عامر بن مالك بن جعفر، ملاعب الأسنة " على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة, وقال: يا محمد لو بعثت معي رجالاً من أصحابك إلى أهل نجد ( وهو مكان يبعد عن المدينة مئات الكيلومترات ) يدعونهم إلى أمرك رجوت أن يستجيبوا لك فقال: أخشى عليهم أهل نجد , فقال أبو البراء: أنا لهم جار ، فبعث معه أحد أصحاب وهو " المنذر بن عمرو" في أربعين رجلاً (16) .
فساروا حتى إذا بلغوا مكانا يسمى" بئر معونة " بعثوا أحدهم وهو "حرام بن ملحان " بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رجل يسمى " عامر بن الطفيل" يدعوه إلى الإسلام , فلم ينظر في الكتاب وأمر بقتل الرجل, ثم جمع الأعراب في القبائل حوله , وخرج بهم إلى باقي المسلمين , وأحاطوا بهم فقاتلوهم حتى استشهدوا كلهم إلا واحدا يسمى "كعب بن زيد" تركوه وبه رمق فشفي وعاد إلى رسول الله بالخبر , ورجل أسر ثم أطلق سراحه لمكان قبيلته منهم .
وكانت تلك الفاجعة أشد بكثير من كل المآسي السابقة التي مر بها المسلمون ؛ لأن من استشهدوا كانوا في غير حرب , وكانوا من القراء , غير أنها لم تخرج رسول الله عن صوابه , ولم تجعله يتصرف تصرفا يناقض المبادئ التي يسير عليها , فقد شاء الله أن يعثر الرجل الذي نجا من القتل أثناء رجوعه على رجلين من إحدى القبائل التي قاتلت أصحابه فقتلتهما , وكانا قد أخذا عهدا من رسول الله وهو لا يدري , فلما عاد وأخبره بقصة الرجلين قال له صلى الله عليه وسلم : " لقد قتلت رجلين ... لأدينهما " أي لأدفعن ديتهما لما كان معهما من عهد (17).
فانظر معي أيها القارئ الكريم كيف سمت به أخلاقه إلى هذه الدرجة التي تجعله يحترم عهده مع رجلين أبيد خيرة أتباعه على يد قومهما .
كما قام بعض الأعراب بتأجير نفسه لقريش لتنفيذ عمليات اغتيال ضد المسلمين , فقد بحث أبو سفيان مع من معه محاولة اغتيال رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : إنه يمشي في الأسواق , وبعد التشاور , أتاه رجل من العرب فدخل عليه منزله , وقال له : إن أنت وفيتني ما أريد خرجت إليه حتى أغتاله , فإني هاد بالطريق خريت ( ماهر) معي خنجر مثل خافية النسر, فقال له أبو سفيان : أنت صاحبنا ،
ثم قال له : اخف أمرك فاني لا آمن أن يسمع هذا أحد فينميه إلى محمد , فقال العربي لا يعلمه أحد ، ثم خرج ليلا على راحلته حتى وصل إلى المدينة , وأقبل يسأل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى المصلى , فدله رجل على مكانه وهو يظن أنه جاء لحاجة له , فخرج يقود راحلته حتى وصل إلى المكان الذي يجلس فيه رسول الله .
فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم مقبلا نحوه قال لأصحابه : إن هذا الرجل يريد غدرا , والله حائل بينه وبين ما يريده , فوقف وقال : أيكم ابن عبد المطلب ؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنا ابن عبد المطلب فذهب ينحني على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسرع إليه أحد الصحابة الجالسين وهو "أسيد بن حضير" وقال : تنح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجذب بإزاره , فظهر الخنجر الذي يخفيه ، فقال أسيد يا رسول الله هذا غادر ، فأسقط في يد الأعرابي وقال : دمي دمي يا محمد , فكتفه أسيد بن حضير ثم قال له النبي صلى الله عليه وسلم : أصدقني , ما أنت وما أقدمك ؟ فإن صدقتني نفعك الصدق , وإن كذبتني فقد اطلعت على ما هممت به, فقال العربي : فأنا آمن؟ قال : وأنت آمن , فأخبره بخبر أبي سفيان وما جعل له , فأمر به فحبس عند أسيد بن حضير .
ثم صار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغد فقال : قد أمنتك فاذهب حيث شئت , أو خير لك من ذلك! قال : وما هو؟ فقال : أن تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله , فقال : أشهد أن لا إله إلا الله وأنك أنت رسول الله : والله يا محمد ما كنت أفرق ( أخاف ) من الرجال فما هو إلا أن رأيتك فذهب عقلي وضعفت , ثم اطلعت على ما هممت به , فما سبقت به الركبان ، ولم يطلع عليه أحد , فعرفت أنك ممنوع وأنك على حق (18).
وإذا كانت محاولة هذا الرجل قد فشلت , وانتهت بإسلامه ؛ لأن رسول الله كان معصوما من ربه , فإنه كان يخشى أن تنجح محاولات أخرى في أن تطول بعض أصحابه فأخذ بكل أنواع الحذر.
2 ـ إظهار المنافقين عداوتهم له , وهو الأثر الثاني الذي واجهه رسول الله في المدينة بعد وقعة أحد , وهؤلاء المنافقون قوم من أهل المدينة وما حولها من الأعراب وبعض اليهود , كرهوا الدخول في الإسلام , لكنهم لما رءوا قوة المسلمين تزداد في المدينة تظاهروا بالدخول فيه , وأخفوا ما بداخلهم من الكفر ، وبعض هؤلاء دفعه إلى ذلك المصلحة والطمع في عطايا الرسول صلى الله عليه وسلم أو الخوف من ضياع مكانتهم بين المسلمين في المدينة .
والبعض منهم لجأ إلى النفاق ليحارب المسلمين من الداخل, وهؤلاء كانوا وما زالوا في كل عصر أخطر طائفة على الإسلام والمسلمين ؛ لأنهم يحاربون الإسلام , وفي نفس الوقت يتظاهرون أمام الناس أنهم من أتباعه , فيلتبس عليهم أمرهم ,فإن قوتلوا ظن الناس أن المسلمين يقتل بعضهم بعضا , وإن تركوا نشروا الفتن والفساد في الأرض , وقد عانى منهم رسول الله الكثير والكثير , ولاقى منهم ما يخرج الحليم عن حلمه ، ورغم ذلك صبر عليهم ، وتعامل معهم صلى الله عليه وسلم بكل حيطة وحذر, وقال لمن قال له اقتل من بدر ( خرج) منه ما يستجوب القتل : "معاذ الله أن يتحدث الناس أني أقتل أصحابي" وقال له أيضا : "أليس يظهرون شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ؟ " قال: بلى يا رسول الله، وإنما يفعلون ذلك تعوذا من السيف، فقد بان لنا أمرهم، وأبدى الله تعالى أضغانهم عند هذه النكبة، فقال: " إني نهيت عن قتل من قال: لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله " (19) .
وقد وظل أمرهم مجهولا لدى كثير من الناس حتى جاءت وقعة أحد, فخرجوا مع رسول الله ثم رجع بهم كبيرهم " عبد الله بن أبي " وبعد نتيجة المعركة المؤلمة أظهروا الشماتة بالمسلمين ,وبدءوا يفرقون المسلمين عن رسول الله ,ويشككونهم في رسالته , وقالوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : لو كان نبيا ما انتصروا عليه , ولا أصيب منه ما أصيب , ولكنه طالب ملك تكون له الدولة وعليه, وقالوا عمن استشهد : لو أطاعونا وعادوا معنا ما قتلوا , فحكى الله قولهم محذرا المؤمنين من شأنهم في قوله تعالى :" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [آل عمران : 156]
ورد عليهم بأن الآجال بيده وحده , ولو كتب عليهم القتل ما استطاعوا رده , فقال سبحانه " قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ" [آل عمران : 154]
ولما قتل الدعاة الذين كانوا في بعث" الرجيع "قالوا عنهم : يا ويح هؤلاء المفتونين الذين هلكوا هكذا لا هم أقاموا في أهلهم , ولا هم أدوا رسالة صاحبهم , فأنزل الله فيهم " وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ "[البقرة : 204] ..
وأخذوا يحرضون المسلمين سرا على عدم طاعة رسول الله , فعندما أراد صلى الله عليه وسلم الخروج لمواجهة أبي سفيان في العام التالي لأحد أتوا بعض المسلمين وقالوا لهم: نحن أصحابكم الذين نهيناكم عن الخروج إليهم وعصيتمونا، وقد قاتلوكم في دياركم وظفروا؛ فإن أتيتموهم في ديارهم فلا يرجع منكم أحد.
وقد كشف الوحي لرسول الله كل مؤامرات هؤلاء , فلم يقدموا على أمر إلا وأخبر الله رسوله به, وأمره والمسلمين أن يحذروهم دائما , وعدد أوصافهم كاملة في القرآن الكريم ؛ليعرفهم الناس في كل عصر , وبين أنهم سيكونون في الدرك الأسفل من النار يوم القيامة إلا من تاب منهم , وأنهم مهما تظاهروا بفعل الخير فلن يقبل منهم ، فقد تخلف رجل منهم يسمى "قزمان " عن غزوة أحد , فلما أصبح عيره نساء قومه ، وقلن له : يا قزمان قد خرج الرجال وبقيت ، ألا تستحي مما صنعت ؟ ما أنت إلا امرأة ، خرج قومك فبقيت في الدار ؟ فدخل بيته وأخرج قوسه وجعبته وسيفه ، ولحق برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يسوي صفوف المسلمين ، وقاتل مع المسلمين حتى أصابته الجراحة وكثرت به فوقع ، فمر به الصحابي قتادة بن النعمان فقال : يا قزمان ! قال : لبيك ، قال : هنيئا لك الشهادة، فقال له : إني والله ما قاتلت يا أبا عمرو على دين ، ما قاتلت إلا على الحفاظ على أن تسير قريش إلينا حتى تطأ سعفنا ، ثم أجهز على نفسه لما اشتد عليه ألم الجراح ، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : "هو مِنْ أَهْلِ النّارِ" .
هو في النار لأن الله غني عن العالمين , ولا يحتاج من أحد أن يدافع عن دينه إلا إذا كان مؤمنا به, ولا يكافئ عن الجهاد إلا من أخلص له , فليس كل من قتل في ساحات القتال , أو قتل بسلاح غيره أيا كانت ملته شهيدا , كما يزعم الزاعمون .
فليتنا نعي تلك الدروس في تلك الذكرى التي تهل علينا كل عام .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش :
*مدير موقع التاريخ الالكتروني .
1 ـ عيون الأثر 1 / 405.
2 ـ مغازي الواقدي 1 / 217.
3ـ مغازي الواقدي 1 / 219.
4ـ السيرة النبوية لابن كثير 3 / 47.
5 ـ صحيح البخاري 11 / 96.
6 ـ مغازي الواقدي 1 / 222.
7 ـ السيرة النبوية لابن كثير 3 / 48.
8ـ مغازي الواقدي 1 / 230.
9 ـ مغازي الواقدي 1 / 298.
10 ـ سيرة ابن هشام 2 / 97.
11 ـ السيرة النبوية لابن كثير 3 / 77.
12 ـ عيون الأثر 1 / 430.
13 ـ سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد 4 / 229 ..
14 ـ مغازي الواقدي 1 / 314.
15 ـ السيرة النبوية لابن كثير 3 / 88.
16 ـ الروض الأنف 3 / 378.
17 ـ السيرة النبوية لابن كثير 3 / 145 ..
18 ـ السيرة النبوية لابن كثير 3 / 136.
19 ـ سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد 4 / 231.