انتهى بنا الحديث في الحلقة السابقة عند النصر المؤزر الذي حققه المسلمون بقيادة خالد بن الوليد رضي الله عنه على الفرس ومن حالفهم من المشركين في وقعة " أمغيشيا " هذا النصر الذي قال عنه أبو بكر الصديق رضي الله عنه لما سمع به : عدا أسدكم على الأسد فغلبه على خراذيله ؛ أعجزت النساء أن ينسلن مثل خالد ؟!..
ونكمل حديثنا بمشيئة الله فنقول : إن خالد بن الوليد رضي الله عنه بعد فراغه من فتح أمغيششيا صار إلى الحيرة ، وقد حمّل الرحال والأثقال في السفن ، فلما علم بتحركه مرزبان الحيرة ( حاكم الحيرة من جهة الفرس ) وكان يسمى " الأزاذبه " تهيأ لملاقاته ، وقدم ابنه في طائفة من الجيش ، وأمره بسد الفرات ، فقطع الماء عن سفن المسلمين فرست على الأرض ، وعجز المسلمون عن الحراك بها ، ثم خرج الأزاذبه في إثر ابنه حتى عسكر خارجاً من الحيرة ..
وقد حسب أنه بقطع الماء عن سفن المسلمين سيحبسهم في بطن النهر ، وينهك قوتهم قبل ملاقاته ، لكن خالدا كان يتحرك وفي ذهنه كل الاحتمالات التي قد تطرأ على الساحة ؛ لذلك سعى على الفور في إنشاء الجسور التي حملت جنوده إلى الشاطئ ، ولم ينتظر حتى يلحق المزربان بابنه فيجتمعان عليه ، وإنما سار في خيله فالتقى بابنه عند مكان يسمى " فرات بادقلى " فقاتله وأصحابه حتى انتصر عليهم ، وكان من بين القتلى ابن المرزبان نفسه ..
وجاءت أنباء الهزيمة إلى المرزبان وما حدث لابنه على أيدي المسلمين ففر هاربا بغير قتال ، وشجعه على ذلك أنه قد بلغه موت أردشير ( كسرى الفرس ) فيئس من النصير ..
ثم استقر به المقام داخل الحيرة ، حيث نزل عسكره بين قصرين ، يسمى أحدهما " الغريين " والآخر يسمى " القصر الأبيض " من قصور الحيرة الشهيرة وقت ذاك ، وتحصن هنالك من المسلمين هو وأمراء العرب النصارى الذين كانوا من أحلافه .
أما خالد فإنه قد تبعهم إلى الحيرة ، فلما جاءهم ووجدهم قد تحصنوا منه لم يبال بتحصيناتهم ، وإنما شرع في ضرب الحصار عليهم ، وجعل ضرار بن الأزور محاصراً للقصر الذي كان يسمى بالقصر الأبيض ، وفيه من قادة العرب النصارى "إياس بن قبيصة الطائي " الذي كان قد صالح خالدا من قبل ثم نقض عهده ، وتحالف مع الفرس عليه ، وجعل ضرار بن الخطاب محاصراً للقصر المسمى بقصر الغريين ، وفيه من قادة النصارى رجل يسمى "عدي بن عدي " ، وجعل ضرار بن مقرن المزني محاصراً للقصر المسمى بقصر " ابن مازن " وفيه من قادة النصارى رجل يسمى "ابن أكال " ، وجعل المثنى بن حارثة محاصراً للقصر المسمى بقصر ابن بقيلة ، وفيه من قادة النصارى رجل يسمى "عمرو بن عبد المسيح بن بقيلة " ..
وقطع بذلك حبل الاتصال بينهم ، وصيرهم فرقا يستحيل جمعها عليه ، ثم أعاد بعث رسله إليهم لدعوتهم إلى الإسلام أو التصالح معه قبل أن يبدأهم بقتال ، وأجلهم يوماً وليلة ، يختارون فيها ما يشاءون ..
ولم يشأ خالد رضي الله عنه أن يطيل عليهم مهلة الاختيار ؛ حتى لا يعطيهم فرصة طلب المدد من الفرس ، وقد كانت وصيته لقادته : " لا تمكنوا عدوكم من آذانكم فيتربصوا بكم الدوائر ، ولكن ناجزوهم ..
ولأن المسلمين كان من دأبهم ألا يطيلوا الحصار وقتها ؛ خشية نفاد الزاد لديهم من طعام وشراب ، ودينهم لا يسمح لهم بأخذ زادهم عنوة من سكان البلد المدنيين الذين يحلّون عليهم ، ولم يكونوا يعرفون مبدأ " الغاية تبرر الوسيلة " ..
كما أن المسلمين وقتها كان من أساليبهم الحرص على تحقيق النصر السريع الذي لا يكلفهم الكثير ، وفي نفس الوقت لا ينجم عنه أي ضرر بالبلاد التي يفتحونها .
لكن أهل الحيرة أبوا الإسلام ، وأبوا المصالحة ، واختاروا القتال ؛ ظنا منهم أن قصورهم التي كان يضرب بها المثل في العظمة ستمنعهم من أيدي المسلمين ؛ وتضطرهم إلى التراجع بعد نفاد زادهم ، ولكن ذلك لم يُجدِ شيئا أمام صبر المسلمين وإصرارهم على فتح تلك الحصون ..
ثم تنادوا من داخل حصونهم : عليكم الخزازيف ، فلم يفهم قادة المسلمين ماذا يعنون بذلك ، فقال ضرار لأصحابه : تنحوا لا ينالكم الرمي ؛ حتى ننظر في الذي هتفوا به ، فلم يلبث أن امتلأت رءوس القصور بالرجال ، وصاروا يرمون المسلمين بالخزازيف - وهي المداحي من الخزف - فقال ضرار لمن معه : ارشقوهم ! فدنوا منهم فرشقوهم بالنبل ، فأعروا رءوس الحيطان ، ثم بث المسلمون غارتهم فيمن يليهم ، وصبّح أمير كل قوم أصحابه بمثل ذلك ، فافتتحوا الدور والديرات عنوة ، وأكثروا القتل فيهم ..
فلما رأى القساوسة والرهبان الجد من المسلمين ـ وقد علموا أن دخول المسلمين عليهم لن يضرهم في شيء ، بل سيخلصهم من تبعات أمراء الحيرة السابقين ـ نادوا : يا أهل القصور ( يقصدون المتحصنين بها ) ما يقتلنا غيركم ! أي أنكم ستكونون سببا في هلاكنا بعدم استجابتكم لمسالمة المسلمين وما يدعونكم إليه ..
وتحت ضغط القساوسة والرهبان من جانب وهجمات المسلمين من جانب آخر اضطر قادة الجيوش المتحصنة بالداخل إلى الاستسلام ونادوا : يا معشر العرب ( يقصدون المسلمين ) قد قبلنا واحدة من ثلاث ؛ فكفوا عنا حتى تبلغونا خالداً...
فكف عنهم المسلمون في الحال ؛ لأن الإسلام يأمرهم بحسن الظن بالناس ، ونزل أمراء القصور من العرب النصارى إلى خالد رضي الله عنه ، فلما جلس إليهم أخذ يعاتبهم على مقاتلة المسلمين الذين تجمعهم بهم العروبة ويقول لهم : ويحكم ! ما أنتم ؟! أعرب فما تنقمون من العرب ؟! أو عجم فما تنقمون من الإنصاف والعدل!..
فقال له عدي بن عدي : بل عرب عاربة وأخرى متعربة ، فقال : لو كنتم كما تقول لم تحادونا وتكرهوا أمرنا ، فقال له عدي : ليدلك على ما تقولون أنه ليس لنا لسان إلا العربية.
ولما أكثروا معه المجادلة قال لهم : اختاروا واحدة من ثلاث : أن تدخلوا في ديننا ، فلكم ما لنا وعليكم ما علينا ، إن نهضتم وهاجرتم وإن أقمتم في دياركم ، أو الجزية ، أو المنابذة ؛ فقد والله أتيتكم بقوم هم على الموت أحرص منكم على الحياة.
ونلاحظ أن خالدا رضي الله عنه لم يتخل عن واجبه الدعوي معهم ، وفي نفس الوقت جعل آخر الدواء الكي ، بمعنى أنه جعل مقاتلتهم آخر حل يلجأ إليه معهم ، مع تحذيرهم من مغبته وعاقبته السيئة عليهم ؛ لأنه قد جاءهم بـقوم هم على الموت أحرص من عدوهم على الحياة " ..
هذا الحرص الذي وهب لهم ولغيرهم الحياة على السواء ، حيث أحجم عدوهم عن الصبر لهم ، ولذلك رأينا أهل الحيرة بعد أن سمعوا منه تلك العبارة أجابوه قائلين : لا حاجة لنا بقتالك ، بل نعطيك الجزية ..
فكرر عليهم دعوتهم ونصحه لهم ، فماذا يستفيدون من بقائهم على الكفر ، وما الذي يضطرهم إلى دفع الجزية ، وفي الإسلام العز والحرية والحياة الكريمة ، لذلك قال لهم :" تباً لكم ! ويحكم ! إن الكفر فلاة مضلة، فأحمق العرب من سلكها فلقيه دليلان : أحدهما عربي فتركه واستدل العجمي " أي اتخذه دليلا .
ولكن لشؤم مطلعهم اختاروا الكفر والجزية والصغار ، والاستدلال والاستقواء بالعجم دون إخوانهم من العرب ، فصالحهم خالد على مائة وتسعين ألفا ؛ وقيل: على مائتين وتسعين ألفاً، وأهدوا له هدايا ..
وكما ذُكر من قبل أن هذه الأموال ( أموال الجزية ) كانت تدفع للمحتلين لتلك البلاد قبل فتح المسلمين لها أضعافا ، وتحت مسميات شتى ، فخففها الإسلام ، وجعلها في حد المعقول والمقبول ..
وبعد فراغ خالد من مصالحتهم بعث بالفتح والهدايا إلى أبي بكر الصديق ، لكن أبا بكر رفض أن تؤخذ هداياهم ؛ اتقاء للشبهات ، وفي نفس الوقت قبلها ؛ تلطفا معهم على أن تحسب من الجزية ، وكتب إلى خالد أن يحسب لهم ثمنها ثم يخصمها من قدر الجزية المقرر عليهم ...
وقطع الصديق رضي الله عنه بذلك الطريق على الجباة في تحصيل الأموال من الناس بدون حق لتعويض تلك الهدايا التي أرادوا أن يدفعوها إليه كما فعل رسول الله من قبله عندما أنب الرجل الذي قال له : هذا لكم وهذا أهدي إلي ..
ولعل في موقف خالد بن الوليد مع أمراء الحيرة وعنادهم أبلغ رد على بعض من يحرفون تفسير الفتوحات الإسلامية ويقولون : إن المسلمين كانوا يقاتلون بدافع العروبة ، وأن الصحوة العربية كانت وراء ما تحقق لهم من نصر ، وأن إصرار هؤلاء العرب النصارى على موقفهم ومقاتلتهم المسلمين حتى اضطروا للاستسلام أكبر رد على هؤلاء ..
وفي تكرار خالد لدعوة الإسلام عليهم أيضا رد كافٍ على من يزعمون أن دوافع الفتوحات الإسلامية كانت مادية وليست الرغبة في نشر الإسلام في ربوع البلاد المفتوحة ، لأن إلحاح خالد رضي الله رضي الله عنه على هؤلاء العرب من المشركين ليسلموا ، وقوله لهم : إنهم إن أسلموا سيكون لهم ما للمسلمين ، وعليهم ما على المسلمين ، وهم مقيمون في ديارهم ـ لهو دليل على خطأ مزاعم هؤلاء وجهلهم بحقائق وغايات تلك الفتوحات ، إذ لو كان الأمر كما زعموا لرضي خالد بما سيدفعونه إليه من مال ، وما اتفقوا عليه من جزية دون أن ينصح لهم ، بل ولحاول مجاملتهم والبعد عن مناقشتهم في معتقداتهم الزائفة.
ولو كان المأرب المادي هو غاية المسلمين لما أرسل أبو بكر الصديق إلى خالد بن الوليد رضي الله عنهما يأمره أن يحسب لهم ما أعطوه للمسلمين من هاديا من مقدار الجزية المتفق عليه معهم ، في سابقة غير معروفة في تواريخ الأمم الأخرى .
بل إن رسالة أبي بكر الصديق قد ذيلت بعبارة تدل على أن هذه الأموال التي أخذت منهم تحت بند ضريبة الجزية قد وظف أكثرها في مواصلة الفتوحات الإسلامية ، حيث كتب إليه : " وخذ بقية ما عليهم فقو بها أصحابك " .
وقد حدث أثناء عقد الصلح أن شاهد خالد رضي الله عنه مع عمرو بن عبد المسيح كيسا به سمٌّ ، فتناوله خالد ، ونثر ما فيه في راحته، فقال: ما هذا يا عمرو ؟ قال : هذا ـ وأمانة الله ـ سم ساعة، خشيت أن تكونوا على غير ما رأيت، وقد أتيت على أجلي، والموت أحب إليّ من مكروه أدخله على قومي وأهل قريتي...
إن الرجل بعزته آثر الموت على حياة الذل التي يتعرض لها العظماء إذا ما وقعوا في الأسر ، ولكن المسلمين كانوا كما سمع عنهم ، بل وأكثر سماحة وكرما ونبلا مما سمع عنهم ، فأخذ يردد : والله يا معشر العرب لتملكن ما أردتم ما دام منكم أحد أيها القرن ( يقصد جيل الصحابة ) ..
وهذه شهادة من رجل عمّر أكثر من مائة سنة ، عاشر فيها الملوك والأمراء على اختلاف طبيعتهم ، ولم يلمس فيهم ما لمسه في خالد رضي الله عنه وأصحابه مما دفعه إلى أن يقول لقومه : "لم أر كاليوم أمراً أوضح إقبالاً " ..
وأما عن وثيقة الصلح التي كتبت لأهل الحيرة فقد جاء فيها :
" بسم الله الرحمن الرحيم .. هذا ما عاهد عليه خالد بن الوليد عدياً ، وعمراً ابني عدي ، وعمرو بن عبد المسيح ، وإياس بن قبيصة ، وحيري بن أكال ، وهم نقباء أهل الحيرة ؛ ورضي بذلك أهل الحيرة ، وأمروهم به - عاهدهم على تسعين ومائة ألف درهم ، تقبل في كل سنة جزاء عن أيديهم في الدنيا ؛ رهبانهم وقسيسهم ؛ إلا من كان منهم على غير ذي يد، حبيساً عن الدنيا ، تاركاً لها ، أو سائحاً تاركاً للدنيا ، وعلى المنعة ، فإن لم يمنعهم فلا شيء عليهم حتى يمنعهم ، وإن غدروا بفعل أو بقول فالذمة منهم بريئة .
وهذه الوثيقة وغيرها من عقود الصلح التي عقدها المسلمون مع أهل البلاد التي فتحوها خير شاهد على أن المسلمين عاملوهم معاملة الكرماء ، وأن النظام المالي الذي اتبعوه معهم في جباية الضرائب تعجز عن امتثاله الأمم الحديثة في عدله وسماحته .
فهي لا تحصل إلا من القادر الغني أما العاجز أو المتفرغ للعبادة فلا يؤخذ منه شيء ، وفي مقابلها تتولى الدولة الإسلامية توفير الأمن والحاجات الضرورية لسكان البلاد جميعا ، ودرء الخطر الخارجي والداخلي عنهم ، وجعلهم يتفرغون لأرزاقهم وهم آمنون على كل شيء ؛ شريطة ألا يخونوا عهد المسلمين بقول أو فعل أو يتطاولوا على إيٍ من تعاليمه بسوء ، وإلا فذمة المسلمين منهم بريئة . ...
وفي الختام أقول : إن فتح الحيرة وقصورها التي كانت مضرب المثل في عظمتها كانت تحقيقا لأول بشرى بشّر بها نبي الله محمد صلى الله عليه وسلم يوم حفر الخندق ، تلكم البشرى التي قال عنها المنافقون وقتها : إن محمدا ليقول لنا : إنه يبصر قصور الحيرة وهي تفتح وأحدنا لا يأمن على نفسه في الذهاب إلى الغائط ، فكذب المنافقون وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي لا ينطق عن الهوى في كل ما قال ؛ حتى إخباره للأعرابي ( شويل ) بأنه سيفوز بـ " كرامة "أخت عمرو بن عبد المسيح عظيم القوم ، إذ قُدر له أن يشهد مع المسلمين فتح القصور ويراها من بين الأسرى ، فأسرع إلى خالد يخبره بأن رسول الله قال له : إن فتحت الحيرة عنوة فهي له ، وأشهد الشهود على ذلك ، فأهداها خالد إليه ، وكانت قد تجاوزت الثمانين من عمرها ، فطلب من أهلها ألفا فداء لها ، فأعطوه إياها ، ولما لامه الناس على قلة ما طلب قال : ما كنت أعلم أن ثمة عددا أكثر من الألف !!.
فلنتعلم من فتح الحيرة إذن الثقة في موعود الله وما بشرنا به نبينا صلى الله عليه وسلم ، ولنعلم أن ما نراه اليوم مستحيلا سيكون في الغد القريب إن شاء الله ممكننا ، بل واقعا ملموسا ؛ شريطة أن نلزم هدي ربنا وسنتنا نبينا .
وللحديث بقية إن شاء الله