انتهى بنا الحديث في الحلقة السابقة عند فراغ خالد بن الوليد من فتح الحيرة ، واستيلائه على قصورها التي كانت مضرب المثل عند العرب في عظمتها ، ورأينا كيف تحققت نبوءة النبي صلى الله عليه وسلم بفتحها ، ونكمل حديثنا بعون من الله فنقول : إن خالدا بعد أن فرغ من الفتح أقبل على الله وصلى الصلاة التي تسمى بصلاة الفتح وهي ثماني ركعات بتسليمة واحدة ، وتلك كانت سنة الحفل المتبعة عند سائر الأمراء المسلمين ، فكل نصر عظيم كانوا يتبعونه بشكر لله سبحانه وتعالى ، وكل فتح كانوا يقابلونه بالسجود لله والخضوع له عكس الذين يستغلون تلك اللحظات في ارتكاب الموبقات ، وإحياء السهرات ، وما أكثرهم !..
إن خالد رضي الله عنه طالما تعرض للأخطار الجسام التي لم تكن خبرته وحنكته العسكرية وحدها كفيلة بأن يخرج منها ، وإنما هو توفيق الله سبحانه وتعالى ، حتى قال :" لقد قاتلت يوم مؤتة فانقطع في يدي تسعة أسياف، وما لقيت قوماً كقوم لقيتهم من أهل فارس!" فليقابل ذلك إذن بحمد لله وشكره عقب كل حرب يخوض غمارها ...
وانتشر نبأ فتح الحيرة بين البلدان المجاورة لها ، فسارع أمراؤها إلى مصالحة خالد رضي الله عنه ، والإذعان له وهم راضون بدلا من الإذعان كرها بعد أن تحُل عليهم الهزائم على يديه ، وقد كانوا من قبل يتربصون به ، وينتظرون ما يصنع أهل الحيرة ، فجاءه صلوبا بن نسطونا صاحب قس الناطف، فصالحه على مدينتي "بانقيا " و" بسما "، وضمن له ما عليهما وعلى أرضهما من شاطئ الفرات جميعاً، فكتب له خالد كتاباً جاء فيه : " بسم الله الرحمن الرحيم . هذا كتاب من خالد بن الوليد لصلوبا بن نسطونا وقومه ؛ إني عاهدتكم على الجزية والمنعة؛ على كل ذي يد؛ بانقيا وبسما جميعاً، على عشرة آلاف دينار سوى الخرزة، القوي على قدر قوته، والمقل على قدر إقلاله، في كل سنة ، وأنْ قد نقبت على قومك ( أي صرت عليهم نقيبا أو أميرا ) وإن قومك قد رضوا بك ، وقد قبلت ومن معي من المسلمين، ورضيت ورضي قومك؛ فلك الذمة والمنعة ؛ فإن منعناكم ( أي دافعنا عنكم أي خطر يحدق بكم ) فلنا الجزية؛ وإلا فلا حتى نمنعكم " ..
وهذا يظهر أيضا من نص البراءة ( الإيصال أو القسيمة ) التي كانت تعطى لولاتهم بعد أن يدفعوا ما عليهم من ضريبة الجزية ، إذ جاء فيها : " بسم الله الرحمن الرحيم . براءة لمن كان من كذا وكذا من الجزية التي صالحهم عليها الأمير خالد بن الوليد، وقد قبضت الذي صالحهم عليه خالد والمسلمون لكم يد على من بدل صلح خالد ؛ ما أقررتم بالجزية وكففتم ، أمانكم أمان، وصلحكم صلح ؛ نحن لكم على الوفاء .
ونظرة عجلى في تلك الكتب تبين أن المسلمين كانوا يبقون على أوضاع البلاد التي يفتحونها ، فلا انقلاب ولا تخريب ولا إذلال لمن كان عليها من قبل ، وفي نفس الوقت كانوا يجعلون الشعب صاحب الشرعية في اختيار أميره ، وهو ما يظهر من قول خالد له : " وإن قومك قد رضوا بك " وما سَلط المسلمون على الشعوب التي فتحوها في قطر من الأقطار حاكما مخادعا لقومه ، وما فرضوا عليهم والياً لا يرغبونه ، وذلك لأن رسالتهم كانت تتمثل في تحرير تلك الشعوب وإعزازها لا استعبادها وإذلالها .
كما نلحظ أن المسلمين كانوا يحرصون على توفير الأمن والاستقرار في كل بلد يحلون به ، وجعلوا ذلك عهدا عليهم وواجبا من واجباتهم مقابل الضريبة التي يحصّلونها ، وهذا ظاهر في قول خالد : " فإن منعناكم فلنا الجزية؛ وإلا فلا حتى نمنعكم " ومن نص البراءة " أمانكم أمان، وصلحكم صلح ؛ نحن لكم على الوفاء "..
وكان ذلك إيذانا بميلاد عصر جديد للبشرية تعرف فيه واجباتها وحقوقها لدى ولاة الأمر القائمين عليها .
وبعد أن استقرت لخالد الأمور في الحيرة وما حولها وفرق فيها عماله ، واطمأن أنها قد سكنت له دعا رجلا من أهل الحيرة له خبرة بالسفارة ، وكتب معه كتابا إلى أهل فارس ، وقبل أن يخرج سأله عن اسمه فقال له الرجل : مُرّة ، فقال خالد متفائلا: خذ الكتاب فأت به أهل فارس، لعل الله أن يمر عليهم عيشهم، أو يسلموا ( وهو يقصد بالطبع الطغاة المتجبرين من ولاتها وليس عوام الشعب المستضعفين ).
وقد جاء في نص هذا الكتاب " بسم الله الرحمن الرحيم . من خالد بن الوليد إلى ملوك فارس ؛ أما بعد ؛ فالحمد لله الذي حل نظامكم، ووهن كيدكم، وفرق كلمتكم، ولو لم يفعل ذلك بكم كان شراً لكم ؛ فادخلوا في أمرنا ندعكم وأرضكم، ونجوزكم إلى غيركم، وإلا كان ذلك وأنتم كارهون على غلب، على أيدي قوم يحبون الموت كما تحبون الحياة "
وبعث بكتاب آخر خص به مرازبة فارس ، وقد جاء فيه " بسم الله الرحمن الرحيم . من خالد بن الوليد إلى مرازبة فارس ؛ أما بعد فأسلموا تسلموا ؛ وإلا فاعتقدوا مني الذمة، وأدوا الجزية، وإلا فقد جئتكم بقوم يحبون الموت، كما تحبون شرب الخمر " .
وصلت تلك الرسالة إلى أهل فارس فجاءتهم وهم مختلفون في الملك بعد موت أردشير ، يقاتل بعضهم بعضا ، كعادة الدول أو الممالك عندما تدبر أيامها ، فقد قتل شيري بن كسرى من أقربائه كل من يحس أنه من الممكن أن ينافسه أو ينافس أولاده من بعده في الملك ، وكذلك فعل من جاء من بعده حتى كادوا يبيدون أفراد الأسرة التي دام ملكها بفارس مئات السنين .
وصلت إليهم رسالة خالد رضي الله عنه فزادتهم وهنا على وهنهم ، فتباحث النساء من آل كسرى في شأن مواجهته ، بعد أن خلت الأسرة من الرجال ذوي الشأن ، واتفقن على أن يولين رجلا يسمى " الفرخزاذين البندوان " إلى أن يجتمع آل كسرى على رجل إن وجدوه...
وبعد مراسلة أهل فارس والإعذار إليهم سار خالد من الحيرة إلى الأنبار لفتحها ، وجعل على مقدمته الأقرع بن حابس ، فلما بلغها أطاف بها وأنشب القتال، ولم ينتظر وصول خالد إليه ، وتقدم إلى رماته وأوصاهم أن يقصدوا عيون أعدائهم عند الرمي فأصابوا ألف عين، حتى سُميت تلك الموقعة بذات العيون لذلك .
فلما رأى شيرزاد أميرها من قبل فارس ذلك خاف من عاقبة الهزيمة ، وأرسل يطلب الصلح على أن يُسمح له بالخروج ويخليها لهم فصالحه المسلمون على ذلك ، ثم صالح خالد ما حول الأنبار وأهل كلواذى دون قتال ، ودخلت كلها في حوزة المسلمين كالحيرة تماما .
ثم استخلف خالد عليها الزبرقان بن بدر وسار هو بجيوشه إلى عين التمر وبها مهران بن بهرام جوبين، في جمع عظيم من العجم، وعقة ابن أبي عقة في جمع عظيم من العرب من النمر وتغلب وإياد وغيرهم، فلما سمعوا بخالد قال عقة لمهران: إن العرب أعلم بقتال العرب فدعنا وخالدا ، فقال: صدقت فأنتم أعلم بقتال العرب، وإنكم لمثلنا في قتال العجم ، فخدعه واتقى به وقال: إن احتجتم إلينا أعناكم ، فلامه أصحابه من الفرس على هذا القول، فقال لهم: إنه قد جاءكم من قتل ملوككم أمر عظيم وفل حدكم فاتقيته بهم، فإن كانت لكم على خالد فهي لكم، وإن كانت الأخرى لم تبلغوا منهم حتى يهنوا فنقاتلهم ونحن أقوياء ..
ومن العجب أن تلك الخديعة التي خدع بها مهران عقة ما زال يستخدمها أعداء العرب والمسلمين على مر التاريخ وحتى الآن ، وأبرز مثال على ذلك ما نجده من قتال الأفغان والعراقيين لأهليهم وبني وطنهم نيابة عن أمريكا ومن حالفها ، ومثل ذلك حدث في بلدان كثيرة من بلدان العالم الإسلامي وإنما ذكرت أفغانستان والعراق نموذجا..
وأعود إلى عقة هذا الأعرابي الذي غرره مهران فاغتر بنفسه فأقول : إنه سار بأتباعه إلى خالد فما أن التقى بخالد رضي الله عنه حتى حمل عليه بنفسه وهو يقيم صفوفه، فاحتضنه خالد من بينهم وأخذه أسيراً فانهزم من معه من غير قتال وأسر أكثرهم ، فما أضعف كيد الخونة !! وما أوهنهم !!.
ولما بلغ خبر هزيمتهم مهران هرب في جنده وتركوا الحصن، وكانت مقولة عقة له : " نحن أعلم بقتال العرب منكم " أشد عليه من وقع الحسام ، لأن تفسيرها له أن من هم أعلم بقتال العرب منهم قد فروا أمام جند المسلمين ، فكيف به هو ..
وشاء الله أن يعثر خالد في حصنهم بعد فرارهم على أربعين غلاماً كانوا يتعلمون الإنجيل، فأخذهم فقسمهم في أهل البلاء من المجاهدين فأتاحوا لهم الفرصة ليتعرفوا على الإسلام فصاروا وأولادهم من أهل العلم والفضل ، ومن هؤلاء : سيرين أبو محمد مفسر الأحلام الشهير ، وحمران مولى عثمان رضي الله عنه ، ويسار جد محمد بن إسحاق صاحب كتاب السيرة الشهير .
وصفا الجو لخالد بعد ذلك في الحيرة وما حولها من بلاد العراق فلم يبق أمامه رضي الله عنه سوى بعض التجمعات العربية ، ومن سولت له نفسه بنقض العهد معهم ، وهؤلاء تتبعهم حتى فرغ منهم تماما قبل أن يأتيه كتاب أبي بكر رضي الله عنه بالتوجه إلى بلاد الشام .
ورغم ذلك يسمي خالد تلك السنة التي حقق فيها تلك الفتوحات بسنة النساء !! لأنه لم يتوجه إلى المدائن ويفتحها ، ولم يكن دونتها شيء كما قال غير أن أبا بكر رضي الله عنه لم يأذن له بالذهاب إليها .
فكيف نسمي نحن ـ مسلمي العصر الحديث ـ سنينا إذن ، ونحن من عشرات السنين ونحن نتلقى الضربات من عدونا ، ولا نستطيع أن نحافظ على ما تبقى من بلداننا فضلا عن أن نسترجع ما أُخذ أو نفتح إليه المزيد ؟!!
وللحديث بقية إن شاء الله .