الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد: فإن من الآفات الخطيرة
التي تهدد المجتمعات آفة الخمر، التي قال عنها النبي صلى الله عليه وسلم :«
إِنَّهَا مِفْتَاحُ كُلِّ شَرٍّ» (رواه ابن ماجة) وسماها عثمان رضي الله
عنه أم الخبائث، تلك الخمر التي جاء تحريمها تحريما قاطعا، نظرا لكثرة
مفاسدها وشدة خطرها على الفرد والمجتمع، ولقد تساهل كثير من الناس في أمرها
في هذا الزمان، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن من أشراط السَّاعة
أن يشربها أقوام من أمته ويجاهرون بذلك وقد يسمونها بغير اسمها، وفي هذه
المقالة بيان لشيء من مفاسدها الدنيوية وأخطارها الدينية.
أولا : حكم شرب الخمر
شرب
الخمر محرم بالكتاب والسنة والإجماع، قال تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ
رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)
(المائدة:90)، وهو كبيرة من كبائر الذنوب لما ورد من وعيد شديد ومنه:
أولا : حلول اللعنة
من الوعيد الوارد في حق شارب الخمر وكل من كان له بها علاقة حلول اللعنة،
وحقيقة اللعنة الطرد من رحمة الله، قال أنس رضي الله عنه : «لَعَنَ رَسُولُ
اللَّهِ صلى الله عليه وسلم في الخمر عشرةً عاصرها ومعتصرها وشاربها
وحاملها والمحمولة إليه وساقيها وبائعها وآكل ثمنها والمشتري لها والمشتراة
له »(رواه الترمذي وابن ماجة).
ثانيا : سلب الإيمان
وقد نفى النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان عن شارب الخمر حين يشربها فقال:
« لا يشرب الخمر حين يشرب وهو مؤمن» (متفق عليه). وقال عثمان رضي الله عنه
:« فاجتنبوا الخمر فإنها واللَّه لا يجتمع الإِيمان وإِدمان الخمرِ إِلَّا
ليوشك أن يُخرج أحدهما صاحبه ».
ثالثا : تمثليه بعبادة الأصنام
ومثل النبي صلى الله عليه وسلم المدمن على الخمر الذي لم يتب بعابد
الأصنام فقال:« مُدْمِنُ الْخَمْرِ كَعَابِدِ وَثَنٍ » (رواه ابن ماجة
وحسنه الألباني)، وكان أبو مُوسَى رضي الله عنه يقول :« ما أبالي شرِبت
الخمر أو عبدت هذه السَّارية من دون اللَّه عز وجل» (رواه النسائي).
ثانيا : عقوبة شارب الخمر في الدنيا
أولا : الجلد والإهانة في الدنيا
ولشرب الخمر عقوبة تعزيرية في الدنيا كانت في عهد النبي صلى الله عليه
وسلم جلدا وإهانة، وحدَّها أبو بكر بأربعين جلدة، فعن أنسِ رضي الله عنه
أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم ضَرَبَ فِي الْخَمْرِ بِالْجَرِيدِ
وَالنِّعَالِ، وَجَلَدَ أَبُو بَكْرٍ أَرْبَعِينَ (متفق عليه) ولما زاد شرب
الخمر في عهد عمر رضي الله عنه جلد فيه ثمانين جلدة.
ثانيا : الخسف والمسخ في الدنيا
وإذا جاهر الناس بذلك وأعلنوا به ظهرت العقوبات الربانية كالخسف (قلب
الأرض عليهم) والمسخ (تحويل صورهم إلى قردة وخنازير)، هذا فضلا عن الأمراض
الفتاكة، فقد قال صلى الله عليه وسلم: «ليشربنَّ ناس من أمتي الخمر
يسمُّونها بغير اسمها يُعزف على رُؤوسهم بالمعازف والمغنيات، يخسف اللَّه
بهم الأرض ويجعل منهم القردة والخنازير »(رواه البخاري وابن ماجة واللفظ
له).
ثالثا : عقوبة شارب الخمر في الآخرة
أولا : عدم قبول الصلاة أربعين يوما
وجاء في أحاديث الوعيد عدم قبول صلاة شاربها أي لا ينال شيئا من ثوابها
ومنها حديث : «لَا يشرب الخمر رجل مِنْ أُمَّتِي فَيَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ
صَلَاةً أَرْبَعِينَ يَوْمًا (رواه النسائي وابن ماجة) وحديث: « مَنْ
شَرِبَ الْخَمْرَ فَلَمْ يَنْتَشِ (أي لم يسكر )لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلَاةٌ
مَا دَامَ فِي جَوْفِهِ أَوْ عُرُوقِهِ مِنْهَا شَيْءٌ وَإِنْ مَاتَ مَاتَ
كَافِرًا وَإِنْ انْتَشَى لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلَاةٌ أَرْبَعِينَ
لَيْلَةً وَإِنْ مَاتَ فِيهَا مَاتَ كَافِرًا (رواه النسائي). ومعنى قوله
"مات كافرا" أي كالكافر في عدم قبول الصلاة، فإن الكافر لو صلى مع الكفر لم
تقبل صلاته.
ثانيا : السقي من نهر الخبال
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في حق من تكرر منه شرب الخمر مرارا أنه
يسقى من نهر الخبال في جهنم (رواه الترمذي وصححه الألباني) وهو نهر من صديد
(وهو قيح ودم) أهل النار. وهذه عقوبة خاصة يتوعد بها من لم يتب من شرب
الخمر حتى مات.
ثالثا : الحرمان من الجنة
ومن الوعيد فيها الوارد الحرمان من دخول الجنة (ابتداء)، قال ِصلى الله
عليه وسلم : «ثَلَاثَةٌ لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ الْعَاقُّ
لِوَالِدَيْهِ وَالْمُدْمِنُ عَلَى الْخَمْرِ وَالْمَنَّانُ بِمَا أَعْطَى »
(رواه النسائي وصححه الألباني).
رابعا: الحرمان من خمر الجنة
ومن عقوبات الآخرة أن من لم يتب منها يحرم من خمر الجنة، وهي خمر لا آفة
فيها يجازي بها الله تعالى عباده الذي أطاعوه فتركوا خمر الدنيا وصبروا
عليها، قَالَ صلى الله عليه وسلم مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فِي الدُّنْيَا
ثُمَّ لَمْ يَتُبْ مِنْهَا حُرِمَهَا فِي الْآخِرَةِ (متفق عليه).
رابعا : أضرار الخمر الدينية والأخلاقية
إن الخمر أم الخبائث لأنها تذهب العقل وتحجبه، وإذا ذهب عقل المرء تحول
إلى حيوان لا تمييز له يصدر عنه كل أنواع الشر والفساد، من قتل وسرقة وزنا ،
وعدوان على الأهل والجيران وفحش في الكلام وإفشاء للأسرار، وخيانة وعقوق
للوالدين وغير ذلك من الموبقات.
شرب الخمر يفسد الدين فإنه يصد المرء عن ذكر الله تعالى وعن الصلاة، ويذهب
بالحياء والغيرة والمروءة ، ويساعد على اقتراف المحرمات ويورث سيئ الخلاق .
قيل لأحدهم في الجاهلية: لم لا تشرب الخمر ؟ فقال :« لأني رأيت الكملة
يزيدون في عقولهم ، وشارب الخمر يسعى في زوال عقله فتركتها». ويؤكد لنا
عثمان رضي الله عنه على خطر الخمر على الدين بقصة قصها علينا فذكر أنه كان
رجل ممن كان قبلنا صار عابدا فعشقته امرأة، فأرسلت إليه جاريتها فقالت له:
إنا ندعوك للشّهادةِ فانطلق مع جاريتها فلما دخل بيتها أغلقت الأبواب ووجد
نفسه مع امرأة جميلة عندها غلام وإناء خمر، فقالت إني واللَّه ما دعوتك
للشهادة ولكن دعوتك لتقع عليّ أو تشرب من هذه الخمرة كأسا أو تقتل هذا
الغلام، قال: فاسقيني من هذا الخمرِ كأسا، فسقته كأسا، قال: زِيدُونِي فلم
يترك المكان حتى وقع عليها، وقتل النفس (القصة مقتبسة من سنن النسائي).
خامسا : الأضرار الصحية
شرب الخمر يسبب أمراضا كثيرة أولها نقصان القدرات العقلية والإصابة
بالأمراض العصبية والجنون، قال الحسن البصري :« لو كان العقل يشترى، لتغالى
الناس في ثمنه، فالعجب ممن يشتري بماله ما يفسده!».
ومن تلك الأمراض التسمم الكحولي (عندما ترتفع نسبة الكحول في الدم)، ومنها
الشلل والنوبات الدماغية والتليُّف الكبدي ، وضعف البصر، وتقرحات الفم
والتهابات في البلعوم والمريء والمعدة والأمعاء والبنكرياس ، وتضخم الطحال
وفقر الدم وضغط الدم وسرطان المريء والمعدة. ويسبب الخمر مرض السل وضعف
القدرة الجنسية ويجعل الجسم أقل مناعة ضد الأمراض. وما زلنا نعجب ممن يظن
أن الخمر تكون سببا لعلاج بعض الأمراض –وممن يضع نسبا من الكحول في
الأدوية-وهي تؤدي إلى كل هذه الأمراض الفتاكة، وصدق نبينا صلى الله عليه
وسلم الذي قال لمن زعم أنه يصنعها دواء:« إنه ليس بدواء ولكنه داء»(رواه
مسلم).
وكذلك شرب الخمر كثيرا ما يكون سببا للهلاك بغير هذه الأمراض، فقد يتسبب
في حوادث السير (70 بالمائة من الحوادث في فرنسا سببها السكر) وقد يؤدي إلى
الانتحار (50بالمائة من المنتحرين في أمريكا مدمنون على الخمر).
سادسا : الأضرار الاجتماعية
وتسبب الخمر أضرارا اجتماعية كثيرة أولها العداوة والبغضاء بين أفراد
المجتمع بل بين أفراد الأسرة الواحدة، قال تعالى:] إِنَّمَا يُرِيدُ
الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي
الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ
الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ[ ومنها تضييع الأهل تربية ونفقة،
فشارب الخمر قدوة سيئة في أسرته ومجتمعه، ينفق ماله في السكر ويترك أولاده
للجوع والعراء، وكثيرا ما تكون الخمر سببا للفراق بين الزوجين، الأمر الذي
كثيرا ما ينتج عنه تضييع الأولاد وتشردهم. ومما يدلنا على أن الخمر أم
الخبائث حقا أن مرتادي السجون والمقدمين على أبشع الجرائم هم من متعاطي
الخمور وأنواع المسكرات.
سابعا: الأضرار الاقتصادية
وفشو الخمر في مجتمع ما يسبب أضرارا مالية واقتصادية، على مستوى الفرد أو
الجماعة، فشارب الخمر مبذر لماله مضيع له فيما يضره ولا ينفعه ، وقد يسبب
له سكره تضييع أموال أخرى يعطيها بلا فائدة أو تسرق منه. هذا على مستوى
الفرد أما على مستوى الجماعة ، فيظهر ذلك في تكاليف العلاج من تلك القائمة
الطويلة من الأمراض التي تسببها، هذا فضلا عن الخسائر التي تسببها الحوادث
المؤدية إلى إفساد الممتلكات، ونقصان مردود متناولي الخمور وإنتاجهم… وفي
أمريكا (1979) قدرت الخسائر الاقتصادية التي سببها الخمر وسائر المسكرات
بـ56 مليار دولار، منها 13 مليار لنفقات العلاج.
فمهما كانت المداخيل التي تحصلها الدول بإنتاج الخمر فالخسائر ولا شك تكون
أعظم بكثير، قال تعالى : (وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا)
(البقرة:219) والمال الحرام لا بركة فيه.
استجابة الصحابة رضي الله عنهم
لقد كان الخمر منتشرا في الجاهلية فلما نزل تحريمه على نبينا صلى الله
عليه وسلم سارع الصحابة إلى الامتثال دون تردد أو مناقشة، حكى أنس رضي الله
عنه أنه كان يسقي أبا عبيدة وأبا طلحة وأبي بن كعب خمرا فجاء من أخبرهم
بأن الخمر قد حرمت، فقال أبو طلحة: قم يا أنس فأهرقها قال أنس:" فما
راجعوها ولا سألوا عنها بعد خبر الرجل "(متفق عليه). وأهدى رجل إلى النبي
خمرا فأخبره الرسول صلى الله عليه وسلم بتحريمها ، فأراد أن يبيعها فقال
صلى الله عليه وسلم :« إِنَّ الَّذِي حَرَّمَ شُرْبَهَا حَرَّمَ بَيْعَهَا »
فأراقها الرجل من فوره(رواه مسلم). وهكذا ينبغي أن تكون طاعتنا لربنا عز
وجل ولنبينا صلى الله عليه وسلم ، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا
يُحْيِيكُمْ) (الأنفال:24)، نسأل الله تعالى أن يهدينا ويهدي بنا ويجعلنا
هداة مهتدين وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الكاتب أبو عبد الله محمد حاج عيسى