الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد : فإن الغرور مرض قتال
وداء عضال، وإن شر الأمراض ما يصيب القلوب فيقطعها عن الله علام الغيوب،
وقد بين لنا ربنا سبحانه خطره وحذرنا منه في كتابه فقال: (يَا أَيُّهَا
النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ
الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ) (فاطر:5) وبين لنا
أيضا مصير من اغتر بالدنيا وظواهر الأمور كالمنافقين، وهم من أعظم الناس
غرورا في الدنيا، قال تعالى : (يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ
قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ
وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ
وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ
فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ
مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) (الحديد:14-15).
خطر الغرور
إن الغرور داء خطير: لأنه مانع من موانع التوبة والإنابة والله تعالى يقول
: (وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (الحجرات:11)،
ولأنه يدفع إلى تزكية النفس وإحسان الظن بها، والله تعالى يقول: (فَلا
تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى) (النجم:32)، ولأنه
يدفع إلى نكران نعمة الله تعالى كما قال قارون: (إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى
عِلْمٍ عِنْدِي) (القصص:78)، لأنه يدفع إلى الأمن من مكر الله تعالى والله
تعالى يقول : (أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ
إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ) (الأعراف99)، ولأنه يدفع إلى قطع الأعمال
الصالحة، يقول أحدهم: قد عملت وعملت فلم الزيادة. إن الغرور داء خطير لأن
أسبابه كثيرة متعددة، فمن سلم من بعضها لا يكاد يسلم من البعض الآخر،
والغرور داء خطير لأنه يصاب به المؤمنون والكفار والأبرار والفجار، إلا من
عصمه رب العالمين.
أسباب الاغترار العامة
1-الاغترار بالمال ونعم الدنيا
وعلى رأس من يغتر بذلك الكفار، الذين غرتهم الدنيا لأنها عاجلة، ومنهم
الذين يقولون: لو كانت الآخرة حقا لكنا أسعد الناس فيها، كما قال صاحب
الجنة: ( وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى
رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْهَا مُنْقَلَباً) (الكهف36).
وليس هذا خاصا بالكفار فإن كثيرا من أهل القبلة واقع فيه، قال ابن القيم
رحمه الله :« وأعظم الناس غرورا بربه من إذا مسه الله برحمة منه وفضل،
قال:" هذا لي" أي أنا أهله وجدير به ومستحق له، ثم قال:" وما أظن الساعة
قائمة" فظن أنه أهل لما أولاه من النعم مع كفره بالله، ثم زاد في غروره
فقال:" ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى" يعني الجنة والكرامة ».
وليعلم كل مسلم أن النعمة لا تدل على الرضا والمحبة، فإن الدنيا لو كانت
تساوي عند الله جناح بعوضة ما سقى منها الكافر شربة ماء كما صح عن النبي
صلى الله عليه وسلم، قال بعض السلف:«رب مستدرج بنعم الله عليه وهو لا يعلم،
ورب مفتون بثناء الناس عليه وهو لا يعلم، ورب مغرور بستر الله عليه وهو لا
يعلم ».
2-الاغترار بعلوم الدنيا
ومن الناس من يغتر بما علمه الله تعالى من علوم الدنيا، فيشابه حال قارون
الذي رزقه الله مالا كثيرا فبدلا من أن يحمد الله تعالى ويعترف بفضله قال :
(إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي) (القصص:78)، وقد يدفع الغرور
ببعض الناس إلى احتقار علوم الشريعة التي تعرفه بربه وبكيفية عبادة ربه
فينطبق عليه قول رب العزة جل جلاله : (يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ) (الروم:7)
3-الاغترار بالقوة والجاه
فهذا فرعون غره جنده وقوته فكفر بالله تعالى فكيف كان مصيره؟ وقد حكى
لنا الله عز وجل عن طائفة من الكفار قولهم : (نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً
وَأَوْلاداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) (سـبأ:35) .
4-الاغترار بالنسب
ومن المغرورين بالنسب الصوفية "المرابطين" الذين يدَّعون النسب الشريف إلى
الحسن أو الحسين، وهذا النسب لو صح لم ينفعهم ولو نفع النسب أحدا لنفع أبا
طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم وقد قال الله تعالى : (إِنَّ
أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [ (الحجرات:13) وقال :] فَإِذَا
نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا
يَتَسَاءَلُونَ) (المؤمنون:101) وقال النبي صلى الله عليه وسلم:« ومن بطأ
به عمله لم يسرع به نسبه » (رواه مسلم).
اغترار أهل المعاصي
1-الاغترار برحمة الله تعالى
ومن الناس من يغتر برحمة الله تعالى، كالعصاة والمذنبين الذين يتعلقون
بالرجاء وينسون الخوف من الله تعالى، نعم نرجو رحمة الله تعالى ونعمل
للوصول إليها كما قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ
هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ
اللَّهِ) (البقرة:218). وقال: (فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ
فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْركْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدا)
(الكهف110).
2-الاغترار بعدم تعجيل العذاب
إن الله تعالى حليم ومن حلمه أنه لا يعجل العقوبة لمن يستحقها، وبعض الناس
إذا أمهله الله تعالى، قال أنا على الصراط المستقيم، كما قال تعالى عن
المنافقين: (وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ
بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ)
(المجادلة:8).
3-الاغترار بطول الأمل
وكثير من الناس يغره طول الأمل، فكل عمل خير يؤخره، وكل إحسان يرجئه، وهو غارق في التقصير والعصيان، وقد قال إبراهيم بن أدهم :
يا من بدنياه اشتغل قد غره طول الأمل
المـوت يـأتي بغتـة والقبر صندوق العمل
4-التعلق بالشفاعة
ومن المذنبين من يتعلق بشفاعة سيد المرسلين e ويمنِّي نفسه ويعدها، فحاله
لا يختلف عن حال اليهود الذين قالوا : (لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا
أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ
يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا
تَعْلَمُونَ) (البقرة:80). نعم نحن نؤمن بالشفاعة لمن مات على التوحيد، لكن
أيعلم العبد هل يختم له بالتوحيد، ألم يعلم بأن المعاصي بريد الكفر، وقد
يبتلى المصر عليها بسوء الخاتمة .
اغترار أهل الاستقامة
1-الاغترار بالاستقامة
قد
يظن بعض المستقيمين أن التوبة خاصة بالكفار والعصاة، فإذا جاءت المواعظ
يشعر دائما أن المخاطب بها غيره. قال بعض السلف:« آفة العبد رضاه عن نفسه
ومن نظر إلى نفسه باستحسان شيء منها فقد أهلكها ومن لم يتهم نفسه على دوام
الأوقات فهو مغرور». وربما احتقر غيره أساء الظن بهم، فيأسهم من رحمة الله
كالذي قال لصاحبه والله لا يغفر الله لك.
2-الاغترار بالانتساب إلى السنة
ومن الناس من يغتر بانتسابه إلى السنة، ويظن أنه قد وضع قدمه في الجنة،
نعم الالتزام بالسنة سبب من أسباب دخول الجنة، وليس هو وحده موجبا لدخولها،
وما مثل هؤلاء إلا كمثل اليهود والنصارى الذين قالوا : (نَحْنُ أَبْنَاءُ
اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ
أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ
يَشَاءُ ) (المائدة:18). قال ابن رجب رحمه الله :« ومراد هؤلاء الأئمة
بالسنة طريقة النبي صلى الله عليه وسلم التي كان عليها هو وأصحابه السالمة
من الشبهات والشهوات، ولهذا كان الفضيل بن عياض يقول :" أهل السنة من عرف
ما يدخل بطنه من حلال "!! وذلك لأن أكل الحلال من أعظم خصال السنة التي كان
عليها النبي e وأصحابه رضي الله عنهم ».
3-حسن الظن بالنفس
ومن الناس من يغره حسن ظنه بنفسه، فإذا أصابته مصيبة، بدلا من محاسبة نفسه
والتوبة إلى الله عز وجل، يقول: الابتلاء شأن الصالحين، وأشد الناس بلاء
الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل . والصالحون فعلا كانوا يتهمون أنفسهم ويقول
أحدهم : إني لأعرف معصيتي في عصيان زوجتي وعثرة دابتي.
4-الاغترار بالعلم
ومنهم من يغتر بما حصل له من علم فيحسب نفسه أعلم الناس ويتكلم في دين
الله بلا ورع، ويفتي بالظن ويجادل بلا علم قال تعالى :] وَمِنَ النَّاسِ
مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتَابٍ
مُنِيرٍ ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي
الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ [
(الحج:8-9). وقد قيل: العلم ثلاثة أشبار، من دخل في الشبر الأول تكبر ومن
دخل في الشبر الثاني تواضع، ومن دخل في الشبر الثالث علم أنه ما يعلم .
5-الاغترار بكثرة العبادة
ومن الناس من ينظر إلى كثرة أعماله ويظن أنها قد قبلت وأنها ستدخله
الجنة، وكيف يظن ذلك ومن شرط قبولها الإخلاص، والإخلاص عزيز، قال فضالة بن
عبيد رضي الله عنه :«لأن أكون أعلم من الله أنه قد تقبل مني مثقال حبة خردل
أحب إلى من الدنيا وما فيها لأن الله تعالى يقول: (إنما يتقبل الله من
المتقين )، أما المؤمنون الصالحون فهذا هو حالهم: (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ
مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ)
(المؤمنون:60) سألت عائشة رضي الله عنها رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ فقالت: أَهُمْ الَّذِينَ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ
وَيَسْرِقُونَ قَالَ:« لَا يَا بِنْتَ الصِّدِّيقِ وَلَكِنَّهُمْ الَّذِينَ
يصومونَ وَيُصَلُّونَ وَيَتَصَدَّقُونَ وَهُمْ يَخَافُونَ أَنْ لَا
يُقْبَلَ مِنْهُمْ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ »
(رواه الترمذي).
ومن شرط قبول العمل أيضا الاتباع والسلامة من الابتداع، بل قال ابن القيم
رحمه الله :« وحق الله تعالى في الطاعة ستة أمور تقدمت وهي: الإخلاص في
العمل والنصيحة لله فيه ومتابعة الرسول فيه وشهود مشهد الإحسان فيه وشهود
منة الله عليه وشهود تقصيره فيه بعد ذلك كله ».
أعظم الناس غرورا
وأعظم الناس غرورا أهل الشرك، والواقعون في الشرك من المستهينين بأمره ،
قد يكون لأحدهم أعمال صالحة وطاعات ولكنه ينطبق عليه قول المولى عز وجل:
(وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً
مَنْثُوراً) (الفرقان:23) ذلك أنه لا ينفع مع الشرك حسنة لأن الله تعالى
يقول: (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ
الْخَاسِرِينَ) (الزمر:65) وعلى رأس هؤلاء الذين يتبعون الطرقية أصحاب
الأحوال الشيطانية التي يحسبونها كرامات إيمانية. قال تعالى: (قُلْ هَلْ
نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً)
(الكهف:104). وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
الكاتب أبو عبد الله محمد حاج عيسى الجزائري