أصبحت الأذهان تسيل هذه الأيام بالتحليلات والآراء المختلفة حول القضية الفلسطينية والقدس والأقصى بوجه خاص، سيما بعد إصرار السلطة وبعد كل الذي حدث ويحدث على أن المفاوضات هي خيارها الاستراتيجي الوحيد كما صرح رئيسها محمود عباس، أي حتى لو استمرت على هذا العبث مع أنه غير جديد من قبل سلطة الاحتلال، ويذهب البعض وهم يدفعون في اتجاه المفاوضات وحسمها إلى أنه لا مانع من الاعتراف بالدولة اليهودية إذ إنها منذ قامت إنما نشأت على هذا الأساس فما الذي تغير الآن؟ وهم بذلك يتجاهلون ـ غير مكترثين ـ صراع ستين عاماً عانى فيها إخوتهم في الأرض والشتات من مذابح ومجازر جهنمية، ولعل مظاهرات أهل كفر قاسم أمس في ذكرى مجزرتهم الرهيبة منذ العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 وحتى اليوم تكون لهم ذكرى أن كل فلسطيني ـ رغم الدماء ـ خلق ليبقى لا ليزول، فكفر قاسم التي قدمت الضحايا ولم يكن يتعدى عدد سكانها يومها 1400 نسمة فإنهم الآن يعدون عشرين ألفاً، ورغم أن مقولة هؤلاء تظلم الحق الفلسطيني داخلاً وخارجاً من جهة، فإنها من جهة أخرى تتناغم مع قانون أولوية القدس لدى "إسرائيل" الذي أقر من قبل اللجنة الوزارية المسؤولة عن الشؤون التشريعية في "إسرائيل" مؤخراً، ورغم أن الناطقين الرسميين لفتح وحماس أسامة القواسمي وفوزي برهوم أدانا هذه الشرعنة الصهيونية التي تقوم على خطة تهويد ممنهجة ومبرمجة تعمل على زيادة الاستيطان وطرد السكان الأصليين وهدم المنازل في القدس، حيث قررت سلطة الاحتلال إزالة 231 منزلاً منذ أيام ضمن خطتها المرسومة، ضاربة بكل النداءات الدولية والمناشدات التي التمست منها مجرد تجميد الاستيطان ولو لشهرين دون فائدة، رغم كل ذلك ورغم الصمت العربي وغياب المواقف الرافضة لاقتلاع الهوية والوطن والمسجد الأقصى والقدس فإننا نرى الفئة المشجعة على حسم المفاوضات بالاعتراف بيهودية الدولة تجد ذلك لا عوج فيه؛ لأنه من سياسة الأمر الواقع كما يزعمون، أما لو ذهبنا إلى قرارات الشعوب والعقلاء الفاهمين لطبيعة الصراع مع الصهاينة في فلسطين وخارجها، فإننا نلاحظ تأكيد هذه الفئة أنه لم يعد –بل كما كان من قبل –أي مبرر للسلطة في الاستمرار بهذه المفاوضات لأنه قد توضح لكل ذي بصر وبصيرة أن "إسرائيل" غير راغبة أصلاً بالسلام مع الفلسطينيين، وأننا مازلنا نلمس بكل جدية أن شعبنا الأبي في أرض فلسطين ـ خاصة في القدس ـ مازال مصمماً على الصمود في وجه التهويد، فكيف نعمل على خذلانه بدل أن نقويه ليواصل جهاده المدني؟ بل ونعدُّه بكل قوة لجهاد قتالي بالطريقة التي تجعله يصبر ويصابر ويصطبر حتى يحكم الله.
وإذا كانت جولة الباطل ساعة فإن صولة الحق إلى قيام الساعة.إن فكرة هؤلاء في تبيين أيديولوجية الصراع وأنه يريد من قبل اليهود أن يلغي الآخر الذي سكن فلسطين منذ أكثر من خمسة آلاف سنة لهي الجديرة بالدرس والتحليل سيما أن شواهدها الثابتة لا تعوز الباحث عميق جهد ودراسة، فقد بات من المعروف اليوم كم يكرر هؤلاء اليهود خرافاتهم وخزعبلاتهم أن الرب هو الذي منحهم أرض فلسطين بوعد إلهي لا يمكن لأحد أن يجادل فيه وحتى أرض الجولان فقد سبق لرئيس الوزراء مناحيم بيجن أن قال:(إنها أرض توراتية)، وأخذت هذه الفكرة تنتقل إلى مبدأ عبر هذه التصريحات، وأعان اليهود في ذلك الجماعات المسيحية المتصهينة ثم ألبسوها رداء السياسة، وأخذوا ينافحون عنها ليس على يد المتطرفين الدينيين كحزب شاس ومن يمشي في فلكه، بل على يد السياسيين من خدمهم مثل: نتنياهو، وليبرمان.
إنهم لا يستحون من هذه اللافتات لأنها عندهم حقائق، أما نحن فإن كل من يرفع صوته ليقول: إن الصراع ديني محض، فإنه يعتبر عند ذلك إرهابياً، ويكون معرضاً للمساءلة بل ربما العقاب من الذين يسيرون لخدمة الأسياد لا لإنقاذ العباد بالهدى والرشاد والجهاد.
وهل نعجب إذا رأينا اليهود يحرسون باطلهم وأهلنا ينشرون الحرس غالباً لدفن الحق لا لإظهاره؟. إن هرتزل مؤسس الحركة الصهيونية كان صريحاً عندما كتب كتابه "الدولة اليهودية" منذ عام 1897 عقب المؤتمر الأول للصهاينة الذي عقد في بازل بسويسرا وبدافع ديني، ألم نتأكد أن اليهود والمسيحيين المتصهينين قدموا ـ ومازالوا ـ الجهود الضخمة لفرض ما أطلق عليه: الحل النهائي، الذي يرمي إلى هدم المسجد الأقصى وبناء الهيكل الثالث؛ من أجل إذلال العرب والمسلمين في أوطانهم؟ وهو ما صرح به أحد أمناء الهيكل (جرشون سلمون) والخبير الإسرائيلي (جوزيف سيرج) وأنه باكتمال الهيكل تكتمل دولة صهيون.
وكما أكده الدكتور أنور الجندي في كتابه: الضربات التي وجهت إلى الأمة الإسلامية "ص 263" ،عن تحقيق نبوءة الهيكل ليحل محل المسجد الأقصى، وأما عن القدس فكم هي الجهود المستمرة لتهويدها جغرافيا وديموغرافيا ووضع القواعد العسكرية داخلها وخارجها لحمايتها ومصادرة حق وجود أهلنا هناك؟ ألم يقل ديفيد بن جوريون: لا معنى لإسرائيل دون القدس ولا معنى للقدس دون الهيكل؟، وكذلك تصريح شمعون بيريز: ستظل القدس عاصمة إسرائيل الموحدة، وإن القدس ليست قبلة العرب إنها هويتنا الروحية وستظل لها الأولوية في سياستنا، أقول: فإلى متى يبقى زعماؤنا بلا هوية ولا يقدمون شيئاً عملياً إلى القدس الشريف، اللهم إلا من علمناه من بعضهم الذين يعتنون ببعض الدعم المشكور للقدس؟ وإلى متى يهرول بلا أدنى هيبة من يجعل المفاوضات الحالية البائسة الخائبة خياره الاستراتيجي ضارباً برأي شعبه والعرب والمسلمين عرض الحائط؟ وللتاريخ، فإننا يجب أن نصطف مع أهل الحق الذين يفهمون طبيعة هذا الصراع مع أشد الناس عداوة للمؤمنين، وننحاز إلى معسكر المقاومة الذي لن يتردد في الدفاع عن الحق. وما جرى ويجري في أم الفحم من مواجهات ضد المستوطنين اليوم لأكبر دليل أن أصحاب الحق لا يؤيدون هذه المفاوضات المخزية، وكما أخرج الله اليهود وطردهم من القدس لما اعتدوا على الأنبياء وأورث المسلمين أرضهم وهم الذين أزاحوا عنها حكم الرومان بعد ستة قرون ثم حكموها ثلاثة عشر قرنا إلا القرن الذي احتلها فيه الصليبيون ثم أخرجوا منها، فكذلك فإننا نحن المسلمين ورثة سيدنا إبراهيم ومحمد صلى الله عليه وسلم، سنحافظ على الأقصى والقدس إلى يوم الدين بإذن الله، وإن غداً لناظره قريب.