"المجرم والشاهد والقاضي" شخص واحد، طرف واحد، جهة واحدة، والحكم الذي يصدر في هذا المجال نهائي وعادل وعلى الجميع أن يقبلوه باحترام أو بإذعان، فهو صادر عن يهود.. هكذا "إسرائيل" منذ وجدت، وفي كل ممارساتها الإجرامية الخارجة على القوانين والأخلاق والقيم والأعراف، وهكذا بهذه الصفات والمواصفات يسكت عنها "العالم المتحضر"، و"المجتمع الدولي" الذي صنعها، وأطلق لها العنان، وجعلها فوق القانون والمساءلة والناس.
أما لماذا تكون كذلك فسؤال ينبغي ألا يسأله أحد، لأن من يطرح مثل هذا السؤال "يتجاوز مقامه" ويوجه سؤالاً لمن "اختاره الرب - جل الرب عن ذلك - شعباً"، وجعل له الآخرين "خدماً" وتبعاً، ويتجاوز أيضاً "إيمان من يقول بصدقية ذلك الاختيار؟!. وعلى من يقول: إن ذلك عنصرية، أن يدرك أنه يعترض على خيارات حاخامات بني "إسرائيل"، وعلى أحكام التلمود التي وضعوها ورسخوها بالممارسة، وأصبحت لديهم مرجعاً، وهي عندهم فوق أقوال التوراة بشقيها الصحيح والمختَلَق، والحاخامات هم من يحكم الحكم القاطع، بصرف النظر عن المرجعيات الربانية والسياسية. وعلى من يشك بذلك أن يتذكر حزب شاس والحاخام العنصري عوباديا يوسف، وأحزاب اليمين اليهودي والحريديم، وتأثيرها جميعاً في السياسة والمجتمع، وأن ينظر إلى العنصرية المتدحرجة حتى داخل التجمعات اليهودية ذاتها، والتمييز بين الأشكينازيم والسفارديم.. وما مظاهرات اليهود المتدينين في القدس المحتلة يوم الأربعاء 17/6/2010 التي خرجت لأن هناك من رفض أن يكون طلاب المدارس من أصول أشكنازية "غربية" في صفوف مشتركة مع أقرانهم من السفاريديم "الشرقيين"، سوى قشرة تغطي ذلك اللب الكريه، فالتمييز العنصري قائم على "أسس روحية، دينية، تلمودية، وثقافية - اجتماعية" بين اليهود والغوييم "أي الأمم الأخرى"، وبينهم أنفسهم. ومن الطريف المسلي أن يستذكر المرء حدثاً عجباً يروى في سياق النكتة أحياناً، وهو إلى اعتقاد اليهودي المتدين المتطرف أقرب، حيث يُقال: "إن حاخامات اليهود اختلفوا مع الرب - جل الله عن ذلك - حول مسألة من المسائل، فحكَّموا بينهم حاخاماً، فحكم الحاخام على الرب، وطلب إليه الاعتذار من الحاخامات ففعل!."
ونحن اليوم أمام مهزلة بمواصفات غريبة، مواصفات غير مألوفة على الإطلاق، ولا منطقية ولا أخلاقية، لكنها مقبولة أميركياً وأوروبياً و.. حيث رفضت "إسرائيل" تشكيل لجنة تحقيق دولية لتحقق في العدوان الذي وقع على أسطول الحرية في المياه الدولية للبحر الأبيض المتوسط، حسب طلب جهات دولية منها الأمين العام للأمم المتحدة، وأعلنت أن عدالتها هي المرجع الدولي لعدوان قامت به هي، فشكلت لجنة تحقيق خاصة "لجنة تيركل"، وأخذت تروج في العالم أن هذا هو المتاح المقبول العادل الوحيد.. وأن قضاتها هم القضاة الذين لا يضاهيهم قضاة في العالم، وأن هذا هو الذي تقدمه "إسرائيل للأمم، وعليها أن تقبل به وإلا فلا يوجد شيء آخر تقدمه لمن اعتدت عليهم، وقتلتهم، ولمن احتج على ذلك وطالب بالتحقيق في الأمر.. ف"إسرائيل" هي المجرم والشاهد والقاضي.., ومن لا يعجبه الأمر فليفعل ما يشاء؟
إن عالماً يقبل بهذا الواقع، وهذا التصرف يذعن عملياً للقرصنة، ويسفه العدالة، ويقبل كل السخافات التي يقولها ساسة "إسرائيل" ومثقفوها وحاخاماتها وقراصنتها وصحفيوها وحماتها أياً كانوا وأياً كان منطقهم، ويضع التبجح والكذب والافتراء والادعاء الفارغ في مقامات عالية، ويفسح المجال أمام "الزعرنة والقرصنة وإرهاب الدولة" ليشكل مرجعية قانونية شرعية، ومرجعية دولية فوق مؤسسات الدول، ويصدر أحكاماً عالمية نافذة، ويضع قواعد التعامل مع الأحداث والدول والأشخاص على هواه.
ليس هذا الحدث هو الأول ولن يكون الأخير، و"إسرائيل" تضع كل ما يمت إليها فوق الآخرين، مستندة إلى سلطة الكذب والقوة.. مستثمرة ما تسميه " الشواة - المحرقة"، والعداء للسامية، وأباطيل كثيرة، جاعلة نفسها واليهود فوق الناس والثقافات.. يقول إيلي فيزل، مروِّج بضاعة "الهولوكوست" في الولايات المتحدة الأميركية، في ادعاء مناقض للحقيقة، يصادر كل ما يمكن أن يمسك باليهودي متلبساً بالجريمة والباطل: "اليهودي معاقب دائماً وبريء دائماً".. فتصوروا هذا النوع من الادعاء، وابنوا علي مقولات أولئك الذين يجولون ويصولون باسم الولايات المتحدة الأميركية في محافل دولية منها مجلس الأمن الدولي؟! وليس إيلي فيزل أول المدعين الكذبة ولن يكون آخرهم، فالوراثة متواصلة، وقبله قال سيمون دفنون المؤرخ اليهودي (1860-1941): "اليهودي، إنه مخلوق فريد له طبيعة أزلية، وتراث حضاري مستقل عن التراث الإنساني."
إننا أمام تاريخ من الأكاذيب التي حولتها الدعاية والسياسة والممارسات الإجرامية إلى حقائق ووقائع لا يرقى إليها الشك، تحميها القوة وتفرضها وتوسع دائرة انتشارها لتصبح ثقافة بل معايير ثقافية وحضارية وهي أباطيل وسخافات وادعاءات كاذبة لا تصمد للمنطق والموضوعية والاختبار العلمي الذي يجريه عقل نقدي محايد.
وعيبنا أننا لم نواجه تلك الأكاذيب واستهنا بتأثيرها على المدى الطويل حتى رسخت في أذهان كثيرين من أبناء الأمم والشعوب، لم نفند في حينه الكذبة الصريحة "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض" ونسينا أنفسنا بوصفنا عرباً وفلسطينيين ومسلمين,.. و.. وتركنا حبل الكذب على الغارب، ولم نقارب أسطورة " "وعد الرب لمن أحب"، التي ساهمت في الترويج لقبول الادعاء الصهيوني - اليهودي بأن فلسطين "أرض ميعاد لليهود " بموجب و"عد" صدر من "الرب" لإبراهيم الخليل عليه السلام، جدنا الحنيفي المسلم لله، الذي لم يكن يهودياً ولا نصرانياً، وسكن أرض الكنعانيين العرب مغترباً فيها، وتعلَّم فيها شفة كنعان، واشترى من شخص منهم مغارة "المكفيلا" في الخليل لتكون قبراً له ولزوجته سارة.
كما لم نتابع ثقافياً وسياسياً وإعلامياً تفنيد الكثير الكثير من الأباطيل التي روجها اليهود الصهاينة واستثمروها أبشع استثمار، ودقوها مسامير في أكفنا ونحن على صليب المعاناة اليومية منذ قرن ونيف من الزمان. إنهم يكذبون، ويجدون من يروج كذبهم ويتخذه حقائق ومصدَّات لكل ما يقوله الآخرون، ويعتدون بقوة همجية شرسة بحجة الدفاع عن النفس، وحين نقاوم دفاعاً عن أنفسنا لا يعتد بمقاومتنا لأن الصهاينة سموها إرهاباً، فنحن لا يحق لنا الدفاع عن أنفسنا وأرضنا لأننا.. لأننا.. لأننا ماذا بحق الله؟ لأننا لا نملك القوة والإرادة والثقافة الذاتية التي تعزز الهوية والحق والحرية.. وبعض الداء منا وفينا، فهناك في هذا الزمن الضحل، من يحالف "إسرائيل" من العرب - جاء في صحافة العدو الصهيوني يوم الأربعاء 16 يونيو في مقال بعنوان نظرة عليا، في نشرة الكترونية تصدر عن معهد بحوث الأمن القومي. حول تفاعلات ما جرى لأسطول الحرية في المتوسط، مما يسميه الصهاينة حملة وصم: ".. تسعى حملة الوصم هذه إلى تقويض حلفائنا وبخاصة في العالم العربي حيث المشاعر المعادية ل"إسرائيل" في ذروتها، وتحرج أصدقاءنا" - ومن يستقوي بها على إخوته، ومن يشجعها، تحت ذرائع شتى، على أن تبطش بأخيه، وينسى أنها حين تفعل ذلك ويشمت هو بأخيه، سوف تفعل به الشيء ذاته من بعد، ويشمت به ما تبقى من أخيه.. وتدور عجلة السوء والمهانة إلى ما لا نهاية.
في بعض اللحظات يستيقظ "يهودي" على وقع المأساة التي يصنعها الصهاينة والمتطرفون اليهود، ويرى بعين مغايرة لنظرة اليهودي التاريخية للناس، ويدقق في الإنساني، والمقبول والمرفوض من الآراء والأقوال والأفعال، فتند منه عبارات ومواقف وآراء تعبر عن جوهر إنساني شخصي، أو فردي، نقدره له.. مثال ذلك ما قاله الصحفي الصهيوني آري شافيت بعد مذبحة قانا عام 1996: " إن بإمكان "إسرائيل" التصرف متمتعة بالحصانة لأن لدينا اللجنة المعادية للتشهير ومتحف ياد فاشيم، ومتحف الهولوكوست." وحين يقدم واحد من أهل البيت اليهودي مثل هذه الشهادة فإنما يقدم عينة من نتاج المنطق العنصري". ولكن هذا لا يعد مقياساً يأخذ به العرب ليعمموه على العدو الصهيوني، إن حقيقة العدو الصهيوني تكمن في ثقافته التلمودية العنصرية، وفي ممارساته التاريخية، وفي إرهابه وإجرامه المستمرين ضد الشعب الفلسطيني منذ عقود من الزمن، وفي.. وفي.. إلخ، وهو ما قد يشير إلى بعضه اعتقاد معظم الصهاينة، حيث يرون "أن رضا "يهوه" مرتبط بإقدام جنوده على سحق الآخرين وإبادتهم، ويرى أن كل ما تطؤه أقدام جنود "يهوه" هو ملك تام لصهيون، وكل ما يمارسه اليهودي في سبيل الوصول إلى أغراضه وأهدافه، ولو كان في منتهى القذارة والخسة، هو عمل يبيحه "الدين" وتبيحه الشريعة وتحض عليه "الأخلاق" اليهودية. ويجد أن الكذب على الآخرين والتزييف والتزوير.. إلخ.. كلها أفعال مشروعة جداً ومنطقية ومطلوب القيام بها، بل مباركة، ما دامت تؤدي إلى وصول اليهودي إلى امتلاك الغير وإبادتهم وتحقيق نصر وتفوق له عليهم. وكل ذلك مؤسس، كما أسلفت، على اعتقاد راسخ بالحق والشرع، كما يفهم الشرعَ والحقَ يهودُ - صهيون، أو الصهاينة اليهود.
إنهم من هذا المنطلق يرفضون العدالة الدولية، عدالة الأمم.. ويعتبرونها انتهاكاً لحقوقهم وعدالتهم، ويرون محكمتهم فوق المحاكم، وعدلهم هو العدل، وأنه لا يجوز للآخرين أن يحاكموهم.. ومن هذا المنطلق يتعالون، ويدعون أنهم يملكون الحقيقة والعدالة، وأنهم المرجع الأخير، ويحق لهم ما لا يحق لسواهم، وأنهم حين يستبيحون دم الآخرين وأرضهم وأملاكهم ومقدساتهم وأعراضهم، إنما يفعلون ما هو مباح لهم ضد " الغوييم" المباحين لهم، وأن العدالة هي ما يصنعون! ولذلك فهم "المجرم والشاهد والقاضي.."، وعلى من لا يقبل ذلك أن يغيره، ونحن العرب أكثر من يعنينا تغيير ذلك لأننا من يكتوي بناره، ومن يهدد مستقبلهم ومستقبل أجيالهم.. ولن تغيره إلا قوة، هي لنا نحن العرب مفتاح ومدخل وحل ومخرج من كل ما نحن فيه. والقوة امتلاك لأدواتها المعرفية والعلمية والاقتصادية والاجتماعية، ولمقوماتها العسكرية والأمنية والتقنية، في عصر العلم والعولمة.. والقوة وحدة موقف ووحدة رؤية وهدف وصف.. فهل من مستجيب.؟!