من التعبيرات الخاطئة التي تروج في الصحافة وعلى ألسنة المتحدثين في الإذاعات والقنوات الفضائية، قولهم «فلسطين والقدس»، أو «الأراضي الفلسطينية والقدس». فإيراد حرف «الواو» في هذا السياق، ينطوي على معنى غير سليم، فهو يجعل فارقاً بين فلسطين وبين مدينة القدس عاصمة الدولة الفلسطينية المستقلة إن شاء الله. وكأن القدس ليست جزءاً لا يتجزأ من فلسطين. أو أن ثمة كيانين منفصلين؛ «الكيان الفلسطيني» و«الكيان المقدسي». وتلك مغالطة محفوفة بالمخاطر، لها انعكاسات سلبية على مجمل القضية الفلسطينية.
إن هذا الفصل المتعسف بين فلسطين وبين أهم مدينة من المدن الفلسطينية، يذكر المرءَ بقرار التقسيم الذي أصدرته الجمعية العامة للأمم المتحدة في 29 تشرين الثاني (نوفمبر) 1947، الذي لم ترد فيه مدينة القدس ضمن القسم الذي خصص للدولة الفلسطينية، وإنما وضعت أحكام خاصة بمدينة القدس، إذ نص القرار على وضعها تحت نظام دولي خاص، وعلى إسناد إدارتها إلى الأمم المتحدة. وكان ذلك أحد المحاذير التي انطوى عليها قرار التقسيم، الذي اتخذت إزاءه الدول العربية يومئذ موقف الرفض البات، وهي الدول السبع الأعضاء المؤسسة لجامعة الدول العربية.
مناسبة هذا الحديث، هي ما تتعرض له مدينة القدس الشريف في هذه المرحلة، من أخطار عاصفة محدقة بها، تهدّد بأوخم العواقب قد تصل إلى ضياع القدس منا.
إن سلطات الاحتلال الإسرائيلي تمارس سياسة الاستيطان على نطاق واسع في مدينة القدس ومحيطها من أجل تطويق المسجد الأقصى، وتواصل ممارسة سياسة التطهير العرقي والتهجير القسري لأهالي القدس في إطار مخططاتها الرامية إلى تهويد المدينة المقدسة وتدمير المسجد الأقصى والتأثير في الوضع الديموغرافي استباقاً لأية مفاوضات حول المدينة المقدسة.
والوضع الخطير الذي تعيش فيه القدس يقتضي تضافر جهود دول العالم الإسلامي في تحرّك جماعي في إطار العمل الإسلامي المشترك، للضغط على "إسرائيل" من خلال الاتصالات الدولية الواسعة مع الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن والمنظمات الدولية المعنية بالحفاظ على التراث الثقافي والحضاري في القدس المحتلة، من أجل وقف أعمال الحفريات في محيط المسجد الأقصى ووضع حدّ نهائي لسياسة الاستيطان والتطهير العرقي. ذلك أن حماية المقدسات الإسلامية والمسيحية في القدس الشريف، وفي مجموع الأراضي الفلسطينية، مسؤولية عربية وإسلامية ودولية. ولذلك فإنني أناشد المجتمعَ الدوليَّ القيامَ بتحرّك سريع لإنقاذ المدينة المقدسة من تغيير شامل لخصوصياتها الروحية والثقافية والحضارية، تطبيقاً لمقتضيات القانون الدولي.
لقد وضع خبراء الإيسيسكو، وهم من المهندسين والآثاريين من أبناء مدينة القدس، التقريرَ القانونيَّ حول عدم شرعية الحفريات في محيط المسجد الأقصى، وذلك من خلال التعاون مع اللجنة الوطنية الفلسطينية للتربية والثقافة والعلوم التي يوجد مقرها في رام اللَّه. وعقدت لجنة الخبراء والآثاريين تحت إشراف الإيسيسكو وبدعوة منها، اجتماعين، الأول في الرباط والثاني في عمان، لبحث الانتهاكات الإسرائيلية للقانون الدولي التي تتمثل في مواصلة الحفريات التي تقوم بها قوات الاحتلال الإسرائيلي في محيط المسجد الأقصى مستعينة بالخبراء الإسرائيليين في الآثار بحثاً عن أوهام وسراب خادع.
وقد ندد الاجتماع الثاني للخبراء الآثاريين الذي اختتم أعماله أخيراً في العاصمة الأردنية، بالممارسات والانتهاكات الإسرائيلية في القدس الشريف وبالحفريات التي تقوم بها سلطات الاحتلال الإسرائيلي في محيط المسجد الأقصى المبارك، وذلك لمخالفة هذه الحفريات للقوانين الدولية، ولما تشكله من تهديد لعمارة المسجد. وطالب خبراء الآثار في توصياتهم، سلطات الاحتلال الإسرائيلي بالوقف الفوري لجميع أعمال الحفريات والتنقيب الأثري بباب المغاربة، ووقف جميع الانتهاكات والخروقات للقوانين والاتفاقيات الدولية في محيط المسجد الأقصى المبارك. كما أوصوا بضرورة اعتماد التقرير القانوني بعدم شرعية الحفريات في محيط المسجد الأقصى، وبتكليف اللجنة الوطنية الفلسطينية للتربية والثقافة والعلوم، بالتعاون والتنسيق مع لجنة الخبراء الفلسطينيين، بإعادة صياغة التقرير في عين المكان وإرساله إلى الايسيسكو، وبتقديم الدعم المادي والفني إلى وزارة السياحة والآثار في فلسطين، والى هيئة الآثار الفلسطينية، لمساعدتهما على حماية الآثار الفلسطينية وترميمها وصيانتها. كما طالبوا المؤسسات الحكومية وهيئات المجتمع المدني في العالم العربي الإسلامي وخارجه، بتنسيق المبادرات وتوحيد الجهود لتوعية الرأي العام الإسلامي والدولي بمخاطر الحفريات في محيط المسجد الأقصى وانعكاساتها على التراث الحضاري العربي الإسلامي والمسيحي في مدينة القدس الشريف، وحثوا المجموعة العربية الإسلامية لدى اليونسكو، على مواصلة جهودها من أجل تحمل مسؤوليتها في اتخاذ الإجراءات الضرورية للحفاظ على الإرث الإنساني والحضاري لمدينة القدس الشريف، والعمل على استصدار قرار دولي بشأن وقف الحفريات في محيط المسجد الأقصى ضمن أشغال الدورة 33 للجنة التراث العالمي التي ستعقد في مدينة أشبيلية بإسبانيا في يونيو المقبل، وأهاب المشاركون في اجتماع لجنة خبراء الإيسيسكو بوسائل الإعلام العربية والدولية لفضح ممارسات الاحتلال الإسرائيلي المخالفة للاتفاقيات والمعاهدات الدولية في مجال حماية المقدسات والآثار التاريخية. ووجّهوا نداءً عاجلاً إلى منظمة اليونسكو لتفعيل القرار الذي اعتمدته في الدورة الثلاثين للجنة التراث العالمي التي عقدت بمدينة فيلينوس في ليتوانيا في يوليو 2006، والذي أقرته جميع الدول الأعضاء في اليونسكو، وهو القرار الذي ينص على أن تمد السلطات الإسرائيلية مركز التراث العالمي بجميع المعلومات ذات الصلة بمخططاتها لإنشاء بنايات جديدة وإعادة بناء الممر المؤدي إلى المسجد الأقصى المبارك.
ولكن العمل الذي تقوم به لجنة الخبراء الآثاريين التابعة للإيسيسكو، ليس سوى آلية واحدة من الآليات التي يتوجب استخدامها لإنقاذ القدس من التهويد، من خلال تفعيل القرارات الدولية ذات الصلة، والتي تنطلق من اعتبار القدس مدينة محتلة تسري عليها اتفاقية جنيف التي تنص على عدم قيام سلطات الدولة التي تتحمل مسؤولية الاحتلال، بتغيير الطابع الجغرافي والديموغرافي للأراضي التي تحتلها. ومعلوم أن "إسرائيل" احتلت القدس الشرقية في حرب يونيو (حزيران) 1967. وهي بهذا الاعتبار ملزمة بحكم القانون الدولي، بالحفاظ على الخصوصيات المعمارية والسكانية والثقافية والحضارية للمدينة المقدسة.
ومن أجل أن لا تضيع هذه الحقيقة وسط اللغط السياسي والصخب الإعلامي، يتعين على العرب والمسلمين جميعاً، في إطار جامعة الدول العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي، وبالتعاون مع الدول المنصفة المحبة للسلام الملتزمة بالقوانين الدولية، ومع المنظمات الدولية الفاعلة والمعنية، التركيز على الجوانب القانونية لقضية القدس، ووضع الحقائق كما هي قائمة على الأرض في هذه المدينة، أمام المجتمع الدولي، في إطار حملة ضغط معززة بالقرارات الدولية، للدفع في اتجاه إلزام دولة الاحتلال بالانصياع للقانون الدولي وتطبيقه في القدس الشريف التي هي لبُّ القضية الفلسطينية وحجر الزاوية في الصراع العربي الإسرائيلي.