ترفض الصهيونية، شأنها في ذلك شأن أي حركة عنصرية التسليم بمنطق العلم وحقائقه، لا بل وتخوض معهً حرباً واسعة، مكشوفة حيناً ومستترة في معظم الأحايين، وبالتحديد ضد حوامله وتستخدم في تلك الحرب أساليب متنوعة.
من أبرز هذه الأساليب القتل المعنوي من خلال إشهار تهمة معاداة السامية أو تعبير "اليهودي الكاره لذاته" حين يكون العالم يهودياً، كما هو حال عالم النفس النمساوي مؤسس مدرسة التحليل النفسي سيغموند فرويد إثر صدور كتابه "موسى والتوحيد".
القتل المادي
إضافة إلى القتل المعنوي، هناك القتل والتصفية الجسدية، كما حصل مع عالم الآثار الأميركي بول لاب الذي ترأس بعثة تنقيب في فلسطين العام 1962 بالقرب من نابلس.
ففتح بعمله الطريق لنقد علم الآثار التوراتي وساهم في تعزيزه. ومع العام 1967 بعد استكمال احتلال فلسطين، احتج لاب علناً على الحفريات التي بدأها الجيش الصهيوني وفريق علماء آثاره.
وكان لاحتجاجه أثر بالغ في اتخاذ منظمة اليونسكو قرار طرد الكيان الصهيوني من عضويتها، بعد أن أدانته لقيامه بحفريات غير مشروعة في أرض محتلة، وتدميره المتعمد للآثار الفلسطينية مثل إزالة حي المغاربة في مدينة القدس، وقد تم إغراق د. بول لاب على شاطئ قبرص الشمالي -وهو السباح الماهر- عمداً كعقاب له على مواقفه هذه.
وتم أيضاً اغتيال عالم الآثار الأميركي د. ألبرت جلوك في بير زيت عام 1992، والمذكور ترأس قسم علم الآثار في جامعة بير زيت، وأسس معهد الآثار الفلسطينية، وهو الأول من نوعه في الوطن العربي.
الكاتب والصحفي الأميركي إدوارد فوكس في كتابه الموسوم "فجر فلسطين.. مقتل د. ألبرت جلوك وعلم آثار الأرض المقدسة" اتهم الجيش الصهيوني في عملية الاغتيال.
رصاصة ومائة عصفور
عميد جامعة بير زيت د. برامكي شبه عملية الاغتيال المذكورة كما نقل عنه المؤلف بقتل مائة عصفور برصاصة واحدة. فقد استهدفت عملية القتل بث الرعب في نفوس الأساتذة الأجانب العاملين في جامعة بير زيت، وضرب مشروع استكشاف التاريخ الفلسطيني، وعرقلة تنمية قدرات فلسطينية في هذا الحقل المعرفي.
بالإضافة إلى معاقبة جلوك على مواقفه المنحازة إلى الحقوق الفلسطينية، والقضاء على مشروعه الذي كان يعمل عليه وهو نشر نتائج أبحاثه القائمة على التنقيب الميداني في المواقع الفلسطينية.
والأوسع من كل هذا، هو أن اغتيال جلوك جاء في سياق حرب خفية أحياناً ومعلنة في أحيان أخرى على جبهة خطاب الاستشراق التوراتي، وفي خضم هذه الحرب قامت سلطات الاحتلال الصهيوني 1967 بطرد عالمة الآثار البريطانية كاثلين كينو بعد أن أعلنت نتائج تنقيباتها عن واقع تدحض مزاعم الخطاب التوراتي حول مدينة أريحا الفلسطينية.
أشكال أخرى
يقع في مقدمة هذه الأشكال تزييف الحقائق التاريخية والمكتشفات الأثرية باستخدام أدوات العلم لتطويع المادة التاريخية لخدمة أغراض أبعد ما تكون عن العلمية.
وخير دليل هو فليكوفسكي في كتابه "عصور في فوضى" إذ يعمد إلى تزييف الحقائق التاريخية لتأكيد الأساطير اليهودية انطلاقاً من فرضية تذهب إلى أن ثمة خطأ وقع في تأريخ التاريخ المصري القديم، حيث توقف تاريخ مصرعند لحظة محددة مع نهاية الأسرة الثانية عشرة في الدولة الوسطى بدخول الهكسوس إلى مصر، ولأن هؤلاء الغزاة كانوا بدواً برابرة لا يحترمون الحضارة ولا يعرفون حتى الكتابة فقد حطموا حضارة مصر ولم يحاولوا أن يتعلموا شيئاً من المصريين.
لذلك لم يتم تدوين شيء ذي بال طوال فترة احتلال الهكسوس، بينما كان بنو إسرائيل وقت دخول الهكسوس إلى مصر في طريق الخروج لشبه جزيرة سيناء، ووقت فوران أحداث جسام لم تسمح بتدوين واضح كامل لتلك الأحداث.
بالطبع كما هو واضح الهدف من هذا التزوير هو تبرير لماذا لم تسجل المدونات المصرية عملية "خروج بني إسرائيل" من مصر؟
أما فيما يتعلق بتزييف المكتشفات الأثرية فنشير إلى إقدام فليكوفسكي على تزييف قراءة اللقى الأثرية التالية:
- بردية ليدن، أو بردية إيبور
- حجر العريش
- بردية الأرميتاج
سرقة الوثائق
وهناك أسلوب آخر يضاف إلى ما تقدم هو سرقة الوثائق التاريخية وإخفاؤها، ولعل أكبر عملية سطو شهدناها هي السطو على المحفوظات العراقية وتحديداً تلك التي تخص اليهودية.
فقد نشرت الصحف كثيراً من الأخبار عن سرقة المتحف العراقي من أجل الحصول على التلمود البابلي الذي لم يكن في استطاعة الصهيونية الحصول عليه في العهود السابقة، فانتهزت فرصة الاحتلال الأميركي لسرقة ما يهمها من المتحف العراقي.
بل إن الصحف نشرت أن الاحتلال الأميركي وأذنابه حين دخلوا إلى دائرة المخابرات العراقية أخرجوا منها حمولة (25) صندوقاً من الوثائق والكتب أرسلت جميعاً إلى واشنطن لدراستها والاستفادة منها، وربما إخفاء بعضها حسب المصلحة الصهيونية.
صحيفة الدستور الأردنية الصادرة يوم 17/8/2004 في مقالة للدكتور خالد الناشف تحت عنوان "المخطوطات اليهودية والاخترق الصهيوني" أوردت الآتي "أثناء مداهمة مبنى المخابرات العراقية في بداية مايو/أيار سنة 2003 عثر على كتب ووثائق قيل إنها تخص الطائفة اليهودية العراقية نقلت إلى واشنطن لترميمها، وتنظيم معارض لاحقة لها".
وجاء في المقال أيضاً "إن جيف كاي مدير الموارد المالية التابع للوكالة اليهودية كان يتحرك في بغداد بحرية بدعوى تفقد أوضاع الجالية اليهودية بالعراق" كما يذكر أن كاي قد كلف من شارون "بمهام أخرى منها جلب هذه المحفوظات اليهودية إلى الكيان الصهيوني".
الوثائق بين تأخير النشر والتدمير
لا يتوقف الكيان الصهيوني في حربه على التاريخ وحقائقه عند ما سلف من أساليب، فجعبته حافلة بأساليب أخرى تتمثل في الاستيلاء على اللقى الأثرية، أو استخدام سطوة الحركة الصهيونية من أجل تأخير نشرها وما تحمله من حقائق، كما هو حال مخطوطات البحر الميت المعروفة باسم مخطوطات قمران، حيث أخرت الحركة الصهيونية نشرها قرابة الخمسين عاماً وذلك لإيهام الرأي العام بأن المخطوطات تحتوي على ألغام دينية.
بالمقابل حاول اليهود جاهدين التركيز على أن هذه المخطوطات جاءت لتؤكد أصالتهم في المنطقة. وهذا بالطبع زيف.
فالحقيقة المكتشفة من الدراسة المتعمقة لهذه المخطوطات تبين أن اليهودية نفسها قامت على إضافات وتأليفات مستمرة عبر قرون كثيرة، في محاولة لبناء دين يكون أساساً لبناء قومية لم يكن لها مقومات الوجود والاستمرار أصلاً.
لكن الصهاينة كما سبق وأسلفنا ليس ممن يسلم بالحقائق العلمية، لذلك نحوا منحى آخر في المواجهة مع مخطوطات قمران وهو تدمير أسورة قمران.
وفي التفاصيل: علماء آثار صهاينة يزعمون أن الموقع الذي حظي باسم الدير الأقدم في العالم الغربي لم يكن سوى قرية عادية، ويستدلون على ذلك بنتائج الحفريات التي قاموا بها في السنوات الأخيرة، في خربة قمران الواقعة شمال غرب البحر الميت والمعروفة في العالم كله كمكان وموطئ مؤلفي أسفار البحر الميت وهم من أبناء طائفة الأسانيين.
وفي هذا الصدد تقول صحيفة هآرتس في تقرير مطول لها "إن المعطيات تثبت -في زعمهم- أن سكان قمران عاشوا حياة مريحة بعيدة عن حياة الرهبنة، ولم يعملوا قط في كتابة الأسفار".
ابتكار أساطير جديدة
ومن أساليب حرب الصهيونية ضد التاريخ وحقائقه أيضاَ، ابتكار وصياغة أساطير جديدة تخدم الأهداف الصهيونية، هي نتاج بنات أفكارهم، والمثل بين أيدينا هو أسطورة "المسادا" حيث الرواية الأسطورية للمسادا تختلف تمام الاختلاف عن الرواية الحقيقية الوحيدة التي تملكها أي رواية يوسيفوس فلافيوس.
فقد جرى خلق هذه الأسطورة بواسطة عمليات حذف دؤوبة لحقائق أساسية، وإضافة وتزييف حقائق لم تكن قائمة في رواية يوسيفوس.
المستشرق اليهودي برنارد لويس كان أحد أوائل الباحثين الذين اتخذوا موقفاً صارماً من رواية المسادا (1975) حيث أكد أن الرواية الحديثة للمسادا تشكل إحدى الحالات فيما يدعوه "التاريخ المختلق".
المؤرخ الفرنسي بيير فيدال – ناكيه – شاطر لويس رأيه، في المسادا بالقول "إن الرواية الأسطورية للمسادا كما يعرفها الإسرائيليون وغيرهم ليست سوى مجرد أسطورة وتلفيق".
الباحث الصهيوني نحمان يهودا يتساءل في سياق دراسته عن الطريقة التي تمت بها أسطرة المسادا "كيف تظهر أسطورة معينة في الواقع. لماذا تخلق؟ من قام بذلك؟ ماهي الظروف التي تنشأ فيها؟ كيف يجري بثها بين الناس؟ كيف يجري تعطيل الشك الطبيعي لدى الناس في قصص خيالية؟ وكيف يتم الحفاظ على ديمومتها؟".
من المعروف أن أسطورة المسادا تتحدث عن أن جماعة من المقاتلين اليهود الفارين من القدس بعد تدميرها على يد الجيش الروماني عام (70)م إلى المسادا خاضوا معركتهم الأخيرة ضد الجيش الروماني، وعندما أوشك هذا الأخير على احتلال قلعة المسادا اختار المقاتلون اليهود الانتحار الجماعي بدلاً من الاستسلام أمام الرومان والتحول إلى عبيد، أو الموت ميتة فظيعة.
وقد أصبحت هذه الأسطورة لدى الصهاينة رمزاً بطولياً لـ "الوقفة الأخيرة" كما قال ذات يوم موشي دايان.
وقد لعبت هذه الأسطورة لدى الصهاينة دوراً حاسماً في بلورة الهوية الفردية والجمعية الجديدة لأجيال من اليهود والإسرائيليين بين مطلع الأربعينيات وأواخر الستينيات.
لكن المكتشفات الأثرية لم تعثر في مكان المسادا سوى على ثلاث جثث لطفل ورجل وإمرأة مما يبرهن أن لا وجود لها كأسطورة وكحادثة تاريخية.
لا مبالاة نهج التسوية
اللامبالاة وعدم الاكتراث من قبل نهج التسوية في الساحة الفلسطينية تجاه علم الآثار ودوره في الصراع مع الكيان الصهيوني، شكل أكبر خدمة للمشروع الصهيوني.
ولا نبالغ إذا قلنا إنه ارتقى إلى مستوى الجريمة والفضيحة المدوية بكل المقاييس، الأمر الذي أدخل الآثار الفلسطينية في مرحلة التفريط، وذلك من خلال تضمين اتفاق أسلو بنداً خاصاً يسمح لدائرة الآثار الصهيونية بمواصلة التنقيب. وهكذا تتوحد لتحقيق هذا الهدف مع الأنشطة العسكرية والسياسية والآثارية الصهيونية.
وقد اتضحت تجليات هذا الاتفاق حين شرع في وضع حجر الأساس لفندق كبير وكازينو فوق موقع أثري مهم جداً على ساحل غزة، ولدى محاولة البعض لفت نظر الراحل ياسر عرفات إلى أهمية هذا المكان الأثرية صاح قائلاً" الحي أبقى من الميت"؟!
وقد جرى هذا في وقت تنبه في الفكر إلى أهمية علم الآثار في المعركة المحتدمة مع الصهيونية، وفي وقت يسترشد فيه الصهاينة بآراء حاخاماتهم في هذا الأمر ويتعاطون معه كمسألة إيمانية ووجودية.
يقول الباحث في الآثار الفلسطينية ورئيس مركز التراث الفلسطيني فيصل الخيري "إنه وبالتحديد منذ القرن الثاني الميلادي الذي شهد وضع التوراة على أيدي كتبة كهنة، نجد أنهم تنبهوا إلى أهمية التراث في تقرير مصير الأمم، وأدركوا منذ اللحظة الأولى أنه لن يتسنى لهم تأسيس كيان في فلسطين إلا إذا أبادوا تراث أصحاب الأرض الأصليين".
وها هم يحرضون اليهود على لسان إلههم يهوة في سفر التثنية "تهدمون مذابحهم وتكسرون أنصابهم، وتقطعون سواريهم وتحرقون تماثيلهم بالنار لأنك أنت شعب مقدس للرب إلهك، إياك قد اختار الرب إلهك لتكون له شعباً أخص من جميع الشعوب التي على وجه الأرض".
يعلق فيصل الخيري على ذلك بالقول "هذه الأساطير هي التي شكلت نفسية اليهود على مر الأجيال وحددت موقفهم من تراث الشعوب التي يغتصبون أراضيها".