شهدت الدولة العثمانية في القرن التاسع عشر الميلادي مشروعات إصلاحية متعددة عرفت باسم التنظيمات الخيرية، نتيجة جهود بعض رجال الدولة المصلحين من أمثال مصطفى رشيد باشا، ومحمد فؤاد باشا كشيسي زاده، ومحمد أمين عالي باشا، ومدحت باشا، وكلهم شغلوا منصب الصدر الأعظم. وقبل أن يصدر الدستور العثماني كانت تصدر مراسيم سلطانية تتناول إصلاح بعض الأمور في الدولة، وتشتمل على مبادئ عامة في الحكم والإدارة.
وسبق ميلاد الدستور العثماني تولي السلطان عبد الحميد الثاني حكم الدولة العثمانية، خلفًا لأخيه السلطان مراد الخامس الذي كان يعاني مرضًا شديدًا، بعد أن أصدر مجلس الوزراء بقيادة الصدر الأعظم قرارًا بعزله بناءً على فتوى شرعية، وذلك في (10 من شعبان 1293هـ= 31 من أغسطس 1876م).
لجنة وضع الدستور
وبعد تولي السلطان عبد الحميد الحكم أمر بتشكيل لجنة لوضع مشروع الدستور تحت رئاسة مدحت باشا بصفته رئيسًا لمجلس الدولة، وكان أعضاء اللجنة يتألفون من 28 عضوًا من كبار موظفي الدولة وعلماء الدين والعسكريين وبعض الشخصيات العامة.
وبعد جلسات عديدة ومطولة ومناقشات حامية، انتهت اللجنة إلى وضع هيكل للنظام البرلماني يقوم على مجلسين، هما: مجلس للشيوخ يطلق عليه "مجلس الأعيان"، ومجلس للنواب يطلق عليه "مجلس المبعوثان". وبانتهاء اللجنة من مهمتها عين رئيسها مدحت باشا صدرًا أعظم للمرة الثانية في (3 من ذي الحجة 1293 هـ= 19 من ديسمبر 1876م)، وبعد أربعة أيام من توليه المنصب الكبير أعلن الدستور وسط قصف المدافع في اليوم الأول لافتتاح مؤتمر إستانبول الدولي.
وكان هذا المؤتمر قد قررت عقده الدول الأوروبية الكبرى؛ للنظر في وضع شروط الصلح بين الدولة العثمانية والصرب، وفي أوضاع سكان الولايات المسيحية الخاضعة للدولة العثمانية في أوروبا، بحيث يكون إدخال الإصلاحات المنشودة تحت إشراف الدول الأوروبية الكبرى، وكان انعقاد مثل هذا المؤتمر سببًا في التعجيل بإصدار الدستور؛ وهو ما استغله مدحت باشا للضغط على السلطان العثماني لتبرير سرعة إصدار الدستور، استنادًا إلى أن صدوره سيجعل الدول الأوروبية الكبرى تكف عن تدخلها في الشئون الداخلية للدولة، تحت ستار المطالبة بإدخال الإصلاحات في ولاياتها المسيحية في أوروبا.
أقسام الدستور ومواده
ويطلق على هذا الدستور اسم المشروطية الأولى، وهو المصطلح التاريخي كما يطلق عليه القانون الأساسي، وهو مقسم إلى 12 قسمًا ويضم 119 مادة، وقد تأثر واضعوه بالدستور البلجيكي والروسي.
وحدد القسم الأول من الدستور الدولة العثمانية، وعاصمتها وقرر أن دينها الرسمي هو الإسلام، وتناول وضع السلطان وامتيازاته وطرق توارث الحكم، وحدد الدستور حقوق السلطان وواجباته بمراقبة تنفيذ أحكام الشريعة الإسلامية، وسك العملة باسمه، والدعاء له في الخطب، وتعيين الوزراء وعزلهم، وإعلان الحرب وعقد الصلح وإبرام المعاهدات، والقيادة العليا للقوات المسلحة. ونصَّ الدستور على ضرورة تصديق السلطان على الأحكام القضائية الصادرة بالإعدام، وخوّله أن يسن قانونًا أو يصدر مرسومًا دون موافقة البرلمان.
ونصَّ القسم الثاني من الدستور على الحقوق العامة لرعايا الدولة؛ فهو يؤكد على مساواتهم أمام القانون دون نظر إلى ديانتهم، ولهم كل الحقوق وعليهم جميع الواجبات، وقرر أن الحرية الشخصية مصونة ولا تُنتهك، وكفل حرية العبادة لغير المسلمين شريطة ألا يرتكب أحد في إقامة شعائره الدينية ما يخل بالنظام العام أو يتعارض مع الأخلاق الطيبة. ونص على أن التعيين في المناصب الحكومية ميسور للجميع بشرط توفر الكفاءة والمقدرة وإجادة اللغة التركية، وشدد على تجريم انتهاك حرمة المساكن، فلا يُسمح لرجال الحكومة باقتحامها إلا في الأحوال التي يحددها القانون، وقرر عدم السماح بجمع أموال في صورة ضرائب أو تحت أي تسمية إلا طبقًا للقانون.
الفصل بين السلطات
وتناول الدستور السلطات الثلاثة؛ فالصدر الأعظم يتولى السلطة التنفيذية، وهو رئيس مجلس الوزراء ويرأس اجتماعاته، وتقرر أن يكون شيخ الإسلام عضوًا في المجلس. أما السلطة التشريعية فينهض بها البرلمان الذي يتكون من مجلسين، أحدهما مجلس الأعيان أو مجلس الشيوخ، ويعينهم السلطان، ويكون تعيينهم مدى الحياة، ويجب ألا تقل سن العضو عن 40 عامًا، ويكون قد أدى من قبلُ خدمات جليلة للدولة، وألا يتجاوز عدد أعضائه ثُلث عدد أعضاء مجلس المبعوثان.
أما مجلس المبعوثان فيتم اختيار أعضائه عن طريق إجراء انتخابات عامة في أنحاء الدولة، يمثل كل نائب 50 ألف فرد من رعايا الدولة الذكور، ومدة العضوية 4 سنوات. وكفل الدستور الحصانة البرلمانية لأعضاء مجلس المبعوثان، فلا يجوز القبض عليهم أو محاكمتهم، إلا إذا قرر المجلس بأغلبية الأصوات رفع الحصانة عن العضو.
وأما السلطة القضائية فتمارس من خلال المحاكم الشرعية المختصة نظر قضايا الأحوال الشخصية بالنسبة لرعايا الدولة المسلمين، أما غير المسلمين فتنظر قضاياهم محاكم ملِّية خاصة بالمتنازعين.
وإلى جانب المحاكم الشرعية توجد المحاكم المدنية التي تختص بالقوانين الوضعية، وكفل الدستور صيانة القضاء من أي نوع من أنواع التدخل في شئونه، واحتفظ الدستور باختصاصات مجلس الدولة التي كان يمارسها قبل باعتباره محكمة استئناف عليها تنظر في الطعون المقدمة ضد القرارات الإدارية.
إيقاف الحياة النيابية
وقد أمر السلطان عبد الحميد بوضع الدستور موضع التنفيذ، فأجريت انتخابات عامة لأول مرة في التاريخ العثماني، وأسفرت عن تمثيل المسلمين في مجلس المبعوثان بـ71 مقعدًا، والمسيحيين بـ44 مقعدًا، و4 مقاعد لليهود. وتألف مجلس الأعيان والشيوخ من 26 عضوًا، واجتمع البرلمان رسميًا في (4 من ربيع الأول 1294هـ= 19 من مارس 1877م) في حفل كبير أقيم في قاعة الاحتفالات في قصر ضولمة باشي.
وبدأ المجلسان عملهما في جد ونشاط، وناقش مجلس المبعوثان بعض المشروعات، مثل: قانون الصحافة، وقانون الانتخابات، وقانون عدم مركزية الحكم، وإقرار الموازنة العامة للحكومة.
ولم تطل الحياة النيابية كثيرًا، حيث لم تزد عن 11 شهرًا من تاريخ انعقاده، أصدر بعدها السلطان عبد الحميد قرارا بتعطيل مجلس الأعيان والمبعوثان في (13 من صفر 1295هـ= 14 من فبراير 1878م)، واستمر هذا التعطيل زهاء 30 عامًا لم تُفتح خلالها قاعة البرلمان مرة واحدة.
وظل العمل بالدستور معطلا حتى أصدر السلطان عبد الحميد الثاني في (23 من جمادى الآخر 1326هـ= 23 من يوليو 1908م) قرارًا بإعادة العمل بالدستور.
وقد تعددت اجتهادات المؤرخين في الأسباب التي جعلت السلطان يتخذ هذا الإجراء المتشدد بشأن الحياة النيابية الوليدة، فبعض المؤرخين اتهم السلطان بالاستبداد والنزوع إلى الحكم الفردي المطلق، وذلك ضمن الحملة الظالمة والضارية التي تعرض لها هذا السلطان المنكوب.
في حين أيد فريق من المؤرخين ما اتخذه السلطان بشأن حل البرلمان وإيقاف الحياة النيابية؛ فالدولة كانت تتعرض لأطماع الدول الأجنبية، وروسيا تتطلع إلى احتلال إستانبول وتتحرق شوقًا لإعادة الصليب على مسجد محمد الفاتح بعد أن أصبح جيشها على مشارف العاصمة التليدة، والبرلمان يتأخر كثيرًا في إعداد المشروعات، ولم يكن أعضاء البرلمان على قلب رجل واحد.. كل ذلك أقنع السلطان عبد الحميد بأن الدولة العثمانية في الظروف التي تمر بها ليست في حاجة إلى النظام النيابي.