من الأمور المقررة عند العلماء أن المفتي يجب عليه أمران فقه الواقعة وفقه الواجب في تلك الواقعة ، لأن الفتوى لاتحتاج فقط إلى معرفة المسائل الفقهية الإجماعية والخلافية، بل تحتاج إلى تصور صحيح للمسألة المطروحة ليوقَع عليها الجواب المناسب والحكم الصحيح، هذا أمر مطلوب ومهم في جميع مسائل الشرع عموما، وتزداد أهميته في قضايا الأسرة: الزواج والطلاق خصوصا
وإن العلماء لا يزالون يعظمون قضايا الفروج كما يعظمون قضايا الدماء، ولا يزال كثير منهم يتورع عن الإجابة ويحيلون الناس إلى القضاء إذا كان يحكم بشريعة الله تعالى .
وفي البلاد التي ابتعد فيها الناس عن شريعة الله وعن تحكيمها تتعقد كثيرا مشاكلهم الأسرية لأن الناس لا يسألون وإذا سألوا قد لا يَصدُقون، وإذا اختلفوا لم يكن ثمة من يحكم بينهم، وتزداد قضاياهم تعقيدا في بعض الأحيان بسبب الاستفتاء المبهم غير المفصل ، وإن مسؤولية توضيح القضايا المطروحة والمشاكل المستفتى فيها تقع أولا على السائل المستفتي الذي لابد ألا يخفي شيئا وألا يهمل شيئا له صلة بالمسألة ، ثم على المفتي -أو الناقل لها – بحيث يجب عليه أن يتأنى في الإجابة فلا يجيب حتى يستمع إلى السائل جيدا ثم إن رآه أهمل شيئا قد يكون له تأثير في الحكم استفصله عنه .
وهذه بعض التوجيهات للتقليل من التعقيدات :
أولا: ينبغي على كل مسلم أن يتفقه في أحكام الأسرة، وإن ذلك مما يقيه كثيرا من المشاكل ، ولا يَقُل الواحد منا ما لي وفقه الطلاق وأنا ليس لي مشكل مع زوجتي أو لست متزوجا ، فإن هذا من الجهل المركب، فإذا كان مثل هذا القول حجة هنا فليكن حجة في ترك علوم الشرع جملة وتفصيلا ، ومن الوقائع الحادثة أن رجلا طلق زوجته حسب ما زعم ثلاث مرات وبقي معها حتى حضر درسا اتفاقا فعقل من كلام المدرس أن من طلق زوجته ثلاث مرات لم تحل له حتى تنكح زوجا غيره!!! (تأمل كيف غاب عنه مثل هذا) فجاء يسأل : طلقت زوجتي ثلاث مرات متفرقات؟ ولكنه بعد الاستفصال معه تبين أنه طلقها مرتين قبل الدخول ولم يُعد العقد مرة أخرى إلا العقد البلدي الذي كان قبل الدخول وبعد الطلقتين!! فاتضح أنه ما زالت له طلقة واحدة لأن الطلقة الأولى قبل الدخول تَبينها بينونة صغرى ولا تكون فيها رجعة، فالطلقة الثانية لاغية لأنه طلق أجنبية عنه
ثانيا : إذا وقعت مشكلة بين الزوجين سواء كان فيها خصومة أو طلاق فالواجب على المسلم المحتاط لدينه أن يسأل ولا يسأل إلا إماما موثوقا في دينه وعلمه وأمانته، وإن مما يزيد القضايا تعقيدا الفتاوى المضللة من غير كفء، ومما ينبغي أن يعلم أنه ليس كل من أمَّ الناس في الصلاة أهلا للفتوى ولا لنقل الفتاوى.
ثالثا : أن تطرح القضية المسؤول عنها على أنها مشكلة تحتاج إلى جلسة قد تطول، ولا تعرض على أنها استشارة يُجاب عنها من قيام، كما حدثني أحد الإخوة أن شخصا اقترب من إمام يريد أن يعرض عليه مشكلة مع زوجته، فاستمع إليه وهو يمشي وأجابه بجواب مختصر عجيب : طلقها !! فذهب السائل إلى غيره فنصحه ووجهه وأصلح بينه وبين زوجه والحمد لله رب العالمين.
رابعا : أن يعرض الإنسان قضيته بنفسه ويجتنب الوسائط الذين قد يقصرون في بعض التفاصيل، وقد يجهلون بعضها مما تتعلق الإجابة به ، ومن ذلك أنه سأل سائل وقال هناك شخص طلقت زوجته ثلاث مرات فما العمل ؟ فقال له الإمام: الجواب معروف لكن أريد حضور المعني بالأمر فلما جاء واستفصل معه ذكر أنه طلقها أول مرة، ولما لم يكن لها مكان تذهب إليه بعد انقضاء عدتها وكان محتاجا إليها لأن لديه خمسة أولاد صغار تركها تعيش معه في بيته تخدمه وأولاده إلا أنه اعتزلها ، ثم وقع بينهما شجار بسبب الأولاد فتلفظ بالطلاق مرتين متفرقتين، فاتضح أنه لم يطلق زوجته إلا مرة واحدة، لأنه إنما طلق في المرة الثانية والثالثة أجنبية عنه.
خامسا : أن لا يترك السائل تفصيلا من التفاصيل التي قد تؤثّر في الحكم ، كاللفظ المستعمل ونية المتكلم بالطلاق وحاله وزمن الطلاق، ونحو ذلك مما يُقَدر أنه يؤثر في أحكام الطلاق ، ومن الوقائع التي تبين أهمية ذكر التفاصيل أن رجلا طلق امرأته ثلاث مرات فاستفتى وبدأ فيمن يعتقد فيه أنه الأعلم فأفتاه بأنها لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره، فسأل آخر باحثا عن رخصة أو مَخرج فلما استفصل معه قال له : لا تحل لك حتى تنكح زوجا غيرك، لكنك لو شرحت الأمر للشيخ فلان (الذي استفتاه أولا ) لقال لك إنما لك طلقتان ، لأنه يقول بعدم وقوع الطلاق في الحيض !!
وسأل آخر السؤال نفسه ، وبعد الاستفسار عُلِم أنه في إحدى المرات أقسم بالطلاق وكان قد نوى التهديد ومنع زوجته من عمل ما، فقيل له إنما كان عليك في تلك المرة كفارة يمين.
هذا ما أردنا بيانه باختصار ونسأل الله تعالى أن ينفعنا بهذه النصيحة وجميع إخواننا وأن يوفقنا للعلم النافع والعمل الصالح وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .