الكاتب محمد حاج عيسى الجزائري
الحمد لله وكفى، والصّلاة والسّلام على النبيّ المصطفى، أمّا بعد:
فهذا العنوان ليس إشهارا ودعاية لهذه الطائفة، وليس تهويلا إعلاميا، ولكنه عنوان أسف وحسرة كبيرة على الوضع الذي آلت إليه البلاد، فبعد فتن الشهوات التي دمرت الأخلاق وكسرت "الطابوهات" من تقاليد ومحرمات، تأتي فتن الشبهات التي تقوض العقائد وتزرع الفرقة وتنشر الردة عن دين الإسلام، وإن الإنسان ليعجب من حال أهل هذه البلاد في هذا الزمان، ما من شيء وافد عليهم إلا تقبلوه، وما من فكر دخيل إلا احتضنوه، فمن الشيوعية بفرقها والعلمانية بأجنحتها إلى النصرانية بطوائفها، ومن الصوفية الغالية بطرقها إلى التشيع والرفض بصنوفه، ومن فكر الخوارج إلى ظاهرة الإرجاء، ومن البهائية إلى القاديانية، وغيرها مما دق أو جل من الأفكار والعقائد والمناهج والملل والنحل.
لكننا لا نقف عند حد الأسف والحسرة دون محاولة التحليل لهذه الظاهرة التي نستطيع أن نسميها القابلية لكل شيء جديد وافد على الأمة، أو قابلية الغزو الفكري والعقدي، وإذا قلت بأنها ظاهرة فإني لا أحتاج إلى إثباتها أكثر من التمهيد الذي ذكرت، ولعل مما يستغرب فيه ادعاء وجود البهائية في الجزائر ولا غرابة في ذلك، فهو واقع سجله التاريخ القريب، ومن أراد حصول اليقين فليقرأ كتاب الدلائل البادية على كفر البابية وضلال البهائية للشيخ أحمد حماني رحمه الله.
وأما فيما يخص القاديانية فقد دق ناقوس خطرها بعض إخواننا قبل ثلاث سنوات بعد استفحال نشاط قناتهم الناطقة بالعربية، وقد قلت يومها إن هذا الميت لا يحتاج كل هذا العزاء، لأني كنت أقدِّر أن الديانة القاديانية وليدة ظرف معين وهو عهد الاستعمار البريطاني، وأنها لم تنتشر إلا في أوساط الأعاجم في آسيا وأوروبا لعدم فقههم للقرآن وللغة العربية، ولأنها ديانة ملطخة بسمعة دعيِّها المهلوس والعميل لبريطانيا وخلفائه الذين ساروا على دربه، ولأن الاعتقاد في النبوة بعد إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم أعسر بكثير من الانتقال إلى النصرانية، لأجل هذا وغيره لم أكن أتوقع أن تجد هذه النحلة القبول في بلادنا.
ثم بعد مرور الزمن بدأ يطرق سمعي أخبار من هنا وهناك عن وجود من تأثر بشهبات هذه الطائفة، وبقدوم بعض الأوروبيين للدعاية لهذه النحلة في الجزائر، ثم بوجود من انخرطوا في هذه النحلة وصاروا من الدعاة النشطين إليها.
ثم دعيت إلى مقابلة بعضهم، وكنت قبل مقابلتهم أظنهم تأثروا بشبهات يريدون إزالتها، فلما لقيتهم علمت أنهم يريدون المناظرة، ويريدون التشهير لنحلتهم اللقيطة المنبوذة، وجدتهم قد تعصبوا إلى هذه الديانة رغم حداثة التحاقهم بها – أقدمهم يزعم أنه اعتنقها منذ ثلاث سنوات - يتعصبون فلا يرضون أن يوصف نبيهم بما فيه انتقاص ويتكلفون الإجابة عما يرد عليهم من أسئلة وإن لم يكن لهم بها سابق علم، فرضت عليهم الحديث في أدلة نبوة غلام أحمد لأنها قضية توصلنا إلى النتيجة في أسرع وقت، فلما شعروا بالحرج قالوا لم نستعد لهذا إنما قصدنا بيان أدلة استمرار النبوة والرد على حديث لا نبي بعدي !! والشاهد من هذا أنهم في مدة وجيزة اعتقدوا عقيدة دخيلة وأصبحوا من المتعصبين لها والدعاة إليها.
بعد هذا أعود لأطرح السؤال لماذا يتقبل أولاد هذا الشعب كل فكر وافد عليه ؟ لماذا يتقبل كل زبالات أفكار الشرق والغرب ؟
إن لذلك أسبابا كثيرة متعاونة ومتظافرة ، لكنها ترجع إلى معنى واحد هو أساسها وخلاصتها:
إنه الجهل بعقيدة الإسلام وتعاليم الإسلام، واكتفاء أكثر الناس بما يسمى إسلاما وراثيا تقليديا ، وهو إسلام لا يقي صاحبه لا من النصرانية ولا من العلمانية ولا من غيرها من الشرور والشبهات، إنه إسلام اختُزِل في كلمة تقال لا يدرى ما معناها ولا ما هي مقتضايتها وشروطها ونواقضها ؟.
وقد لمست هذا الجهل في هؤلاء الفتية المساكين، فذكرت مرة لأحدهم قول النبي صلى الله عليه وسلم: (( أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللهِ ))، فلم يعرفه، وصرح لي أنه لم يسمع ولم يقرأ هذا الحديث قبل هذا المجلس، وكتبت على السبورة وأنا أقرأ قول المولى عز وجل:{ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمْ اِقْتَدِهْ }، فقال أحدهم: ما هذا ؟ فأجابه صاحبه: "هذا قرآن !"، وتلوت عليهم قول المولى عز وجل:{ قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } [التوبة/29] فطلب أحدهم النظر إليها في المصحف لعله يتأكد من كونها قرآنا أو من أني لم أزد فيها شيئا. وسألتهم أن يجيبوني بصراحة متى تعلموا قول النبي صلى الله عليه وسلم: (( لاَ نَبِيَّ بَعْدِي )) ؟ أفي مدة إسلامهم أم بعد أن اعتنقوا القاديانية ؟ فكان جوابهم صريحا:" إنهم لم يسمعوا بهذا الحديث إلا بعد اعتناق القاديانية".
وبعد هذا حق لنا أن نتساءل:
هل كان هؤلاء الشباب قبل اعتناق القاديانية مسلمين أم كانوا تائهين ؟!
إن هؤلاء وغيرهم ممن يرتد عن دين الإسلام في هذه البلاد هم ضحايا الجهل بالدين الذي تغرق فيه الأمة وضحايا سياسة التجهيل الممنهج الذي يمارس ضد أمتنا.
إن مسؤولية انتشار هذه الأوبئة الفكرية والعقائدية تتحملها المدرسة الجزائرية والقائمون عليها، تتحملها المنظومة التربوية التي أفرغت من محتواها الديني في الماضي القريب فأنتجت لنا ما نراه اليوم وما نسمعه، وما يزال المتصرفون باسم الأمة والأوصياء عليها يزيدون مادة التربية الإسلامية تحريفا وتقزيما، لصناعة مجتمع لا هوية له ولا حصانة، وكأنهم يخططون لأن يصبح في الجزائر طوائف دينية متعددة تنبثق عنها مشاريع مجتمعات متضادة وأحزاب تمثلها وتنتصر لمشاريعها، وبهذا سيضمنون للجزائر الاستقرار السياسي والاجتماعي ويحققون لها وحدتها وأمنها ويحقنون دماء أبنائها!!
ويتحملها أيضا المسجد، تلك المؤسسة التي تتحمل -رغما عنها- مسؤولية التعليم الديني وتصحيح العقائد وتحفيظ القرآن الكريم وتوجيه الآباء والمربين، ومواجهة كل منكر يقع فيه الأفراد ويتهدد المجتمع، لكنها أصبحت اليوم تهتم بكل شيء بالمواعيد السياسة والمالية وبالأحداث العالمية والتاريخية إلا بواجبها الأصلي والأساسي وهو تعليم العقيدة والقرآن والنصيحة وتغير المنكر.
وتتحملها وسائل الإعلام بجميع أنواعها، هذه الوسائل التي كان يفترض أن تكون حامية لعناصر الهوية الجزائرية الإسلامية العربية، ولأخلاقها وقيمها وجميل عاداتها، لكنها راحت تدمر عناصر الهوية وتهدم الأخلاق وتنشر قبيح العادات، هذه وجهتها الغالبة والظاهرة ومن رام الصلاح من أهل الصلاح في هذه المؤسسات كتم صوته وحبس نفسه وعرقلت خطواته.
ويتحملها أيضا هؤلاء الذين يُسمون دعاة، هؤلاء الذين صفتهم المشتركة الغياب التام عن الساحة الدعوية، والانفصال عن المجتمع أو العيش على هامش الأحداث، وإني أشعر بالكذب عندما أسميهم دعاة، اللهم إلا إذا قصدت أنهم دعاة إلى أنفسهم وإلى طوائفهم، ولست أعني الفقهاء والوعاظ والمعلمين المرابطين على الثغور العلمية، والمجاهدين بأموالهم وأوقاتهم في سبيل الحفاظ على كيان الأمة، فهؤلاء هم بحق ورثة الأنبياء، ولكنهم أقل من القليل في هذه البلاد المترامية الأطراف، ونسأل الله تعالى أن يثبتهم ويجزيهم أحسن الجزاء، ويصبرهم على ما يواجهون من آفات، وما يلقون من وخز وتثبيط وانتقادات.
إننا فعلا نحتاج إلى حماية أولادنا من الأفكار المنحرفة، وإن أولادنا ليسوا في مأمن من العقائد الزائغة، إننا نريد أمنا عقائديا وفكريا تنعم فيه الأجيال القادمة، لكن من هم الرجال الذين يقومون بهذا الواجب، ويحسون بعظم هذه المسؤولية، ويدركون ويؤمنون أن الحصانة والحماية والأمان ليست إلا في تعليم التوحيد والعقيدة الإسلامية المستمدة من القرآن والسنة الصحيحة. وآخر دعوانا أن اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين.