الكاتب الشيخ مبارك الميلي
الاعتقادات والمذاهب الفقهية (في عهد الموحدين)
هذه المقالة فقرة من فقرات كتاب تاريخ الجزائر في القديم والحديث للشيخ مبارك الميلي رحمه الله تعالى، تعرض فيه بإيجاز لتاريخ العقيدة الإسلامية في المغرب إلى عهد الموحدين؛ الذين فرضوا العقيدة الأشعرية على الأمة فرضا، كما حاولوا محو مذهب مالك في الفروع من هذه البلاد باسم اتباع الحديث.
قال رحمه الله :
كان مبنى اعتقاد المسلمين في الإله على الكتاب وصحيح السنة، يثبتون له من الصفات وينزهونه عما نزهاه عنه، ثم ظهرت بعدُ ترجمة كتب اليونان وغيرهم أيام العباسيين طريقتا النظر والرياضة لمعرفة الله، وطريقة الرياضة نفرد لها فصلا بعنوان التصوف، وطريقة النظر والاستدلال بالطبيعيات على الإلهيات مع التقيد بالدين هي المسماة كلاما وأهلها متكلمين.
أنكر أهل السنة طريقة الكلام، وسموا أهلها معتزلة حتى جاء أبو الحسن الأشعري، فقرأ على أبي علي الجبائي المعتزلي، ولازمه إلى الأربعين من عمره، ثم اعتزل الاعتزال ونصر السنة بطريقة الكلام نفسها، وألف كتبا كثيرة منها تفسيره المختزن في خمسمائة مجلد، وكانت منه نسخة واحدة بدار الخلافة، فبذل الصاحب بن عباد –وكان يميل إلى الاعتزال- لخازن المكتبة عشرة آلاف دينار ليحرقها، فاحترق ذلك التفسير فيما احترق من الكتب، وكانت وفاة الأشعري ببغداد سنة 324.
وانقسم أهل السنة إلى سلفيين يؤمنون بآيات وأحاديث الصفات كما جاءت ولا يعتمدون على علم الكلام، وإلى أشاعرة يعتمدون على الكلام ويؤولون بعض آيات وأحاديث الصفات.
وكان أهل المغرب سلفيين حتى رحل ابن تومرت إلى الشرق وعزم على إحداث انقلاب بالمغرب سياسي علمي ديني ، فأخذ بطريقة الأشعري ونصرها وسمى المرابطين السلفيين مجسمين ، تم انقلابه على يد عبد المؤمن فتم انتصار الأشاعرة بالمغرب، واحتجت السلفية بسقوط دولة صنهاجة، فلم ينصرها بعدهم إلا أفراد قليلون من أهل العلم في أزمنة مختلفة، ولشيخ قسنطينة في القرن الثاني عبد القادر الراشدي أبيات في الانتصار للسلفيين طالعها:
خبـرا عني المؤول أني كافر بالذي قضته العقول
ومنذ أعلن المعز بن باديس مذهب مالك أصبح هو مذهب أهل السنة بالمغرب، وزاده المرابطون تأييدا، فكان لا يُقطع أمر في مملكتهم إلا بمشورة الفقهاء المالكيين، فعظم شأنهم ونفقت كتب المذهب.
قال صاحب المعجب :"وكثر العمل بكتب المذهب ونبذ ما سواها حتى نسي النظر في كتاب الله وحديث رسوله صلى الله عليه وسلم، فلم يكن أحد من مشاهير ذلك الزمان يعتني بهما كل الاعتناء، ودان الناس بتكفير من يخوض في علم الكلام، وقرر الفقهاء عند علي بن يوسف بن تاشفين تقبيحه وكراهة السلف له، وأنه بدعة في الدين، وربما أدى إلى اختلال في العقائد، فكان يكتب عنه في كل وقت التشديد في نبذه وتوعد من وُجد عنده شيء من كتبه، وأمر بإحراق كتب أبي حامد الغزالي لما دخلت المغرب، وتقدم بالوعيد الشديد من سفك الدم واستئصال المال إلى من وَجد عنده شيء منها واشتد الأمر في ذلك".
ولم يكن يؤمئذ بالمغرب غير مذهب مالك، وربما كان من أهل الأندلس من أخذ بمذهب الشافعي أو أبي سليمان داود إمام أهل الظاهر –وولادته سنة 202 ووفاته سنة 270، وأيد مذهبه بالأندلس ابن حزم المتوفى سنة 465-.
وعكست دولة الموحدين كل ما كان في أيام المرابطين، ففي سنة 550 بنى عبد المؤمن المساجد وأصلحها وحرق كتب الفروع ورد الناس إلى قراءة الحديث، ثم جاء حفيده المنصور فجرد كتب الفقه من الآيات والأحاديث ثم حرقها، فأحرقت مدونة سحنون ونوادر ابن أبي زيد ومختصره وتهذيب البراذعي وواضحة ابن حبيب وغيرها، ومنع الاشتغال بعلم الرأي وأمر جماعة من المحدثين بجمع أحاديث من الموطأ والصحيحين والترمذي وأبي داود والنسائي والبزار وابن أبي شيبة والدارقطني والبيهقي فجمعوا منها أحاديث في الصلاة وما يتعلق بها فكان يملي هذا المجموع بنفسه على الناس ويأخذهم بحفظه، فانتشر في جميع المغرب وحفظه العامة والخاصة ، وجعل لمن حفظه جعلا من كسي وأموال.
قال صاحب المعجب:" وكان قصده في الجملة محو مذهب مالك وإزالته من المغرب مرة واحدة وحمل الناس على الظاهر من القرآن والحديث، وكان هذا مقصد أبيه وجده إلا أنهما لم يظهراه وأظهره هو"اهـ، وقال ابن الأثير:" واستقضى يعقوب المنصور آخر أيامه بعض الشافعية ومال إليهم"اهـ.
تاريخ الجزائر في القديم والحديث (2/710-713)
طبعة الشركة الجزائرية للنشر والتوزيع 1396-1976