جيلالي بلحاج المدعو "كوبيس" كان من القيادات المرموقة في المنظمة الخاصة الجناح شبه العسكري لحزب الشعب، ونظرا لكفاءته أوكلت له مهمة التدريب العسكري، وبعد انكشاف المنظمة الخاصة اتهمه أحمد بن بله بالوشاية ضده مما سمح للجيش الفرنسي باعتقاله، ومنذ ذلك الوقت ألصقت تهمة الخيانة بكوبيس الذي كون بعد الثورة جيشا حارب به مجاهدي جيش التحرير، لكن المرحوم عيسى كشيدة يكشف لأول مرة حقائق عن كوبيس لتصحيح بعض الأخطاء التاريخية حول هذه الشخصية المثيرة للجدل.
*
قضية جيلالي بلحاج المدعو كوبيس لا تقل إثارة عن قضية آعراب، فمن يكون كوبيس هذا؟ وكيف استطاع أن يرتقي إلى مسؤوليات كبيرة في المنظمة الخاصة؟
*
عبد القادر جيلالي بلحاج كان عضوا قياديا في المنظمة الخاصة مكلفا بالجانب العسكري، أي التكوين والتدريب شبه العسكري، بحكم أن لديه مستوى ثقافيا وعسكريا محترما، حيث كان ضابطا برتبة مرشح في الجيش الفرنسي، كما كان والده ملازما في الجيش الفرنسي، والتزامه في الحركة الوطنية أهله ليرتقي لهذه المناصب القيادية في المنظمة الخاصة (الجناح شبه العسكري لحزب الشعب الجزائري)، فإلى جانب مسؤوليته السياسية في الحزب، ساهم جيلالي بلحاج في تشكيل المنظمة الخاصة إلى جانب محمد بلوزداد وأحمد بن بلة وآيت أحمد ومحمد بوضياف، وأصبحت له مهمة عسكرية داخل المنظمة الخاصة، فلم يكن جيلالي بلحاج شخصا عاديا أو بسيطا، لقد كان شخصا مثقفا سياسيا وعسكريا، وإلى جانب كل ذلك كان رجلا ميسور الحال، حيث كان يملك مزرعة في زدين (ولاية عين الدفلى) وفي هذا المكان تم عقد مؤتمر الحزب عام 1947 وفيه اتخذ قرار تأسيس المنظمة الخاصة، وعائلته كلها كانت ملتزمة بالقضية الوطنية، بدليل أن أحد إخوة جيلالي مات شهيدا، لكن أصبحت الشكوك تحوم حوله بشأن تمكن المخابرات الفرنسية من الاستيلاء عليه.
*
*
لماذا شكت قيادة المنظمة الخاصة في إخلاص أحد كبار رجالها ومؤسسيها؟
*
بعد اكتشاف الشرطة الفرنسية للمنظمة الخاصة إثر حادثة تبسة في 1950 واعتقال قيادة المنظمة الخاصة وكان بلحاج من بين المعتقلين إلى جانب أحمد بن بلة (قائد المنظمة الخاصة)، أحمد محساس، رجيمي جيلالي، وآخر اسمه محمد ماروك، ومن جملة أعضاء قيادة المنظمة الخاصة لم ينج سوى محمد بوضياف..
*
*
(مقاطعا) ومصطفى بن بولعيد؟
*
بن بولعيد كان مسؤولا محليا، ولكن الأشخاص الذين ذكرتهم يمثلون القيادة الوطنية للمنظمة الخاصة التي كان بلحاج أحد أعضائها، وفي السجن -حسبما أخبرني به بعض الإخوة- حدث خلاف بين أحمد بن بلة وجيلالي بلحاج، وهذا أمر عادي لأن ضغط السجن صعب يجعل أمورا تافهة تفرق بين الأصدقاء والإخوة وتشكل بينهم عداوة، وعلى ما يبدو فإن أغلبية السجناء أخذوا موقفا مع بن بلة وعزلوا بلحاج عنهم، وقيل كلام كثير عن هذه الحادثة سمعته من بوضياف والعربي بن مهيدي حيث أكدوا جميعا أن جيلالي بلحاج وضع تحت "العزلة" فلا أحد يكلمه أو يتعامل معه، وهذا الأمر لفت انتباه مسؤولي السجن، وعلى ما يبدو فإن المخابرات الفرنسية أرادت استغلال هذا الأمر والاستحواذ على جيلالي بلحاج.
*
*
وكيف تمكنت المخابرات الفرنسية من توسيع الشرخ بين بلحاج وإخوانه؟
*
قامت بإطلاق سراحه من السجن قبل انتهاء مدة الحكم عليه، حيث تراوحت الأحكام القضائية ضد أفراد قيادة المنظمة الخاصة ما بين ثماني وعشر سنوات سجنا نافذا، غير أن بلحاج أطلق سراحه بعد ثلاث سنوات قضاها في السجن، وهنا دارت الشكوك حوله وانتشرت الشائعات بأن المخابرات استولت على جيلالي بلحاج.
*
*
بعد خروجه من السجن هل بقي بلحاج معزولا عن القادة الجدد الذين أصبحوا يعدون للثورة؟
*
أنا شاهد بحيث كنت قد تعرفت عليه بعد خروجه من السجن، وفي فترة التحضير للثورة بعد الانقسام داخل مكتب اللجنة الثورية للوحدة والعمل، كان بلحاج يسكن في حي "نهج لابونسي" القريب من حي "نهج ميلوز" (بالقرب من ساحة أودان) الذي يوجد به محل صديقي مراد بوقشورة المكلف بالدعم اللوجيستيكي، حيث كان يعتبر محله مكانا للاتصال والاجتماع وملجأ للقادة الذين كانوا يحضرون للثورة، وعندما كان بلحاج يخرج من بيته الذي يقابله على اليسار محل بوقشورة كان يلتقي هناك مع العربي بن مهيدي ومحمد بوضياف وديدوش مراد وكريم بلقاسم وحتى مصطفى بن بولعيد الذي كان يأتي من حين إلى آخر إلى العاصمة، وكان بلحاج يلتقي بالأخص مع بوضياف ويخرج معه، وكنت مرة في باب الوادي عندما قابل جيلالي بلحاج العربي بن مهيدي في ممر "ملاكوف"، وكانوا يطلبون منه مناشير حول حرب العصابات على اعتبار أنه كان المكلف بالتدريب شبه العسكري لأفراد المنظمة الخاصة على حرب العصابات، وخبرته هذه كانت مفيدة للقادة الذين كانوا يحضرون لتفجير الثورة.
*
*
كيف كان القادة المفجرون للثورة يثقون في شخص تحوم حوله الشائعات بشأن تعامله مع المخابرات الفرنسية؟
*
في نظري من المستحيل أن يكون جيلالي بلحاج في تلك الفترة عميلا للمخابرات الفرنسية، لأنه منذ جوان 1954 وإلى غاية نهاية أكتوبر 1954 كان يلتقي مع قادة الثورة، ومن المستحيل أن يكون شخص له علاقات مع المخابرات الفرنسية يقابل أعضاء قياديين كانوا في المنظمة الخاصة، لأن من مصلحة المخابرات الفرنسية إلقاء القبض على المسؤولين، ولو كانوا مسؤولين محليين أو جهويين ربما لا يتم إلقاء القبض عليهم بسرعة للوصول إلى المسؤولين القياديين، لكن أن يكونوا مسؤولين بحجم العربي بلمهيدي وديدوش مراد ومصطفى بن بولعيد الذي كان عضوا في اللجنة المركزية ومحمد بوضياف عضو قيادة المنظمة الخاصة، لهذا فلو كان جيلالي بلحاج عميلا للمخابرات الفرنسية لتم إلقاء القبض على القياديين في الثورة قبل اندلاعها، وما دام أنه لم يتم إلقاء القبض على أي منهم خلال فترة التحضير للثورة رغم أن بلحاج كان قريبا منهم، فهذا لا يدع مجالا للشك أن جيلالي بلحاج لم يكن حينها خائنا ولا عميلا للمخابرات الفرنسية رغم الشائعات التي تعمدت فرنسا إثارتها حوله حتى تعزله عن العمل المسلح ضدها ولما لا كسبه إلى صفها، ربما قد يكون قدم وعودا للمخابرات الفرنسية، فربما إخراجه من السجن كان بشروط، فالحالة النفسية التي كان فيها داخل السجن والعزلة التي عانى منها كانت صعبة واحتمال أن فرنسا اشترطت عليه شروطا لإطلاق سراحه أمر وارد، وهذه الأمور معروفة لدينا كمناضلين سبق وأن دخلنا السجون الفرنسية ونعرف ممارسات الشرطة الفرنسية.
*
*
وهل صحيح أن قادة الثورة كانوا ينوون تعيين جيلالي بلحاج قائدا للولاية السادسة (الصحراء) كما أكد بن بولعيد ذلك للطاهر زبيري في السجن؟
*
لم تردنا معلومات في هذا الشأن، ولكن كل ما أعرفه أن جيلالي بلحاج كان قريبا من القادة المفجرين للثورة خلال عملية التحضير لها.
*
*
هناك أمر غير واضح، جيلالي بلحاج المدعو كوبيس شارك بشكل أو بآخر في مرحلة التحضير للثورة بالتنسيق مع مفجيرها، وبعد اندلاعها كون جيشا لقتال جيش التحرير ولكن باسم الثورة، كيف تفسر هذا التناقض وأنت تؤكد بأنه لم يكن عميلا للمخابرات الفرنسية؟
*
جيلالي بلحاج كان يشعر بأن بوضياف خدعه، حيث كانت علاقته به وطيدة وكان يطلب منه معلومات ومناشير حول حرب العصابات وساعدهم في العديد من الأمور معتقدا أن بوضياف وبقية المجموعة يحضرون لتنظيم شبه عسكري على غرار المنظمة الخاصة التي تم تفكيكها في 1950 استعدادا لتفجير الثورة، وكان بلحاج يعتقد أن هذه الجماعة رغم الانقسام داخل حركة انتصار الحريات الديمقراطية بين المصاليين والمركزيين لا زالت لديهم رغبة للذهاب إلى الكفاح المسلح، ولكن بعد الإعلان عن تفجير الثورة في ليلة الفاتح نوفمبر 1954، وبمجرد سماع بلحاج للخبر من الإذاعة رغم أنه كان قريبا من بوضياف (المنسق العام للثورة)، جاء إلى مراد بوقشورة -الذي كان في المحل- وهو يغلي من شدة الغضب ويسب.. ويسب.. ويسب، ويقول "الجماعة كانوا دايريني خاين ودايرين فيَّ الشك..." (الجماعة كانت تعتبرني خائنا وكانوا يشكون بي)، وكال مختلف الشتائم لقادة الثورة، معتبرا أن ما حدث معه "خدعة لن أتقبلها".
*
*
ولهذا السبب قرر الانتقام من قادة الثورة؟
*
بعد هذه الحادثة ذهب كوبيس إلى مليانة والتف حوله المئات من مناضلي الحزب وأبناء منطقته التي كان يحظى فيها بسمعة طيبة، خاصة وأنه كان يتمتع بشخصية مؤثرة وفصاحة وخطابة نادرة وقدرة على الإقناع، كما اتصل بالمخابرات أو الجيش الفرنسي الذي زوده بالسلاح ودعمه مما مكن كوبيس من تشكيل جيش قوي.
*
*
ما هي الأضرار التي تسبب فيها كوبيس للثورة؟
*
كوبيس أضر كثيرا بجيش التحرير خاصة في الولاية الرابعة، وكان يتكلم باسم الثورة ويجند الناس باسم الثورة وينتقد القادة السياسيين للثورة، وكان يؤكد على أن الثورة فجرها العسكريون وليس السياسيون الذين وصفهم بالخونة، واعتبر نفسه من المناصرين للفرع العسكري، وزيادة في تغليط المناضلين كان يرفع العلم الجزائري، ويقود جيشا يعتبره جزءا من جيش التحرير.
*
*
قلت بأن المخابرات الفرنسية هي التي زودته بالسلاح، هل لديكم أدلة تثبت ذلك أم أنها مجرد تخمينات؟
*
بطبيعة الحال الجيش الفرنسي هو الذي زوده بالسلاح، فشخص مثل كوبيس بين عشية وضحاها يصبح له جيش مجهز بالسلاح والسيارات العسكرية وأجهزة الاتصال اللاسلكية فأكيد أن فرنسا هي التي تقف وراءه مثله مثل بلونيس، فجيش التحرير ورغم كل التحضيرات التي سبقت الثورة إلا أنه كان يعاني من شح في الأسلحة بينما كوبيس شكل جيشا منظما مدعما باللوجيستيك (المؤونة والمعلومات الاستخباراتية..) بالإضافة إلى الأسلحة، فهذه بدون شك تحصل عليها من الجيش الفرنسي، وبالتالي هناك صفقة وقعها كوبيس مع الجيش الفرنسي للانتقام من قادة الثورة الذين لم يشركوه في تفجيرها.
*
*
وكيف انضم إليه مناضلون في الحركة الوطنية يفترض أنهم متشبعون بقيم الحرية والاستقلال؟
*
وقع هناك تغليط لبعض المناضلين وأفراد الشعب الذين ليس لديهم تكوين سياسي ولا ثقافة تؤهلهم لاستيعاب الأمور على حقيقتها، وكانوا يعتقدون بأنه يمثل الثورة، خاصة وأنه من قيادات المنظمة الخاصة ومن عائلة معروفة في المنطقة وكان ذكيا ويجيد فن الكلام وله شخصية قوية وهيبة مؤثرة، وبالنسبة لي كان كوبيس يتمتع بمستوى فكري عالي.
*
جيش قوي، مسلح تسليحا جيدا، وله قائد ذكي، ومتركز في منطقة واحدة، وله قاعدة شعبية تحضنه، كيف استطاع جيش التحرير إلحاق الهزيمة بكوبيس وكشف تآمره على الثورة؟
أفراد من جيش التحرير تمكنوا من ربط اتصال مع عناصر من جيش كوبيس وأقنعوهم بأن كوبيس خائن للثورة وللجزائر وأنه مدعم من طرف الجيش الفرنسي، فقرر هؤلاء العناصر قتل كوبيس فنظموا له مكيدة وقتلوه وفصلوا رأسه عن جسده وغرسوا في جسمه علم الجزائر بدلا من رأسه، ومما أذكره عن هذه الحادثة أنه كان معنا في السجن في 1955 مناضل ملتزم يسمى أحمد عليلي المدعو سي البغدادي من بوفاريك وكنت ألقبه "بمارييس" لأنه كان حاضر النكتة، وقد ألقي عليه القبض بعد أن ضبط لديه كمية من المتفجرات فحكم عليه بستة أشهر حبسا نافذا، وأطلعناه على حقيقة كوبيس وتعاونه مع الجيش الفرنسي رغم ادعائه عكس ذلك وما فعله في حق الثورة فوعدنا هذا الأخير بأنه عندما يخرج من السجن سيعمل على القضاء على كوبيس ويأتي ليحررنا من السجن، وفعلا استطاع عليلي مع بعض السياسيين في المنطقة إقناع عناصر من جيش كوبيس بالتخلي عنه والقضاء عليه، وكما كان عليه الحال نجحت المكيدة التي دبرت لكوبيس وتم قطع رأسه، وأرسل لنا عليلي ونحن في السجن مرسولا قال لنا " رأس كوبيس في القفة " .
*
وماذا كان مصير جيش كوبيس والأسلحة التي كانت بحوزته؟
*
أغلبيتهم التحقوا بجيش التحرير الوطني، خاصة وأن فيهم المناضلون المخلصون للقضية الوطنية، ولكن تم إعدام القليل والقليل جدا منهم.