:: حدود الأخلاق ::
للأخلاق حد متى جاوزته صارت عدوانا, ومتى قصّرت عنه كان نقصا ومهانة, فللغضب حد وهو الشجاعة المحمودة, والأنفة من الرذائل والنقائص, وهذا كماله. فاذا جاوز حده, تعدى صاحبه وجار, وان نقص عنه, جبن ولم يأنف من الرذائل.
وللحرص حد, وهو الكفاية في أمور الدنيا, وحصول البلاغ منها, فمتى نقص من ذلك كان مهانة واضاعة, ومتى زاذ عليه, كان شرها ورغبة فيما لا تحمد الرغبة فيه.
وللحسد حد وهو المنافسة في طلب الكمال, والأنفة أن يتقدم عايه نظيره, فمتى تعدى ذلك صار بغيا وظلما يتمنى معه زوال النعمة عن المحسود, ويحرص على ايذائه, ومتى نقص عن ذلك, كان دناءة وضعف همة وصغر نفس. قال النبي صلى الله عليه وسلم:" لا حسد الا في اثنتين: رجل آتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق, ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها الناس" البخاري في العلم 1\165 (73) , وفي الزكاة 3\276 (1409) ومسلم, فهذا حسد منافسة يطالب الحاسد به نفسه أن يكون مثل المحسود, لا حسد مهانة يتمنى به زوال النعمة عن المحسود.
وللشهوة حد, وهو راحة القلب والعقل من كد الطاعة واكتساب الفضائل والاستعانة بقضائها على ذلك, فمتى زادت على ذلك صارت نهمة وشبقا والتحق صاحبها بدرجة الحيوانات, ومتى نقصت عنه ولم يكن فراغا في طلب الكمال والفضل كانت ضعفا وعجزا ومهانة.
وللراحة حد وهو اجمام النفس والقوى المدركة والفعالة للاستعداد للطاعة واكتساب الفضائل وتوفرها على ذلك بحيث لا يضعفها الكد والتعب ويضعف أثرها, فمتى زاد على ذلك صار توانيا وكسلا واضاعة, وفات به أكثر مصالح العبد, ومى نقص عنه صار مضرا بالقوى موهنا لها وربما انقطع به كالمنبت الذي لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى.
والجود له حد بين طرفين, فمتى جاوز حده صار اسرافا وتبذيرا, ومتى نقص عنه كان بخلا وتقتيرا.
وللشجاعة حد متى جاوزته صار تهوّرا, ومتى نقصت عنه صار جبنا وخورا, وحدها الاقدام في مواضع الاقدام, والاحجام في مواضع الاحجام, كما قال معاوية لعمرو بن العاص: أعياني أن أعرف أشجاعا أنت أم جبانا تقدم حتى أقول من أشجع الناس, وتجبن حتى أقول من أجبن الناس, فقال:
شجاع اذا أمكنتني فرصة فان لم تكن لي فرصة فجبان
والغيرة لها حد اذا جاوزته صارت تهمة وظنا سيئا بالبرئ, واذا قصّرت عنه كانت تغاقلا ومبادئ دياثة.
وللواضع حد اذا جاوزه كان ذلا ومهانة, ومن قصر عنه انحرف الى الكبر والفخر.
وللعز حد اذا جاوزه كان كبرا وخلقا مذموما, وان قصر عنه انحرف الى الذل والمهانة.
وضابط هذا كله العدل, وهو الأخذ بالوسط الموضوع بين طرفي الافراط والتفريط, وعليه بناء مصالح الدنيا والآخرة, بل لا تقوم مصلحة البدن الا به. فانه متى خرج بعض أخلاطه عن العدل وجاوزه أو نقص عنه ذهب من صحته وقوته بحسب ذلك. وكذلك الأفعال الطبيعية كالنوم والسهر والأكل والشرب والجماع والحركة والرياضة والخلوة والمخالطة وغير ذلك, اذا كانت وسطا بين الطرفين المذمومين كانت عدلا وان انحرفت الى أحدهما كانت نقصا وأثمرت نقصا.
فمن أشرف العلوم وأنفعها علم الحدود, ولا سيما حدود الشرع المأمور والمنهي. فأعلم الناس أعلمهم بتلك الحدود, حتى لا يدخل فيها ما ليس منها ولا يخرج منها ما هو داخل فيها. قال تعالى:{ الأعراب أشد كفرا ونفاقا وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله}التوبة 97. فأعدل الناس من قام بحدود الأخلاق والأعمال والمشروعات معرفة وفعلا, وبالله التوفيق.
كتاب الفوائد لابن القيم
اللهم اغفر لنا وارحمنا وعافنا واعف عنا