السُّؤال:
يا شيخنا الفاضل، لقد أثارت الشيعةُ هذه الروايةَ،ونحن لا نستطيعُ أنْ نردَّ عليهم، وأتمنى منكم أن تبيِّنُوا لنا ما مَدَى صِحَّةِ أو ضعفِ هذه الرِّوايةِ،وجزاكم الله خيراً.
عن أبي مجلز قال: قال عمرو والمغيرة بن شعبة لمعاوية: إنَّ الحسن بن علي رجلٌ عَيِي,وإنَّ له كلاماً ورأياً,وإنا قد علمنا كلامَهُ فيتكلم كلاماً فلا يجد كلاماً. قال: لا تفعلُوا. فأبوا عليه فصعدَ عمرو المنبرَ فذكر علياً ووقع فيه، ثم صعد المغيرةُ بن شعبة,فحمد الله وأثنى عليه ثم وقع في علي,ثم قيل للحسن بن علي: اصعد,فقال:لا أصعد ولا أتكلم حتى تعطوني إن قلتُ حقاً أن تُصدقوني,وإن قلت باطلاً أن تكذبوني. فأعطوه,فصعد المنبرَ, فحمد الله, وأثنى عليه,فقالَ: أنشدكما بالله يا عمرو ويا مغيرة, أتعلمان أنَّ رسولَ اللهِ-صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ-,قال:"لعنَ اللهُ السَّابقَ والرَّاكِبَ". أحدهما فلان؟ قالا: اللهم بلى, قال: أنشدك بالله يا معاوية ويا مغيرة, أتعلمان أنَّ رسولَ اللهِ-صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ-لَعَنَ عمراً بكُلِّ قافيةٍ قالها لعنةً؟ قالا: اللهم بلى,قال: أنشدك بالله يا عمرو ويا معاوية بن أبي سفيان, أتعلمان أنَّ رسولَ اللهِ-صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ- لَعَنَ قومَ هَذَا؟ قَالَا:بلى. قال الحسنُ: فإني أحمدُ الله الذي وقعتم فيمن تبرأ من هذا. قال وذكر الحديث.
رواه الطبراني عن شيخه زكريا بن يحيى الساجي,قال الذهبي: أحد الأثبات ما علمت فيه جرحاً أصلاً، وقال ابن القطان: مختلف فيه في الحديث؛وثَّقه قومٌ,وضعَّفَهُ آخرون،وبقيةُ رجالِهِ رجالُ الصَّحيحِ.
الجَوَابُ:
هذا الحديث الذي سألت عنه رواه الطبراني في الكبير (3/71) قال: حدثنا زكريا بن يحيى الساجي،حدثنا محمد بن بشار، حدثنا عبد الملك بن الصباح المسمعي، حدثنا عمران بن حدير،أظنه عن أبي مجلز، قال: قال عمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة.. فذكر الحديث الذي سألت عنه.
والجواب عن هذا الحديث من أربعة أوجه:
الأول: أن الراوي–وهو عبد الملك بن الصباح-,قال في روايته:"وأظنه",فهذا شَكٌّ منه في اسم الراوي،والشَّكُّ من أسبابِ ضعفِ الخبرِ عندَ أهلِ العلمِ،إذ يحتملُ أنْ يكونَ الرَّاوي الذي حَدَّثه هو ذلكَ الثقة،ويحتمل أنْ يكونَ الرَّاوي من الضُّعفاءِ.
الثاني: أنَّ عبد الملك بن الصباح–الراوي عن عمران- صدوقٌ، كما قال أبو حاتم، والذهبي في الميزان (2/657),ووثقه غيرهما كما في تهذيب الكمال(18/332)،ومَنْ كانتْ هذه حاله فيحتمل أنه لم يضبط حديثه، خاصة وأن في هذا الحديث قرينة على عدم ضبطه، وهو شكه في شيخ شيخه.
الثالث: هذا الحديث فيه إرسالٌ؛لأنَّ أبا مجلز,قَالَ:قال عمرو...إلخ، وهذه الصِّيغةُ عند المحدِّثين لا تُفيد السَّماعَ،بل هي تدلُّ على أنَّ الرَّاويَ لم يسمعِ القصة،بل حَكَاهَا حِكَايةً، وهذا معنى الإرسالِ عندهم، أي أنه لم يقلْ: سمعتُ، أو حدثنا أو عن بشرط أن يكون غير مشهور بالتدليس حينما يقول: عن.
وقد راجعت أحاديث أبي مجلز عن معاوية في الكتب التسعة ومسند الشافعي وأبي عوانة ومصنف عبد الرزاق وابن أبي شيبة ومنتقى ابن الجارود وصحيح ابن خزيمة وابن حبان ومستدرك الحاكم وسنن الدارقطني وغيرها كثير، فلم أجد رواية واحدة تُصرِّح بسماعِهِ من معاويةَ–رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-،ولم أقفْ له عن معاويةَ إلا على خمسة أحاديث:
أحدها: حديث "من سره أن يتمثل له الرجال قياماً، فليتبوأ مقعده من النار"أخرجه أحمد (4/100) وغيره، والثاني: عند الطبراني في الكبير (19/352):"إن تسوية القبور من السنة، وقد رفعت اليهود والنصارى فلا تتشبهوا بهما" والثالث: عند ابن حبان في المجروحين (3/159)، والرابع: عند ابن عدي في الكامل (2/109) وكلاهما منكر، والخامس: عند ابن أبي عاصم في الزهد موقوفاً عليه (113)، ولم أقف في جميع هذه الطرق على ما يدل على سماع أبي مجلز من معاوية–رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-،وعليه فلا يُحكم لهذا الحديث بالاتصالِ مع عدم ثبوتِ دليلٍ واضحٍ على سماعِهِ منه.
الرابع: أنه على فرض صحته فقد ثبت في الصحيحين البخاري (6000) ومسلم (2601) واللفظ لمسلم من حديث أبي هريرة –رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أن النَّبيَّ –صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ- قال: "اللهم إني أتخذ عندك عهداً لن تخلفنيه، فإنما أنا بشر، فأي المؤمنين آذيته، شتمته لعنته، جلدته، فاجعلها له صلاة وزكاة وقربة تقربه بها إليك يوم القيامة".
وفي صحيح مسلم(4/2007) ح (2600)من حديثِ عائشةَ–رَضِيَ اللهُ عَنْهُا-,قالت: دَخَلَ عَلَى رَسُولِ اللهِ–صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ-رجلانِ، فكلَّماه بشيءٍ لا أدري ما هُو! فأغضباه فلعنهما وسبَّهما فلمَّا خرجا، قلت: يا رسول الله من أصاب من الخبر شيئاً ما أصابه هذان! قال: وما ذاك؟ قالت: قلت لعنتهما وسببتهما، قال:"أو ما علمت ما شارطت عليه ربي؟ قال:"اللهم إنما أنا بشر فأي المسلمين لعنته أو سببته فاجعله له زكاة وأجراً".
وجاء نحوه من حديث جابر وأنس –رَضِيَ اللهُ عَنْهُما-.
ولهذا كان من فقه الإمام مسلم –رحمه الله- أنه أورد في صحيحه ح (2604) حديث ابن عباس –رَضِيَ اللهُ عَنْهُما- قال:"كنت ألعب مع الصبيان، فجاء رسول الله –صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ- فتواريت خلف باب، قال: فجاء فحطأني حطأة، وقال:"اذهب وادع لي معاوية"، قال: فجئت فقلت: هو يأكل، قال: ثم قال لي: اذهب فادع لي معاوية، قال: فجئت، فقلت: هو يأكل، فقال:"لا أشبع الله بطنه" أورد مسلم هذا الحديث بعد حديث عائشة وأبي هريرة –رَضِيَ اللهُ عَنْهُما- وغيرهما ليبين أن هذه الدعوة التي لحقت معاوية –رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- صارت بذلك الشرط الذي اشترطه النَّبيُّ–صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ-منقبةً له –رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-،فقد تحوَّلتْ هذه الدعوةُ إلى كونِها زكاةً ورحمةً،وقُرْبةً يتقرَّبُ بها يوم القيامة،ولهذا يعدُّ أهلُ السُّنَّةِ هذا الحديثَ وأمثالَهُ في مناقبِ معاويةَ–رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-،واللهُ أعلمُ.