الذاكرة.. كيف نحافظ عليها ونعززها؟
إن كنت قد تعديت سن الخمسين، فربما لاحظت بعض التغيرات التي طرأت على قدراتك في تذكّر الأشياء، فقد تكون توجهت إلى المطبخ لأمر ما ثم تنساه، أو لم تتمكن من تذكر اسم ما أثناء محادثة، كما قد تنسى موعدا لمقابلة مهمة.
إن هفوات أو إخفاقات الذاكرة قد تظهر في أي عمر، إلا أننا نتألم أكثر لحدوثها لنا مع تقدمنا في العمر، لخوفنا من أن تكون علامات على العته، أو على فقدان وظائف التفكير. وغالبا ما نتخوف أيضا من الإصابة بمرض الزهايمر.
وفي الواقع، فإن حدوث فقدان الذاكرة القوي لدى كبار السن، لا يكون ناتجا عن تقدم السن، بل عن اضطرابات عضوية، أو أضرار في الدماغ، أو أمراض عصبية.
* الذاكرة والعادات الصحية
* وقد أظهرت الدراسات أن بإمكان الإنسان العمل على درء تدهور قدرات الإدراك والتقليل من خطر العته لديه، بالحفاظ على العادات الصحية بشكل عام، والبقاء نشطا من الناحية البدنية، والحصول على قدر واف من النوم، وتجنب التدخين، والاستمرار في توثيق علاقاته الاجتماعية، وتجنب تناول الكحول، وتناول غذاء متوازن تقل فيه الدهون المشبعة والدهون المتحولة saturated and trans fats (إذ أظهرت الدراسات وجود خطر أقل للتدهور العقلي بين صفوف الأشخاص، الذين يتبعون النظام الغذائي للبحر الأبيض المتوسط الغني بالفواكه والخضراوات، والحبوب الكاملة، والدهون الصحية). كما يمكن للمصابين والمصابات بأمراض معينة تقليل ظهور مشكلات الذاكرة باتباع الإرشادات الطبية.
إن أغلب مشكلات الذاكرة العابرة، التي يمر بها الإنسان مع تقدم عمره، تعكس التغيرات الطبيعية في بنية الدماغ وفي وظيفته. وهذه التغيرات بمقدورها إبطاء بعض عمليات الإدراك المحددة، وزيادة صعوبة التعلم بسرعة أو صعوبة التعرف بسرعة إلى الأمور، التي تشتت الانتباه والتي تتداخل مع الذاكرة والتعلم.
وهذه التغيرات تثير الخيبة في النفوس وتبدو مزعجة عند الحاجة إلى تعلم مهارات جديدة أو عند التعامل مع عدد من المهمات. إلا أن الجوانب المفرحة في هذا المجال هي أنه، وبفضل عقود من السنين من الأبحاث، قد تم وضع عدد من الاستراتيجيات، التي يمكن توظيفها لحماية دماغنا وشحذ فكرنا. وإليكم بعضا من تلك الاستراتيجيات.
* تعلم باستمرار
* لقد وُجد أن ارتفاع مستوى التعليم للإنسان يرتبط بوظائف عقلية أفضل لديه عند تقدم عمره. ويعتقد الخبراء أن التعليم المتقدم قد يساعد في الحفاظ على قوة الذاكرة، بتعويد الإنسان زيادة نشاطه الفكري.
ويعتقد أن التحديات، التي يضعها الإنسان أمامه أثناء التفكير في إيجاد الحلول لمسائل فكرية، تنشّط العمليات التي تساعد على الحفاظ على خلايا الدماغ المنفردة، وتحفز التواصل بين تلك الخلايا.
ويعمل الكثير من الناس في وظائف تجعلهم يمارسون نشاطا فكريا، إلا أن ممارسة واحدة من الهوايات، أو تعلُّم واحدة من المهارات الجديدة، بمقدورها توليد تأثير ذلك النشاط الفكري نفسه. اقرأ، سجل في حلقات محبي قراءة الكتب، العب الشطرنج أو الألعاب الأخرى المنشطة للدماغ، اكتب قصة حياتك، حلَّ الكلمات المتقاطعة أو الفوازير، سجل في صفوف الموسيقى أو الفنون، ضع تصميما جديدا لحديقتك. وفي موقع العمل، اقترح مشروعا ما، أو تطوع للعمل في مشروع لاكتساب مهارات لا تملكها. فبناء الاتصالات داخل المخ، والحفاظ عليها، عمليتان دائمتان، ولذا فإن عليك أن تحول التعلم إلى أولوية على مدى عمرك.
ويلعب أحد المكونات الموجودة في أعماق الدماغ، التي تسمى «قرين آمون» (hippocampus)، دورا حاسما في اكتساب وتأسيس ذاكرة جديدة. أما اللوزة (amygdale) القريبة منه فإنها تشكل جزءا من الدماغ، الذي يتفاعل مع المعلومات العاطفية القوية، مساعدا الدماغ على الحفاظ على المعلومات التي لها تأثيرات عاطفية. وما إن تتأسس الذاكرة وتتماسك، فإنها تُختزن بالدرجة الرئيسية في مناطق قشرة المخ، وهي المنطقة الواسعة التي تشكل طبقة القبة الخارجية للدماغ.
* اعتنِ بصحتك
* إن كنت تعاني مشكلات صحية لا تساعد قدراتك في التعلم، فسوف يخونك الحظ في إمكانيات تحسين ذاكرتك. فالكثير من المشكلات الصحية، التي تصبح شائعة مع تقدم العمر قد تقود إلى الإخلال بقدرات التفكير إن لم يتم تشخيصها أو معالجتها. وإليك بعض الوسائل لحماية نفسك:
* معالجة مرض السكري: إن ارتفاع سكر الدم يعوق الذاكرة، بخفض تجهيز الدم للدماغ. وفي «دراسة صحة الممرضات» لجامعة هارفارد، ظهر أن النساء بين أعمار 70 و81 سنة، حصلن على نتيجة أسوأ في اختبارات الإدراك، كما أظهرن تدهورا على مدى سنتين، إن كن من المصابات بمرض السكري من النوع الثاني. إلا أن التدهور خف بشكل ما بين أولئك اللواتي تناولن الأدوية للتحكم في مستوى سكر الدم. والتمارين الرياضية وسيلة أخرى لتحسين مستويات سكر الدم.
* التحكم في ضغط الدم: تنجم بعض إخفاقات الذاكرة عن قلة تدفق الدم نحو الدماغ بسبب ارتفاع ضغط الدم. ففي دراسة شملت 20 ألف امرأة ورجل في أعمار تزيد على 45 سنة نشرت عام 2009 في مجلة «نيرولوجي»، وجد الباحثون أن معدل ظهور مشكلات في الذاكرة ازداد بنسبة 7 في المائة لكل زيادة بـ10 نقاط من قيمة ضغط الدم الانبساطي (وهو المقدار الأدنى في قياس ضغط الدم). وهناك دلائل على أن ارتفاع ضغط الدم مضر، على وجه الخصوص، بالذاكرة لدى النساء.
* معالجة حالة انقطاع التنفس أثناء النوم (sleep apnea): إن مشكلات الإدراك قد تكون أعراضا لحالة الكآبة. فالنساء الكبريات سنا من المصابات بالكآبة لديهن وظائف إدراك أسوأ، مقارنة بالنساء من غير المصابات بالكآبة، كما أن مهاراتهن تتدهور بسرعة مع الزمن. وفي صفوف البالغات من النساء المشخصات بتدهور خفيف في الإدراك، ظهر أن المصابات منهن، أيضا، بالكآبة كن يتعرضن أكثر بمقدار مرتين إلى الإصابة بمرض الزهايمر.
* فحص الغدة الدرقية: إن خمول الغدة الدرقية (hypothyroidism) قد يؤثر تأثيرا معاكسا في التعلم، والتذكر والذاكرة والانتباه، حتى بين النساء اللواتي كانت مستويات إفرازات الغدة الدرقية ليست واطئة بما يكفي لحدوث الأعراض. وتؤدي المعالجة المناسبة، بهدف رفع مستوى هرمونات الغدة الدرقية إلى المستوى الطبيعي، إلى تحسن متناسب في الإدراك. ويظهر التدهور في الإدراك بمعدل مرتين أكثر لدى النساء اللواتي لا يعالجن من هذه الحالة.
* مراقبة الكولسترول: يبدو أن ارتفاع مستوى الكولسترول يزيد من خطر حدوث خلل خفيف في الإدراك، ثم ومن بعد هذا الخلل، حدوث مرض الزهايمر في المستقبل. ولا يفهم الخبراء تماما لماذا يحدث ذلك، كما أنهم لا يعرفون إن كانت هذه المشكلة ناجمة عن وجود مستويات عالية جدا من الكولسترول منخفض الكثافة LDL (الضار) أو مستويات قليلة جدا من الكولسترول عالي الكثافةHDL (الحميد). وقد وجدت دراسة طويلة المدى نشرت عام 2008 (شملت 3673 من البالغات البريطانيات، اللواتي تم قياس الكولسترول والذاكرة لديهن في عمر 55، وعمر 61 سنة)، صلةً بين المستويات المنخفضة للكولسترول HDL (الحميد) وبين تدهور الذاكرة. إلا أن من المبكر جدا معرفة ما إذا كان التوجه إلى رفع مستويات HDL بمقدوره أن يمنع حدوث العته، إلا أن هذا التوجه فكرة جيدة في كل الأحوال لتعزيز مستويات HDL عبر التمارين الرياضية، وتجنب الدهون المشبعة والمتحولة، وتناول الدهون الأحادية المشبعة، مثل زيت الزيتون وزيت الكانولا وزيت الفول السوداني.
* وظّائف كل الحواس
* كلما تم توظيف عدد أكثر من الحواس أثناء عملية التعلم، أمكن للدماغ خزن الذاكرة بشكل أفضل. وفي إحدى الدراسات، عرضت على المشاركين من البالغين سلسلة من الصور المحايدة عاطفيا، بحيث قدمت كل صورة مصاحبة برائحة ما. ولم يطلب الباحثون من المشاركين تذكر الصور التي رأوها. ولكن، وفي ما بعد، عرضت عليهم أعداد من تلك الصور من دون أن تكون مصاحبة بالروائح، وسألهم الباحثون إن كانوا قد شاهدوا هذه الصور من قبل. وقد استرجع المشاركون في الدراسة بشكل ممتاز ذاكرتهم لكل الصور التي كانت مصاحبة برائحة، وخصوصا الصور المصاحبة برائحة طيبة.
وتظهر عمليات تصوير الدماغ أن القشرة الكمثرية (piriform cortex)، وهي المنطقة المسؤولة عن معالجة الروائح في الدماغ تصبح نشطة عندما يرى الناس أشياء كانت مرتبطة في ما مضى بالروائح، حتى وإن لم تعد تلك الروائح مرتبطة بها، بل إن الناس لا يحاولون تذكرها (أي الروائح).
لذا فالمطلوب هو تحدي كل الحواس لتعزيز الذاكرة، فمثلا: حاول أن تحدس وجود العناصر في طبق من الطعام تتناوله في أحد المطاعم، بواسطة الشم والتذوق. جرّب النحت أو صنع منتجات السيراميك لزيادة التحسس بلمس العناصر، التي تستخدمها، وبرائحتها.
* ثق بنفسك
* الأوهام حول الشيخوخة تسهم في تدهور الذاكرة. فالناس، الذين يعتقدون أنهم لا يتحكمون في وظائف ذاكرتهم لا يقومون على الأغلب بمهمة الحفاظ على الذاكرة أو تعزيزها، ولذا فإنهم يتعرضون أكثر لتدهور الإدراك. وإن كنت تعتقد أن بإمكانك تحسين الذاكرة ويمكنك ترجمة ذلك إلى الواقع العملي، فإن لديك فرصة أكبر لجعل ذهنك حادا.
* اقتصد في عقلك
* إن كنت لا تحتاج إلى أي طاقة عقلية لتذكّر موقع مفاتيحك أو عيد ميلاد ابنك، فإنك في وضع جيد للتركيز على التعلم، وتذكُّر أشياء جديدة ومهمة.
حاول الاستفادة من التقاويم والخرائط وقوائم التسوق والملفات ودفاتر العناوين للحصول على المعلومات. خصص موقعا في بيتك لوضع نظاراتك، ومحفظتك، ومفاتيحك، وكل أشيائك الصغيرة الأخرى. أبعد الأشياء المتراكمة عن مكتبك أو منزلك لتقليل تشتيت الانتباه، فذلك يتيح لك التركيز على المعلومات الجديدة التي ترغب في تذكّرها.
* كرر ما تريده
* عندما ترغب في تذكر شيء ما سمعته، أو قرأته، أو فكرت فيه توا، كرره بصوت عال أو سجله على الورق. وبهذا، فإنك تعزز الذاكرة أو الربط في ما بين الأشياء. فمثلا، إن سمعت اسما جديدا، استخدمْه عند التحادث، أو إن وضعت شيئا في مكان غير معهود، فأخبر نفسك بما فعلته. وأخيرا، اطلب من الآخرين تكرار معلوماتهم.
* اضبط زمن التكرار
* إن التكرار يصبح وسيلة أقوى للتعلم عندما يكون مضبوطا مع الزمن. لا تكرر شيئا ما لعدة مرات خلال زمن قصير، كما لو كنت محشورا في امتحان، فهذا التكرار ليس أفضل الوسائل.
وبدلا من ذلك، أعد دراسة العناصر الحيوية لذلك الشيء لفترة زمنية أطول - مرة واحدة خلال ساعة، ثم بعد عدة ساعات، ثم كل يوم. وتصبح مهمة توزيع عملية التذكر على أزمان منفصلة أطول، مهمة جدا عندما يتطلب الأمر تذكّر معلومات معقدة، مثل تفاصيل مهمات جديدة في العمل. وتظهر الأبحاث أن التكرار على مدى أزمان منفصلة لا يحسن من عمليات استرجاع الذاكرة لدى الأشخاص الأصحاء فحسب، بل ولدى الأشخاص الذين يعانون بعض مشكلات الإدراك الناجمة عن مشاكل جسدية، مثل مرضى التصلب المتعدد.
* اختصر العبارات
* اختصار العبارات وتحويلها إلى كلمة واحدة من عدد قليل من الحروف، وسيلة جيدة لتذكر الأشياء الضرورية. فمثلا، يمكن تذكر إرشادات الإسعاف الطبي الخاصة بعلاج تضرر الذراعين أو الرجلين، وهي بالإنجليزية كلمة RICE، المختصرة للتعبير عن: ضرورة تأمين الراحة (Rest)، ثم وضع الثلج على الطرف المتضرر (Ice)، ثم الشد أو الضغط عليه (Compression)، ثم رفعه (Elevation). (وبالعربية يمكن أن يكون الاختصار كما يلي: «رح - ثل- ضغ - رف»، لـ: الراحة، الثلج، الضغط، والرفع - المحرر). ويمكن توظيف الاختصارات لكبار السن، الذين لا يزالون يرغبون في التعلم بدلا من سرد المحتوى الطويل والتعريف به، أو صياغة جمل لطيفة للتذكير بالمواعيد المهمة.
* عقبات معوقة للذاكرة.. للناس من مختلف الأعمار
* في كتابه «الخطايا السبع للذاكرة: كيف ينسى العقل وكيف يتذكر؟» The Seven Sins of Memory: How the Mind Forgets and Remembers (دار «مارينر» للنشر، 2002)، يتحدث دانيال شاكتر Daniel Schacter، البروفسور في علم النفس في جامعة هارفارد، عن عدد من عيوب الذاكرة الشائعة التي يمر فيها الناس من مختلف الأعمار، إلا أن بعضها يصبح أقوى مع تقدم العمر. ومن ضمنها:
* سرعة الزوال (transience) أو (سرعة النسيان): وهي تحدث عندما ينسى الشخص، على الأكثر، المعلومات بعد تعلمه إياها مباشرة. وهذا الشخص يعاني، أيضا، عوارض أخرى تتمثل في نسيانه الحقائق والأحداث مع مرور الزمن. وتتمتع الذاكرة بصفة «الاستعمال أو الفقدان». وإن كنت في الغالب من الذين يسترجعون المعلومات ثم تستعملها، فإنك لن تنساها. وتبدو سمة «سرعة الزوال» مؤشرا على ضعف الذاكرة، إلا أن علماء دراسة الدماغ يعتبرونها سمة مفيدة لأنها تنظف المخ من الذاكرة غير المستعملة، ممهدة الطريق لذاكرة جديدة ذات أهمية أكثر.
* شرود الذهن (absentmindedness). هذا النوع من النسيان يظهر عندما لا يولي الشخص اهتمامه منذ البداية. إذ ينسى، مثلا، المكان الذي وضع فيه كوب القهوة، لأنه لم يركز انتباهه منذ البداية على ذلك المكان، ولأنه كان يفكر في أمر ما، ولهذا فإن المخ لم يقم بخزن المعلومة الجديدة. كما أن شرود الذهن يعني، أيضا، نسيان تناول الأدوية في مواعيدها أو مواعيد المقابلات واللقاءات. وإحدى وسائل تجنب هذه المشكلة تكمن في تحديد الأمور التي يمكنها التذكير بالواجبات. وعلى سبيل المثال، إن كنت تحتاج إلى تناول أدوية معينة في الصباح، فضعها قرب إبريق القهوة أو الشاي.
* «الاحتجاز» (blocking): وهذا ما يحدث عندما يطرح عليك شخص ما سؤالا تعرفه جيدا، وتكون الإجابة عنه على طرف لسانك، إلا أنك لا تتذكرها. وهذا هو المثال المعروف عن «الاحتجاز». ولا يظهر «الاحتجاز»، لأنك لم تكن تعير الانتباه للسؤال، أو لأن الذاكرة قد انمحت من المخ. ففي أكثر الحالات تكون الذاكرة قد احتجزت من قبل ذاكرة أخرى. وعلى سبيل المثال على «الاحتجاز»، فإنك قد تنادي على اسم ابنك الأكبر بواسطة اسم ابنك الأصغر، أو العكس. ويصبح «احتجاز» الذاكرة أكثر قوة مع تقدم العمر، وهو من أكثر العقبات التي يعانيها كبار السن أثناء تذكرهم الأسماء. إلا أن الجانب الجيد في هذا الشأن هو أنه يمكن تذكر نحو نصف الأسماء المحتجزة خلال زمن لا يزيد على دقيقة واحدة.