حق الجار
الشيخ عبد الخالق ماضي
إنّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيّئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمدًا عبده ورسوله، وبعد:
فإنّ كتاب الله عزّ وجلّ الذي قال الله تعالى فيه: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ﴾ قد اشتمل على ما فيه سعادة البشرية في دينهـا ودنياهـا، فقد جـاءت تعاليمه شاملة لصلاح الفرد والمجتمع، حيث شرع الأسباب التي إذا قام بها الأفراد سعد المجتمع.
ومن هذه الأسباب الاعتناء بحقوق الجار والمحافظة عليها والوفاء بها؛ لأنّها من أهمّ دعائم صلاح المجتمع، ففي ذلك الألفة والمحبّة والإخاء، وفي تضييع ذلك والتقصير فيه، إخلال بهذه الرابطة القويّة بين أفراد المجتمع المسلم، بل إنّ هذا الخلق الكريم، يتعدّى التعامل مع الأخ المسلم القريب والمسلم الأجنبي إلى غير المسلم.
وقد ورد الأمر بالوفاء بحقّ الجار في كتاب الله في سياق الأمر بعبادته وحده، والبرّ بالوالدين فقال سبحانه: ﴿وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا﴾ [النساء:36].
والجار القريب: مَنْ بينك وبينه قرابة في النسب، كالأخ والعمّ وابن العمّ والخال وغيرهم من الأقرباء، الذين لهم حقّ آخر غير الجوار والإسلام، وهو صلة الرّحم.
أمّا الجار الجنب: فهو خلاف القريب، وهو قول أكثر العلماء، ولهذا نجد البخاري قد أورد تحت هذا البـاب حديث عـائشة ـ رضي الله عنها ـ وحديث عبد الله بن عمر ـ رضي الله عنهما ـ ولفظهما:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلَّم: «مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالجَارِ حَتىَّ ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُه».
واسم الجار يشمل الجار المسلم والكافر، والعابد والصالح، والفاسق، والصديق والعدوّ، والغريب وصاحب البلد، والنافع والضار، والقريب والأجنبي، والأقرب دارًا والأبعد، وله مراتب بعضها أعلى من بعض، فيعطي كلّ ذي حقّ حقّه، بحسب حاله، وقال النبي صلى الله عليه وسلَّم: «خَيْرُ الأَصْحَابِ عِنْدَ اللهِ خَيْرُكُمْ لِصَاحِبِهِ، وَخَيْرُ الجِيرَانِ عِنْدَ اللهِ خَيْرُكُمْ لِجَارِهِ» أخرجه أحمد والترمذي والدارمي والحاكم وهو صحيح.
وقد بالغ جبريل في الوصاية بالجار وهو قوله صلى الله عليه وسلَّم: «مَا زَالَ جِبْرِيلُ...» الحديث، وهذا تأكيد على حقّ الجار الذي كاد أن يكون بمثابة الوارث الشريك الذي لا يستطيع أن ينفكّ منه شريكه، ولا يدفعه عن حقّه، وقد جعل النبيّ صلى الله عليه وسلَّم من علامة الإيمان بالله واليوم الآخر عدم إذاية الجار، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلَّم: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلاَ يُؤْذِ جَارَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ» أخرجه البخاريّ.
وعلى العكس من ذلك، فقد جعل صلى الله عليه وسلَّم إذاية الجـار علامة على عدم الإيمان، فعن أبي شُرَيحٍ العدويّ رضي الله عنه أنّ النبيَّ صلى الله عليه وسلَّم قال: «وَاللهِ لاَ يُؤْمِنُ وَاللهِ لاَ يُؤْمِنُ وَاللهِ لاَ يُؤْمِنُ»، قيل: ومن يا رسول الله ؟ قال: «الَّذِي لاَ يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ» أخرجه البخاريّ.
والبوائق جمع بائقة، وهي الشيء المهلك، ففي الحديث تأكيد لحقّ الجار على جاره، لقَسَمه صلى الله عليه وسلَّم ثلاث مرّات على نفي الإيمان عمّن لا يأمن جاره بوائقه، وهو شرّه، وشرّه يشمل كلّ ما يصدر عنه من قول؛ سواء كان شتمًا أو غيبةً أو استهزاءً، أو فعل؛ سواء كان اعتداءً بالضرب، أو إيذاءً كرمي الأمور المضرّة ببابه، أو في طريقه أو التجسّس، والكشف عن محارمه، هذا في حقّ مَنْ بينك وبينه حائل وجدار، فما بالك أخي المسلم بالجيران الذين لا حائل بيننا وبينهم، وهم الحافظون الكرام البررة، فلا ينبغي أن نؤذيها بإيقاع المخالفات، في مرور الساعات، فقد جاء أنّهما يُسرّان بوقوع الحسنات، ويحزنان بوقوع السيّئات، فينبغي مراعاة جانبهما بالتكثير من عمل الطاعات، والمواظبة على اجتناب المعاصي، فهما أولى برعاية الحقّ من كثير من الجيران، ونقصد بهذا الملكين الموكّلين بكلّ واحد منّا.
وإنّه لمن المؤسف جدًّا أن نرى أعمالاً شنيعة تقع بين الجيران، بل إنّ بعض الجيران يُصِرُّ على إذاية جاره حتى يخرج من داره، فعن ثوبان رضي الله عنه قال: «ما من رجلين يتصارعان فوق ثلاثة أيّام فيهلك أحدهما، فماتا وهما على ذلك من المصارعة، إلاّ هلكا جميعًا، وما من جار يظلم جاره ويَقْهَرُه حتى يحمله ذلك على أن يخرج من منـزله، إلاّ هلك» أخرجه البخاري في الأدب المفرد وإسناده صحيح.
بل إنّنا نسمع ما هو أدهى من هذا ؛ وهو اعتداء بعض الجيران على زوجة جاره أو ابنته أو السطو على بيته وسرقته له، وهذا من أعظم الذنوب عند الله عزّ وجلّ، فعن المقداد بن الأسود رضي الله عنه قال: «سألَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلَّم أصحابَه عن الزنى ؟ قالوا: حرام حرّمه اللهُ ورسولُه. فقال: لأَنْ يَزْنِيَ الرَّجُلُ بِعَشْرَةِ نِسْوَةٍ أَيْسَرُ عَلَيْهِ مِنْ أَنْ يَزْنِيَ بِامْرَأَةِ جَارِهِ. وسألهم عن السرقة ؟ قالوا: حرام، حرّمه الله عزّ وجلّ ورسوله، فقال: لأَنْ يَسْرِقَ مِنْ عَشْرَةِ أَهْلِ أَبْيَاتٍ، أَيْسَرُ عَلَيْهِ مِنْ أَنْ يَسْرِقَ مِنْ بَيْتِ جَارِهِ» رواه أحمد والبخاري في الأدب وهو صحيح.
فعلى المسلم أن يتّقي الله عزّ وجلّ في جيرانه، لأنّ الله سائله عنهم، وإنّ كلّ جار سيتعلّق بجاره يوم القيامة، فقد روى البخاري في الأدب المفرد عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: لقد أتى علينا زمانٌ أو قال: حِينٌ، وما أحد أحقّ بديناره ودرهمه من أخيه المسلم، ثمّ لأنّ الدينار والدرهم أحبّ إلى أحدنا من أخيه المسلم، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلَّم يقول: «كَمْ مِنْ جَارٍ مُتَعلِّقٍ بِجَارِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ، يَقُولُ: يَا رَبِّ هَذَا أَغْلَقَ بَابَهُ دُونِي، فَمَنَعَ مَعْرُوفَهُ» والحديث حسن.
واعلم أخي المسلم أنّ رسـول الله صلى الله عليه وسلَّم قد عدّ الجـار الصـالح من الأمور الجالبة للسعـادة، فعن نـافع بن عبد الحـارث عن النبي صلى الله عليه وسلَّم قال: «مِنْ سَعَادَةِ الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ؛ الْمَسْكَنُ الوَاسِعُ، وَالجَارُ الصَّالِحُ، والْمَرْكَبُ الهَنِيءُ» [انظر الصحيحة (282)].
ومن الأسباب الجالبة لصلاح الجيران ؛ تعاهدهم بالسؤال عنهم، وبذل الإحسان إليهم، وإكرامهم بالهدية، فقد أخرج البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ لِي جَارَيْنِ فَإِلَى أَيِّهِمَا أُهْدِي ؟ قَالَ: إِلَى أَقْرَبِهِمَا مِنْكِ بَابًا».
وقد فهم الصحابة حقّ الجوار وعظّموه في نفوسهم، حتى صاروا يَصِلُون من جيرانهم حتى اليهود، فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: أنّه ذُبحت له شاة فجعل يقول: أهديت لجارنا اليهودي ؟ أهديت لجارنا اليهودي ؟ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلَّم يقول: «مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ» وهو صحيح.
وهكذا فهم الصحابة وصية النبي صلى الله عليه وسلَّم بالجار، وأمّا حال أكثر المسلمين اليوم فإنّم لا يبالون بجيرانهم، بل إنّ بعضهم ينعم بالأكل والشرب وجيرانه لا يجدون لقمة يلوكونها في أفواههم، وهذا من ضعف الإيمان، كما قال النبي صلى الله عليه وسلَّم: «لَيْسَ الْمُؤْمِنُ الَّذِي يَشْبَعُ وَجَارُهُ جَائِعٌ» وهو صحيح.
فتعاهد أخي المسلم جيرانك وأحسن إليهم، واتّق لعنة الناس ولا تؤذ جارك، فإنّه من أكبر الذنوب، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رجل: «يا رسول الله، إنّ لي جارًا يؤذيني ؟ فقال: انْطَلِقْ فَأَخْرِجْ مَتَاعَكَ إِلَى الطَّرِيقِ، فانطلق فأخرج متاعه، فاجتمع الناس عليه، فقالوا: ما شأنك ؟ قال: لي جار يؤذيني، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلَّم فقال: انْطَلِقْ فَأَخْرِجْ مَتَاعَكَ إِلَى الطَّرِيقِ، فجعلوا يقولون: اللّهمّ الْعَنْهُ، اللّهمّ اخْزِهِ، فبلَغه فأتاه، فقال: ارجع إلى منـزلك، فوالله لا أوذيك» أخرجه البخاري في الأدب المفرد وأبو داود وهو صحيح.
وسبحانك اللهمّ وبحمدك، أشهد أن لا إله إلاّ أنت أستغفرك وأتوب إليك.