معركة الدونونية وقعت سنة 1276 م بين جيوش دولة المرينيون متحدة مع جيش محمد الفقيه ابن الأحمر والتي انتصرت على قوات الملك القشتالي ألفونسو العاشر. كان للمعركة تأثير كبير في تاريخ الأندلس الإسلامي، إذ أنها أوقفت زحف النصارى في الأراضي الإسلامية وقد أخرت سقوط مملكة غرناطة لمدة تزيد عن قرنين.
التسمية
عُرفت هذه المعركة بموقعة الدونونيّة نسبة إلى دون نونيو دي لارا قائد الجيش القشتالي
ما قبل المعركة
لم يتبق في الأندلس في سنة 646 هـ 1248 م بلادا إسلامية غير غرناطة وما حولها فقط من القرى والمدن، والتي لا تمثل أكثر من 15 % وهي تضم ثلاث ولايات متحدة هي: ولاية غرناطة، وولاية ملقة، وولاية ألمرية، ثلاث ولايات تقع تحت حكم ابن الأحمر الذي كان يحكمها باسم ملك قشتالة تبعاً لمعاهدةٍ بينهما، وإن كان هناك شيء من الاستقلال داخل كل ولاية. ولنا أولا أن نتساءل ونتعجب: لماذا يعقد فرناندو الثالث اتفاقية ومعاهدة مع هذه القوة التي أصبح القضاء عليها أمرا ميسورا خاصة بعد هذا الانهيار المروّع لدولة المسلمين؟! لماذا يعقد معاهدة مع ابن الأحمر؟! ولماذا لم يقضي مملكة غرناطة كما فعل مع غيرها من بلاد المسلمين ودون عهود أو اتفاقيات؟!
والواقع أن ذلك كان للأمور التالية:
أولا:
كان مملكة غرناطة كثافة سكانية عالية؛ الأمر الذي يجعل من دخول جيوش النصارى إليها من الصعوبة بمكان، وقد كان من أسباب هذه الكثافة العالية أنه لما كانت تسقط مدينة من مدن المسلمين في أيدي النصارى فكان النصارى ينتهجون نهجا واحدا، وهو إما القتل أو التشريد والطرد من البلاد.
فكان كلما طُرد رجل من بلاده عمق واتجه ناحية الجنوب، فتجمع كل المسلمون الذين سقطت مدنهم في أيدي النصارى في منطقة غرناطة في الجنوب الشرقي من البلاد، فأصبحت ذات كثافة سكانية ضخمة، الأمر يصعب معه دخول قوات النصارى إليها.
ثانيا:
كانت مملكة غرناطة ذات حصون كثيرة ومنيعة جدا، وكانت هذه الحصون تحيط بغرناطة وألمرية وملقة.
ثالثا:
أنها كانت تقع في الجنوب الشرقي وعلى البحر المتوسط، أي أنها قريبة من بلاد المغرب، الذي قامت فيه نواة دولة إسلامية جديدة هي دولة بني مرين، وكانت دولة سنية تقوم على التقوى، فكانت بين الحين والآخر تساعد بلاد مملكة غرناطة؛ ومن جراء ذلك استطاعت غرناطة أن تصمد بعض الشيء وتقف على أقدامها ولو قليلا أمام فرناندو الثالث ومن معه من النصارى في قشتالة.
غرناطة وموعد مع الأجل المحتوم
كعادتهم ولطبيعة متأصلة في كينونتهم، ومع كون المعاهدة السابقة بين ابن الأحمر وملك قشتالة تقوم على أساس التعاون والتصالح والنصرة بين الفريقين، إلا أنه بين الحين والآخر كان النصارى القشتاليون بقيادة فرناندو الثالث ومن تبعه من ملوك النصارى يخونون العهد مع ابن الأحمر، فكانوا يتهجمون على بعض المدن ويحتلونها، وقد يحاول هو (ابن الأحمر) أن يسترد هذه البلاد فلا يفلح، فلا يجد إلا أن يعاهدهم من جديد على أن يترك لهم حصنا أو حصنين أو مدينة أو مدينتين مقابل أن يتركوه حاكما على بلاد غرناطة باسمهم، فلم تؤسَّس غرناطة على التقوى، بل أسسها ابن الأحمر على شفا جرف هارٍ، معتمدا على صليبيٍّ لا عهد له ولا أمان [أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ] {البقرة:100}.
وقد ظل ابن الأحمر طيلة الفترة من سنة 643 هـ 1245 م ومنذ أول معاهدة عقدها مع ملك قشتالة، وحتى سنة 671 هـ 1273 م ظل طيلة هذه الفترة في اتفاقيات ومعاهدات.
وفي سنة 671 هـ= 1273 م بدأ ملك قشتالة وكان في ذلك الوقت "ألفونسو العاشر" بالمخالفة الصريحة لبنود المعاهدة المبرمة بينهما، وبدأ في تجييش الجيوش لدخول غرناطة، ومن ثم إنهاء الوجود الإسلامي تماما من أرض الأندلس.
هنا وجد ابن الأحمر نفسه في مأزق، وحينها فقط علم أنه عاهد من لا عهد له، فماذا يفعل؟ ما كان منه إلا أن يمّم وجه شطر بلاد المغرب حيث بنو مرين، وحيث الدولة التي قامت على أنقاض دولة الموحدين، والتي كان عليها رجل يُسمّى يعقوب المنصور المريني، أحد أكبر القواد في تاريخ المسلمين.
يعقوب المنصور المريني رجل الشدائد
في وصف بليغ ليعقوب بن منصور المريني يحدث المؤرخون المعاصرون له أنه كان: صوّاما قوّاما، دائم الذكر، كثير الفكر، لا يزال في أكثر نهاره ذاكرا، وفي أكثر ليله قائما يصلي، مكرما للصلحاء، كثير الرأفة والحنين على المساكين، متواضعا في ذات الله تعالى لأهل الدين، متوقفا في سفك الدماء، كريما جوّادا، وكان مظفرا، منصور الراية، ميمون النقيبة، لم تهزم له راية قط، ولم يكسر له جيش، ولم يغزو عدوا إلا قهره، ولا لقي جيشا إلا هزمه ودمّره، ولا قصد بلدا إلا فتحه، وكان خطيبا مفوها، يؤثّر في نفوس جنوده، شجاعا مقداما يبدأ الحرب بنفسه.
وفي تطبيق عملي لإحدى هذه الصفات وحين استعان محمد بن الأحمر الأول بيعقوب بن منصور المريني ممثلا في دولة بني مارين، ما كان منه إلا أن أعد العدة وعبر مضيق جبلي طريق، وأتى لنصرة المسلمين في الأندلس.
موقعة الدونونية ونصر مؤزّر
في سنة 674 هـ 1276 م يلتقي جيش المسلمين بقيادة يعقوب المنصور المريني وجيش قشتالة بقيادة دون نونيو دي لارا بالقرب من مدينة قرطبة في موقعة الدونونية العظيمة. بدأ المنصور المريني، يحفز الناس بنفسه على القتال، وكان مما قاله في خطبته الشهيره في تحفيز جنده في هذه الموقعة:، ألا وإن الجنة قد فتحت لكم أبوابها، وزينت حورها وأترابها، فبادروا إليها وجِدُّوا في طلبها، وابذلوا النفوس في أثمانها، ألا وإنّ الجنّة تحت ظلال السيوف [إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالقُرْآَنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الفَوْزُ العَظِيمُ] {التوبة:111}. فاغتنموا هذه التجارة الرابحة، وسارعوا إلى الجنة بالأعمال الصالحة؛ فمن مات منكم مات شهيدا، ومن عاش رجع إلى أهله سالما غانما مأجورا حميدا، فـ [اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] {آل عمران:200}.
كان من جراء هذا أن عانق الناس بعضهم بعضا للوداع، وبكوا جميعا،
وبهؤلاء الرجال الذين أتوا من بلاد المغرب، وبهذه القيادة الربانية، وبهذا العدد الذي لم يتجاوز العشرة آلاف مقاتل حقق المسلمون انتصارا باهرا وعظيما، وقتل من النصارى ستة آلاف مقاتل، وتم أسر ثمانية آلاف آخرين، وقتل دون نونيو قائد قشتاله في هذه الموقعة، وقد غنم المسلمون غنائم لا تحصى، وما انتصر المسلمون منذ موقعة الأرك في سنة 591 هـ 1195م إلا في هذه الموقعة، موقعة الدونونية في سنة 674 هـ 1276 م من الهجرة.
الفتوحات بعد الدونونية
بعد موقعة الدونونية انقسم جيش المسلمين إلى نصفين، توجه النصف الأول إلى جيّان وكان على رأسه ابن الأحمر، ففتح جيّان وانتصر عليهم، وتوجّه النصف الآخر وعلى رأسه المنصور المريني إلى إشبيلية، فإذا به يحرر إشبيلية ويصالح أهلها على الجزية.
وإنه والله لأمر عجيب هذا، أمر هؤلاء الخمسة آلاف رجل، والذين يذهب بهم المنصور المريني ويحاصر إشبيلية، فيحررها ويصالح أهلها على الجزية، تماما كما قال صلى الله عليه وسلم: نُصِرْتُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ. فكان هذا مثال حي على صلاح الرجال وصلاح الجيوش.
وبعد ثلاث سنوات من هذه الموقعة، وفي سنة 677 هـ 1279 م ينتقض أهل إشبيلية فيذهب إليهم من جديد يعقوب المريني، ومن جديد وبعد حصار فترة من الزمن يصالحونه على الجزية، ثم يتجه بعد ذلك إلى قرطبة ويحاصرها، فترضخ له أيضا على الجزية.
أمر والله في غاية الغرابة والعجب، يحرر قرطبة وجيّان وإشبيلية وقوام جيشه لا يتعدى الخمسة آلاف مقاتل! وإنه ليستحق وقفات ووقفات، وإن كان هذا ليس بغريب في التاريخ الإسلامي،
ابن حاكم ألمرية وصورة سامية ومحمد بن الأحمر الفقيه والخيانة العظمى
في أثناء رجوع يعقوب المريني يموت حاكم ألمرية (من ضمن الولايات الثلاث في منطقة غرناطة، والأخريان هما ولاية ملقة وولاية غرناطة)، ومن بعده يتولى عليها ابنه وكان شابا فتيا، وقد أُعجب بأفعال يعقوب المريني وانتصاراته المتعددة إعجابا كبيرا، فعرض عليه حكم ألمرية بدلا منه، استجاب المنصور المريني لطلبه، فخلّف عليها قوة صغيرة من المسلمين يبلغ قوامها ثلاثة آلاف رجل، ثم استجلب ثلاثة آلاف آخرين من بلاد المغرب، ووضعهم في جزيرة طريف حتى يكونوا مددا قريبا لبلاد الأندلس إذا احتاجوا إليهم في حربهم ضد النصارى، ثم عاد هو إلى بلاد المغرب.
هنا نظر محمد بن الأحمر الفقيه إلى ما فعله حاكم ألمرية فأوجس في نفسه خيفة ابن الأحمر، وقال: إن في التاريخ لعبرة، وهو يقصد بهذا أنه حينما استعان المعتمد على الله ابن عبّاد من ملوك الطوائف بيوسف بن تاشفين أمير دولة المرابطين في المغرب، فما كان من الأخير إلا أن أخذ البلاد وضمها كلها إلى دولة المرابطين، وها هو الآن يعقوب المنصور المريني يبدأ بمدينتي طريف وألمريّة، إن في التاريخ لعبرة، ففكر عازما على أن يقف حائلا وسدا منيعا حتى لا تُضم بلاد الأندلس إلى دولة بني مارين.
ويا لهول هذا الفكر الذي كان عليه ذلك الرجل الذي لُقب بالفقيه الذي ما هو بفقيه، فماذا يفعل إذن لكي يمنع ما تكرر في الماضي ويمنع ما جال بخاطره؟ بنظرة واقعية وجد أنه ليست له طاقة بيعقوب بن منصور المريني، ليست له ولا لشعبه ولا لجيشه ولا لحصونه طاقة به، فماذا يفعل؟!
ما كان من محمد ابن الأحمر الفقيه إلا أن أقدم على عمل لم يتخيله أحد من المسلمين، ما كان منه إلا أن ذهب إلى ملك قشتالة واستعان به في طرد يعقوب بن منصور المريني من جزيرة طريف، يذهب إلى ملك قشتالة بعد أن كان قد انتصر عليه هو والمنصور المريني في موقعة الدونونية وما تلاها في سنة 677 هـ 1279 م من فتح إشبيلية وجيّان وقرطبة، يذهب إلى الذي هو عدوٌّ لهما (لابن الأحمر والمنصور المريني) ويستعين به على طرد المريني من جزيرة طريف.
وعلى موعد مع الزمن يأتي ملك قشتالة بجيشه وأساطيله ويحاصر طريف من ناحيتين، فناحية يقف عليها ابن الأحمر الفقيه، والأخرى يقف عليها ملك قشتالة.
وما إن يسمع بذلك يعقوب المنصور المريني حتى يعود من جديد إلى جزيرة طريف، وعلى الفور يجهز الجيوش ويعد العدة، ثم يدخل في معركة كبيرة مع النصارى هناك في سنة 677 هـ 1279 م فينتصر يعقوب المنصور المريني على النصارى، ويفرون من أمامه فرّا إلى الشمال، ويجد ابن الأحمر نفسه في مواجهة مع يعقوب المنصور المريني.
المنصور المريني وعلو المقاصد والهمم وابن الأحمر الفقيه والخسة والدناءة
ما كان من محمد بن الأحمر الفقيه حين وجد نفسه في مواجهة مع المريني إلا أن أظهر الندم والاعتذار، وتعلل وأبدى الأسباب (الغير مقبولة بالطبع)، وبأمر من حكيم وبصورة لا تتكرر إلا من رجل ملَكَ قَلْبَه، يعفو عنه يعقوب بن منصور المريني، بل ويعيده إلى حكمه.
وفي سنة 684 هـ 1285 م يأتي من جديد يعقوب بن منصور المريني ليساعد ابن الأحمر في حرب جديده ضد النصارى، وهكذا كان يعقوب بن منصور المريني قد وهب حياته للجهاد في سبيل الله، والدفاع عن دين الله، وفي هذه السنة ينتصر المسلمون على النصارى، ويعقدون معهم عهدا كانت له شروط أملاها وفرضها عليهم يعقوب بن منصور المريني.
في هذه المعاهدة لم يطلب يعقوب بن منصور المريني مالا ولا قصورا ولا جاها، إنما طلب منهم أن يأتوا له بكتب المسلمين، والتي هي في قرطبة وإشبيلية وطليطلة، وغيرها من البلاد التي سقطت في أيدي النصارى، هذا هو الذي طلبه واشترطه في معاهدته.
وبالفعل أتوا إليه بكميات ضخمه من كتب المسلمين، الأمر الذي حفظ تراث الأندلس إلى الآن من الضياع، وما زالت وإلى الآن الكتب التي أخذها يعقوب بن منصور المريني في الموقعة التي تمت في 684 هـ1285 م ما زالت في مكتبة فاس في المغرب وإلى هذه اللحظة، وهكذا كانت علو المقاصد وعلو الهمم عند يعقوب بن منصور المريني، وكانت الخسة والدناءة عند ابن الأحمر وأولاد ابن الأحمر.