الاعتكــــاف
حقيقة الاعتكاف
الأصل في الاعتكاف أنه الإقامة في المكان طويلاً، ولزومه، والاشتغال فيه، وكان المشركون يعكفون عند الأوثان كما في قوله تعالى: {فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم} (الأعراف:138). وقول إبراهيم عليه السلام: {ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون} (الأنبياء:52). وقولهم: {نعبد أصناماً فنظل لها عاكفين} [الشعراء:71].
وجعل الله عكوف المسلم واعتكافه لزوم المسجد، فقال تعالى: {أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود} [البقرة:125]. وقال تعالى: {ولا تقربوهن وأنتم عاكفون في المساجد} [البقرة:187]. فجعل العكوف لزوم المساجد.
فالأصل أن المعتكف يفرّغ نفسه وينفرد في مكان ويشغل نفسه بالعبادة، وينقطع عن الدنيا وينقطع عن أهلها.
فالاعتكاف هو لزوم المسجد طاعة لله تعالى، والقصد منه التفرغ للعبادة. وأن لا يخرج من المسجد إلا لضرورة ملحة لا يجد منها بداً، كأن يحضر طعامه وشرابه إذا لم يجد من يحضره له، وكذلك الخروج للخلاء وللوضوء وغير ذلك.
قال ابن رجب رحمه الله: معنى الاعتكاف وحقيقته: قطع العلائق عن الخلائق للاتصال بخدمة الخالق.
الحكمة من الاعتكاف
إن الحكمة من الاعتكاف الانقطاعُ عن الدنيا، وعن الانشغال بها وبأهلها، والتفرغ للعبادة، والاستكثار منها. وإنما كان الاعتكاف في المساجد لأجل ألا يترك صلاة الجماعة مع المسلمين التي هي علامة وشعيرة من شعائر الإسلام.
فضل الزمان وفضل المكان
فإذا عزم المسلم على الاعتكاف فعليه أن يختار المسجد الذي تصلى فيه الجمعة، حتى لا يخرج إلا عند انتهاء مدة الاعتكاف، والأفضل أن يكون في زمان فاضل تضاعف فيه العبادات حتى يجمع بين فضل الزمان وفضل المكان.
فالاعتكاف مثلاً في المساجد الثلاثة: المسجد الحرام، والمسجد النبوي، والمسجد الأقصى له ميزته، وذلك لفضل العبادة بتلك المساجد، وأما بقية مساجد الدنيا فإنها متساوية إلا أن المسجد الذي يكون قديماً تكون العبادة فيه أفضل لقدم العبادة فيه فيختار المسجد الأقدم.
مدة الاعتكاف
إذا أراد المسلم أن يعتكف؛ فأقل الاعتكاف يوم وليلة، يعني أربعاً وعشرين ساعة حتى يصدق عليه أنه معتكف، وما عدا ذلك فيه خلاف؛ فبعضهم يرى أن من اعتكف يوماً أي من طلوع الشمس إلى غروبها، أو ليلة من غروبها إلى طلوعها يكون اعتكافاً، وبعضهم يرى أنه لابد من يوم وليلة حتى يتحقق الحديث.
محظورات الاعتكاف
يشتغل المعتكف بكل ما يقربه إلى الله عز وجل من صلاة وتلاوة للقرآن الكريم ومدارسته، كما أنه ينقطع عن العلاقات الدنيوية فينقطع عن الزيارات، فلا يفتح باب الزيارة لمن يزوره إلا قليلاً لحاجته. فقد ثبت أن بعض نساء النبي صلى الله عليه وسلم كنّ يأتين إليه وهو معتكف ويتحدثن معه قليلاً.
أما فتح باب الزيارة للأهل والأولاد والأصدقاء فإنه يجعل المسجد كالبيت، لا فرق بينهما، كما أنه يفتح الباب أمام الكلام الذي لا فائدة منه.
وكذلك على المعتكف ألا ينشغل بالدنيا وبأهلها، فلا يسال من رأى، ولا من سمع عن أمر من أمور الدنيا، ولا عن خبر من أخبارها، ولا يهتم بأمر من أمورها. وبعد ذلك يعكف على العبادة؛ فينتقل من جنس الصلاة سواء التراويح أو غيرها، أو التقرب بالرواتب ونحوها، ينتقل إلى القراءة والذكر، والدعاء والابتهال إلى الله، وما أشبه ذلك مع حضور القلب حتى يجمع بين خشوع القلب وحضوره، وبين التكلم باللسان مع اتصافه أيضاً بالخشوع والخضوع.
ولأجل ذلك ذكر ابن رجب أن بعضهم يقول في تعريف الاعتكاف: [أنه قطع العلائق عن الخلائق للاتصال بخدمة الخالق]. والعلائق بمعنى العلاقات فتقطع علاقتك بفلان وفلان، وتنقطع منها عن جميع الخلائق، ويتصل قلبك بربك بحيث يكون ذكر الله على قلبك دائماً، نائماً ويقظان، قائماً وقاعداً ومضطجعاً.
تذكر الله في كل حالاتك، وتتأمل، وتعقل ما تقول إذا كنت مشتغلاً بذلك. وإن قرأت القرآن قرأته بتدبر.
وقد أدركنا قبل أربعين سنة، أو خمسين سنة آباءنا ومشايخنا كانوا يعتكفون، ولا يُخلُّونَ بالاعتكاف، وكانوا يعكفون على القرآن، حيث رزقهم الله حفظ القرآن وسهولته، فكانوا يختمونه كل يوم غالباً، أو كل يومين مع التدبر!! ذلك لأنه شغلهم الشاغل في ليلهم ونهارهم، إلا أنه فقط يؤتى بأكله، بفطوره وسحوره، وأحياناً يقتصر على السحور. فيتناول في الإفطار تمرات قليلة،ولا يتناول عشاءً، ويجعل عشاءه سحوراً.
هكذا أدركنا مشايخنا؛ يخرج الواحد منهم لقضاء الحاجة فقط، وللوضوء، لا يعود مريضاً، ولا يشهد جنازة، ولا يعود أهله، ولا يفتح باب زيارة ولا غير ذلك.
هكذا المعتكف الذي يريد أن يكتب له أجر هذا الاعتكاف، ويقتدي في ذلك بسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فإنه صلى الله عليه وسلم ما ترك الاعتكاف في سنة من السنوات إلا سنة واحدة في رمضان لما دخل معتكفه اعتكف معه بعض نسائه، وضربت كل واحدة منهن قبة، فلما رأى الأقبية في المسجد أنكر ذلك، وعرف أن هذا منافسة. فعند ذلك ترك الاعتكاف تلك السنة واعتكف في شوال، وكان في الغالب يعتكف في العشر الأواخر من رمضان. واعتكف مرة أو مرتين في العشر الأوسط.
والاعتكاف -كما سبق- كان للاستكثار من الطاعة، ولطلب أن يحظى العبد بالمغفرة، والمغفرة لها أسباب، ومن أسبابها في رمضان: الصيام إيماناً واحتساباً. وقيام رمضان إيماناً واحتساباً. وكذلك قيام ليلة القدر إيماناً واحتساباً. فيحرص العبد على أن يحظى بسبب من أسباب مغفرة الذنوب التي اقترفها فيما مضى من عمره.
ـــــــــ
الاعتكاف,سنة الاعتكاف,تعريف الاعتكاف,شروط الاعتكاف