من حيل العلماء في طلب العلم
بقلم فضيلة الشيخ :- محمود شمردن
ذكر الإمام السيوطي في كتابه الأشباه والنظائر في قواعد وفروع الشافعية :
أن الإمام أبا طاهر الدباس إمام الحنفية بما وراء النهر ردَّ مذهب أبي حنيفة إلى سبع عشرة قاعدة ,وهذا يُعد إنجازاً عظيماً في باب العلم فهر يُيسر على العلماء وطلبتهم حفظ المذهب وإتقانه والإلمام به ,فلو فرضنا أن عالماً في الرياضيات استطاع وضع هذا العلم في ثلاثة قوانين لقامت الدنيا ولم تقعد وتحدث القريب والبعيد بهذا الإنجاز الرائع الذي لم يسبق إليه أحد قبل ذلك ولكُرِم هذا العالِم وربما حصل على جائزة نوبل في العلوم واستضافته الجامعات في جميع أنحاء العالم ولمنحته العديد منها الدكتوراة الفخرية تقديراً لجهوده في خدمة العلم وتيسيره ولنال التقدير من الدولة التي ينتمي إليها,وصار مقصد وسائل الإعلام في كل مكان ولأصبح بيته محط أنظار الدنيا كلها فالفضائيات لا تتركه ينام لا في الليل ولا في النهار,ولقام الكُتاب بوضع كتاب عن تاريخ حياته ومشواره في تحصيل العلم وما هي الصعوبات التي واجهته ولكنه استطاع التغلب عليها والوصول إلى تحقيق ما يريد ,ولفتحت الدنيا أبوابها إليه فالجامعات المتقدمة لن تتركه وستعرض عليه التدريس فيها وفق الشروط التي يضعها والمرتب الذي يطلبه لأنهم يعرفون قدر الفائدة التي أحدثها في عالم العلوم والمعارف.وهكذا وفق الله تعالى هذا الإمام لهذا العمل الطيب والجليل ,ثم أن أبا سعيد الهروي سمع بما صنعه الإمام أبو الدباس حيال المذهب الحنفي فسافر إليه.
وكان أبو طاهر ضريراً ,وكان يكرر كل ليلة تلك القواعد بمسجده بعد أن يخرج الناس منه , والغرض من ذلك حتى تختمر القاعدة في ذهنه فهو قد يؤخر أو يقدم أو يضيف أو ينقص من كلمات القاعدة وربما فُتح عليه بالجديد لأنه ربما تسرَّع في صوغ القاعدة والتكرار يجعله يقف مع كل كلمة هل هذا مكانها أم أن الأفضل الاستغناء عنها والاستعاضة بكلمة غيرها وهكذا,واحتال أبو سعيد الهروي أن يقف على هذه القواعد وفكر في وسيلة تحقق له غرضه وأخذ يفكر ويفكر ويقلب النظر مرة بعد مرة لعله يُهدى إلى طريقة نافعة تنجز المراد ,وبعد أخذ ورد مع نفسه وجد الوسيلة أتدري ما هي ؟ هل ذهب إليه مباشرة ؟هل وسط أحداً ليشفع له عند الإمام ؟هل عرض عليه الحصول على هذه القواعد بالمال الذي يريده؟ولكنه هدي إلى شيء عجيب وغريب ,فماذا صنع؟
لقد صلى أبو سعيد الهروي العشاء مع المصلين ,ولما انصرف الحاضرون أخذ أبو سعيد الهروي حصيراً ولف نفسه فيه دون أن يشعر به الإمام أبو طاهر الدباس ليستمع للقواعد من فم هذا العالم الجليل ,وبعد أن اطمأن الشيخ أن المسجد خال من الناس أخذ يذكر القواعد قاعدة قاعدة ويرفع صوته بها ويعيدها مرة بعد أخرى واستمر على ذلك الحال حدث ما لم يكن في الحسبان أتدري ما هو؟لقد أصاب أبا سعيد الهروي سعلة-وهي ما يعرف عندنا في مصر بالكُحة- وارتفع الصوت وهنا صعق الإمام الذي كان يظن أنه بمفرده في المسجد فانتقل الإمام إلى صاحب الصوت وأخذ يضربه وأخرجه من المسجد ولكن بعد أن حفظ الهروي سبعاً من تلك القواعد ,وانطلق الهروي فرحا مسروراً إلى أصحابه وتلا عليهم تلك السبع.فلما بلغ ذلك القاضي حسين بن محمد ردَّ مذهب الشافعي إلى أربع قواعد.
ولنا في هذه القصة وقفات تربوية نستفيد منها جميعا ومن ذلك :
1-سبق علماء المسلمين إلى تيسير العلوم وأن غرضهم كان وجه الله تبارك وتعالى وليس مقصد آخر.
2- حب العلماء الشديد للعلم وبذلهم الجهد والعرق في سبيل تحصيله.
3-كانت المساجد المكان الذي يجد العالم فيه راحته وسكينته لأنها بيوت الرحمة والمغفرة.
4-أصحاب النفوس العالية لا يرضون بالدون والجلوس بين النساء والمال وترك فضائل ,فهذا العالم أبو طاهر الدباس لم يركن لحاله ويترك طلب العلم بحجة ذهاب بصره ,فأين هذا من الذي متعهم الله تعالى بالصحة والعافية ولا يستخدمونها فيما يعود عليهم بالخير بالنفع في الدنيا والآخرة.
لعل في هذه القصة ما يدفع شبابنا إلى سلوك سبيل العلم ليسعدوا في حياتهم .
فإلى العلم أيها الشباب لتخدموا أمتكم وترفعوا شأنها في كل مكان.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العلمين.