الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد...
بر العلماء بأمهاتهم وآبائهم العلماء ورثة الأنبياء، ورثوا العلم والنور والسمت والهدي الكريم، امتثلوا أمر الله عز وجل: وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا [سورة الإسراء: 23]. وتأسوا بحديث النبي فقد قال: عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما سألت النبي : "أي العمل أحب إلى الله؟"، قال: {الصلاة في وقتها}، قلت: "ثم أي؟"، قال: {بر الوالدين}. قلت: "ثم أي؟"، قال: {الجهاد في سبيل الله} [رواه البخاري ومسلم].
ولأهمية بر الوالدين وقد تفلت من أيدي الناس ووصل الأمر إلى اشد أنواع العقوق، لعل في ذكر بعض أحوال أهل العلم مع آبائهم وأمهاتهم ما تقربه العين وتفرح به النفس تأسياً وقدوة ومنهجاً وأسوة مع أنهم من أكثر الناس انشغالاً، ولديهم من الهموم للناس والأمة الكثير.
الشيخ العلامة حمود بن عبد الله التويجري - رحمه الله – مع مكانته العلمية والاجتماعية كان باراً بوالدته براً عجيباً وكان يتفقد أمورها ويتابع أحوالها، ولم يسمح لأحد أن يقوم بمهام والدته عنه مع وجود الأبناء والأحفاد بقربها، وكان ينهض بنفسه لقضاء حوائجها وغسل ثيابها براً وإحساناً إليها حتى توفيت، رحمهما الله جميعاً.
والشيخ العلامة عبد الرحمن بن ناصر البراك –حفظه الله- له نصيب وافر من بر والدته مع علو مكانته وسعة علمه وكثرة قاصدي درسه، ولقد لفت أنظار احد طلبة العلم أن الشيخ إذا جلس معهم فترة وطال المجلس يقوم لدقائق، فظن للوهلة الأولى حاجة كبار السن إلى الوضوء فإذا بالأمر غير ذلك، إذا بالشيخ يذهب ليلقي نظرة على والدته في وسط الدار ويسأل عن حالها هل تريد شيئا، ثم يتحدث معها ويؤانسها قليلاً و يعود لمجلسة!!
والشيخ - حفظة الله - لا يسافر لحج أو غيره إلا إذا استأذنها فإن أذنت وإلا عدل عن السفر وقد حصل ذلك مراراً حيث رغبت أن يبقى بجوارها ولا يسافر للحج (تطوعاً) فوافق، أما إذا أراد أن يذهب للمسجد فإنه يعلمها بذلك!!
وعرف عن الشيخ – حفظه الله – أنه يسعى ليقضي ما يستطيع من خدمتها ليلاً ونهاراً - مع أنه كفيف البصر – قد تقدم به العمر – ولا أدل من ذلك أنه ينام بجوارها.
وأذكر أن الوالد – رحمه الله – كان يذهب يومياً من الرياض إلى مزرعة الجد عبر طريق رملي غير معبد يستغرق المسير فيه ما يقارب من الساعة والنصف بالسيارة، يذهب يومياً ليقوم بإعطاءه ابره عن المرض الذي ألم بالجد – رحمه الله - ثم يعود إلى الرياض ليكون حصيلة الذهاب والإياب ثلاث ساعات يومياً، واستمر على ذلك فترة طويلة يقوم بدور الممرض لوالده رحمهما الله.
أما حال السلف الصالح فأمر عجب، قيل لعلي بن الحسين بن علي – رضي الله عنهم - وهو من هو في علو الشرف ورفعة الكعب، قيل له: "أنت من أبر الناس، ولا نراك تؤاكل أمك؟"، فقال: "أخاف أن تسبق يدي إلى ما قد سبقت إليه عينها فأكون قد عققتها".
وكان حيوه بن شريح وهو أحد أئمة المسلمين يقعد في حلقته يُعلم الناس، فتقول له أمه: "قم يا حيوه فألق الشعير للدجاج، فيقوم ويترك التعليم".
وما أجمل الفقه في الدين يرتقي بالمرء إلى مراتب عظيمة فلا يقدم أمراً على آخر.
قال هشام بن حسان: "قلت للحسن إني أتعلم القرآن، وإن أمي تنتظرني بالعشاء"، قال الحسن: "تعش العشاء مع أمك تقربها عينها، أحب إلى من حجة تحجها تطوعاً".
ولعظم ما أعد الله عز وجل من الأجور لمن قام بحق والديه وبر بهما؛ بكى الحارث العكلي في جنازة أمه فقيل له: "تبكي؟"، قال: "ولِمَ لا أبكي وقد أغلق عني باب من أبواب الجنة"!!
وقال بعض العلماء: "من تغرب عن الوالدين في طلب عيش أو في ضرورة فليدمع وليسأل الله عز وجل وعلا أن يغفر ذنباً حرمه القرب من الوالدين".
وتأمل في أمر البر لديهم..
كان ابن محيريز يقول: "من مشى بين يدي أبيه فقد عقه، إلا أن يمشي فيميط له الأذى عن طريقه، ومن دعا أباه باسمه أو بكُنيته فقد عقه، إلا أن يقول يا أبه".
وما أعظم الإسلام ديناً ومنهجاً ولاًء وبراًء.. دين الرحمة وأداء الحقوق.. حث على البر بالوالدين ومصاحبتهما في الدنيا معروفاً حتى وإن كانوا كفاراً!!
قال أبو بكر الجصاص في (أحكام القرآن): "قال أصحابنا في المسلم يموت أبواه وهما كافران إنه يغسلهما ويتبعهما ويدفنهما، لأن ذلك من الصحبة بالمعروف الني أمر الله بها".
اللهم إنا نسألك البر بآبائنا وأمهاتنا ونسألك اللهم أن تتجاوز عن تقصيرنا في حقهما إنك جواد كريم.