((ذكر استيلاء التتر على مازندران )) :
لما أيس التتر من إدراك خوارزمشاه عادوا فقصدوا بلاد مازندران ، فملكوها في أسرع وقت مع حصانتها و صعوبة الدخول إليها و امتناع قلاعها ، فإنها لم تزل ممتنعة قديم الزمان و حديثه ، ولما ملكوا بلد مازندران قتلوا وسبوا ونهبوا و أحرقوا البلاد ، ولما فرغوا من مازندران سلكوا نحو الري فرأوا في الطريق والدة خوارزمشاه ونساءه و أموالهم و ذخائرهم التي لم يسمع بمثلها من الأعلاق النفيسة ، فأخذوها وما معها قبل وصولها إلى الري ، فكان فيه ما ملأ عيونهم وقلوبهم ، وما لم يشاهد الناس مثله من كل غريب من المتاع و نفيس من الجواهر ، وغير ذلك ، وسيروا الجميع إلى جنكز خان بسمرقند .
(( ذكر وصول التتر إلى الري وهمذان )) :
في سنة سبع عشرة وستمائة وصل التتر لعنهم الله إلى الري في طلب خوارزمشاه محمد لأنهم بلغهم أنه مضى منهزماً منهم نحو الري فجدوا السير في أثره ، وقد انضاف إليهم كثير من عساكر المسلمين و الكفار ، و كذلك أيضاً من المفسدين من يريد النهب والشر ، فوصلوا إلى الري على حين غفلة من أهلها ، فلم يشعروا إلا وقد وصلوا إليها وملكوها و نهبوها ، وسبوا الحريم ، و استرقوا الأطفال ، وفعلوا الأفعال التي لم يسمع بمثلها ، ولم يقيموا ومضوا مسرعين في طلب خوارزمشاه ، فنهبوا في طريقهم كل مدينة وقرية مروا عليها ، وفعلوا في الجميع أضعاف ما فعلوا في الري ، و أحرقوا وخربوا ووضعوا السيف في الرجال و النساء و الأطفال فلم يبقوا على شيء .
و تموا على حالهم إلى همذان ، فلما قاربوا همذان خرج رئيسها ومعه الحمل من الأموال و الثياب و الدواب وغير ذلك يطلب الأمان لأهل البلد فأمنوهم ، ثم فارقوها وساروا إلى زنجان ففعلوا أضعاف ذلك ، ثم وصلوا إلى قزوين فاعتصم أهلها منهم بمدينتهم فقاتلوهم وجدوا في قتالهم و دخلوها عنوة بالسيف فاقتتلوا هم و أهل البلد حتى صاروا يقتتلون بالسكاكين فقتل من الفريقين ما لا يحصى ، ثم فارقوا قزوين ، فعد القتلى من أهل قزوين فزادوا على أربعين ألف قتيل .
((ذكر وصول التتر إلى أذربيجان )):
لما هجم الشتاء على التتر في همذان وبلد الجبل رأوا برداً شديداً و ثلجاً متراكماً فساروا إلى أذربيجان ففعلوا في طريقهم بالقرى و المدن الصغار من القتل و النهب مثل ما تقدم منهم وخربوا و أحرقوا . وساروايريدون ساحل البحر لأنه يكون قليل البرد ليشتوا عليه و المراعي به كثيرة لأجل دوابهم فوصلوا إلى موفان و تطرفوا في طريقهم إلى بلاد الكرج فجاء إليهم من الكرج جمع كثير من العسكر نحوعشرة آلاف مقاتل فقاتلوهم فانهزمت الكرج وقتل أكثرهم و أدركهم التتر وقد تعب الكرج من القتال ، وقتل منهم أيضاً كثير ، فلم يثبتوا للتر ، و انهزموا أقبح هزيمة وركبهم السيف من كل جانب ، فقتل منهم مالا يحصى كثرة ، وكانت الوقعة في ذي القعدة من هذه النسة ، ونهبوا من البلاد ماكان سلم منهم .
ولقد جرى لهؤلاء التتر مالم يسمع بمثله من قديم الزمان وحديثه ، طائفة تخرج من حدودالصين لا تمضي عليهم سنة حتى يصل بعضهم إلى بلاد أرمينية ، من هذه الناحية و يجاوزون العراق من ناحية همذان ، وتالله لا شك أن من يجيء بعدنا إذا بعد العهد ويرى هذه الحادثة مسطورة ينكرها ويستبعدها ، و الحق بيده، فمتى استبعد ذلك فلينظر أنا سطرنا نحن وكل من جمع التاريخ في أزماننا هذه في وقت كل من فيه يعلم هذه الحادثة استوى في معرفتها العالم والجاهل لشهرتها- يسر الله للمسلمين والإسلام من يحفظهم و يحوطهم - فلقد دفعوا من العدو إلى عظيم ، ومن الملوك المسلمين إلى من لا تتعدى همته بطنه و فرجه ، ولم ينل المسلمين أذى وشدة مذ جاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا الوقت مثل ما دفعوا إليه الآن ، هذا العدو الكافر التتر قد وطئوا بلاد ماوراء النهر وملكوها وخربوها و ناهيك به سعة بلاد ، وتعدت طائفة منهم النهر إلى خراسان فملكوها وفعلوا مثل ذلك ثم إلى الري وبلد الجبل و أذربيجان ، وقد اتصلوا بالكرج فغلبوهم على بلادهم و العدو الآخر الفرنج قد ظهر من بلادهم في أقصى بلاد الروم بين الغرب و الشمال ووصلوا إلى مصر فملكوا مثل دمياط و أقاموا فيها ولم يقدر المسلمون على إزعاجهم عنها ولا إخراجهم منها وباقي ديار مصر على خطر فإنا لله و إنا إليه راجعون ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .
ومن أعظم الأمور على المسلمين أن سلطانهم خوارزمشاه محمداً قد عدم لا يعرف حقيقة خبره ، فتارة يقال مات عند همذان و أخفي موته ، و تارة دخل أطراف بلاد فارس ومات هناك و أخفي موته لئلا يقصدها التتر في أثره ، و تارة يقال عاد إلى طبرستان و ركب البحر فتوفي في جزيرة هناك ، وبالجملة فقد عدم ثم صح موته ببحر طبرستان ، وهذا عظيم ، مثل خراسان و عراق العجم أصبح سائباً لا مانع له ولا سلطان يدفع عنه والعدو يجوس البلاد يأخذ ما أراد ، ويترك ما أراد ، على أنهم لم يبقوا على مدينة إلا خربوها وكل ما مروا عليه نهبوه وما لا يصلح أحرقوه ، فكانوا يجمعون الإبريسم تلالاً و يلقون فيه النار و كذلك غيره من الأمتعة .
(( ذكر ملك التتر مراغة )):
فلما دخلت سنة ثمان عشرة و ستمائة ساروا من ناحية الكرج لأنهم رأوا أن بين أيديهم شوكة قوية ومضايقة تحتاج إلى قتال و صداع فعدلوا عنهم ، وهذه كانت عادتهم إذا قصدوا مدينة ورأوا عندها امتناعاً عدلوا عنها ، فوصولوا إلى تبريز وصانعهم صاحبها بمال وثياب و دواب فساروا عنه إلى مدينة مراغة فحصروها وليس بها صاحب يمنعها ، فلما حصروها قاتلهم أهلها فنصبوا عليها المجانيق وزحفوا إليها ، وكانت عادتهم إذا قاتلوا مدينة قدموا من معهم من أسارى المسلمين بين أيديهم يزحفون و يقاتلون ، فإن عادوا قتلوا فكانوا يقتلون كرهاً ، وهم المساكين ، وكانوا هم يقاتلون وراء المسلمين فيكون القتل في المسلمين الأسارى وهم بنجوة منه ، فأقاموا عليها عدة أيام ، ثم ملكوا المدينة عنوة وقهراً رابع صفر ، و وضعوا السيف في أهلها فقتل منهم ما يخرج عن الحد والإحصاء ،ونهبوا كل ما صلح لهم ومالا يصلح لهم ، و أحرقوه ، و اختفى بعض الناس منهم فكانوا يأخذون الأسارى و يقولون لهم نادوا في الدروب أن التتر قد رحلوا فإذا نادى أولئك خرج من اختفى فيؤخذ و يقتل ، ثم رحلوا عنها نحو مدينة إربل .
(( ذكر ملك التتر همذان وقتل أهلها )):
عاد التتر إلى همذان فنزلوا بالقرب منها ، وكان لهم بها رئيس يحكم فيها فأرسلوا إليه يأمرونه ليطلب من أهلها مالاً وثياباً ، وكانوا قداستنفذوا أموالهم في طول المدة ، و أشار فقيه البلد بإخراج رئيس التتر من البلد و الامتناع فيه ومقاتلة التتر ، فوثب العامة على الرئيس فقتلوه و امتنعوا في البلد ، فتقدم التتر إليهم وحصروهم ، وكانت الأقوات متعذرة في تلك البلاد جميعها لخرابها وقلت أهلها وجلاء من سلم منهم فلا يقدر أحد على الطعام إلا قليلاً ، و أما التتر فلا يبالون لعدم الأقوات لأنهم لا يأكلون إلا اللحم و لا تأكل دوابهم إلا نبات الأرض ، حتى إنها تحفر بحوافرها الأرض عن عروق النبات فتأكلها ، فلما حصروا همذان قاتلهم أهلها و الرئيس و الفقيه في أوائلهم فقتل من التتر خلق كثير و جرح الفقيه عدة جراحات و افترقوا ، ثم خرجوا من الغد فاقتتلوا أشد من القتال الأول وقتل أيضاً من التتر أكثر من اليوم الأول و جرح الفقيه أيضاً عدة جراحات و هو صابر ، و أرادوا أيضاً الخروج في اليوم الثالث فلم يطق الفقيه الركوب و طلب الناس الرئيس فلم يجدوه كان قد هرب و اجتمعت كلمتهم على القتال إلى أن يموتوا فأقاموا في البلد ولم يخرجوا منه ، و كان التتر قد عزموا على الرحيل لكثرة من قتل منهم ، فلما لم يروا أحداً خرج إليهم من البلد طمعوا و استدلوا على ضعف أهله فقصدوهم و قاتلوهم في رجب من سنة ثمان عشرة وستمائة ودخلوا المدينة بالسيف وقاتلهم الناس في الدروب فبطل السلاح للزحمة و اقتتلوا بالسكاكين ، فقتل من الفريقين مالا يحصيه إلا الله تعالى ، وقوي التتر على المسلمين فأفنوهم قتلاً ، ولم يسلم إلا من كان عمل له نفقاً يختفي فيه ، وبقي القتل في المسلمين عدة أيام، ثم ألقوا النار في البلد فأحرقوه و رحلوا عنها إلى مدينة أردويل .
((ذكر مسير التتر إلى أذربيجان )):
رحل التتار إلى مدينة سراو فنهبوها و قتلوا كل من فيها ، ورحلوا منها إلى بيلقان من بلاد أران ، فنهبوا كل ما مروا به من البلاد و القرى ، وخربوا و قتلوا من ظفروا به من أهلها ، فلما وصلوا إلى بيلقان حضروها فاستدعى أهلها منهم رسولاً يقرون معه الصلح ، فأرسلوا إليهم رسولاً من أكابرهم و مقدمهم فقتله أهل البلد ، فزحف التتر إليهم و قاتلوهم ، ثم إنهم ملكوا البلد عنوة في شهر رمضان سنة ثمان عشرة ووضعوا السيف فلم يبقوا على صغير ولا كبير ولا امرأة ، حتى إنهم يشقون بطون الحبالى و يقتلون الأجنة ، وكانوا يفجرون بالمرأة ثم يقتلونها ، و كان الإنسان منهم يدخل الدرب فيه الجماعة فيقتلهم واحداً بعد واحد حتى يفرغ من الجميع لا يمد أحد منهم إليه يداً ، فلما فرغوا منها استقصوا ما حولها من النهب و التخريب ، وساروا إلى مدينة كنجة وهي أم بلاد أران فعلموا بكثرة أهلها وشجاعتهم لكثرة دربتهم بقتال الكرج و حصانتهم فلم يقدموا عليها فأرسلوا إلى أهلها يطلبون منهم المال و الثياب فحملوا إليهم ما طلبوا فساروا عنهم .
(( ذكر وصول التتر إلى بلاد الكرج )):
لما فرغ التتر من بلاد المسلمين بأذربيجان و أران بعضه بالملك و بعضه بالصلح ، وساروا إلى بلاد الكرج من هذه الأعمال أيضاً ، وكان الكرج قد أعدوا لهم و استعدوا وسيروا جيشاً كثيراً إلى طرف بلادهم ليمنعوا التتر عنها ، فوصل إليهم التتر فالتقوا فلم يثبت الكرج بل ولوا منهزمين ، فأخذهم السيف فلم يسلم منهم إلا الشريد ، ولقد بلغني أنهم قتل منهم نحو ثلاثين ألفاً ، و نهبوا ما وصلوا إليه من بلادهم و خربوها وفعلوا بها ماهو عادتهم ، فلما وصل المنهزمون إلى تفليس وبها ملكهم جمع جموعاً أخرى وسيرهم إلى التتر أيضاً ليمنعوهم من توسط بلادهم فرأوا التتر وقد دخلوا البلاد لم يمنعهم جبل ولا مضيق ولا غير ذلك ، فلما رأوا فعلهم عادوا إلى تفليس فأخلوا البلاد، ففعل التتر فيها ما أرادوا من النهب و القتل و التخريب ، ورأوا بلاداً كثيرة المضايق فلم يتجاسروا على الوغول فيها فعادوا عنها ، وداخل الكرج منهم خوف عظيم حتى سمعت عن بعض أكابر الكرج وكان قدم رسولاً أنه قال : من حدّثكم أن التتر انهزموا و أسروا فلا تصدقوه ، و إذا حدثتم أنهم قتلوا فصدقوا ، فإن القوم لا يفرون أبداً ، ولقد أخذنا أسيراً منهم فألقى نفسه من الدابة و ضرب نفسه بالحجر إلى أن مات ولم يسلم نفسه للأسر .
(( ذكر وصولهم إلى دربندشروان وما فعلوه )):
لما عاد التتر من بلد الكرج قصدوا دربندشروان ، فحصروا مدينة شماخي وقاتلوا أهلها فصبروا على الحصر ، ثم إن التتر صعدوا سورها بالسلاليم وقيل بل جمعوا كثيراً من الجمال و البقر و الغنم و غير ذلك ومن قتلى الناس منهم وممن قتل من غيرهم و ألقوا بعضه فوق بعض ، فصار مثل التل ، وصعدوا عليه فأشرفوا على المدينة وقاتلوا أهلها فصبروا ، واشتد القتال ثلاثة أيام فأشرفوا على أن يؤخذوا فقالوا : السيف لا بد منه ، فالصبر أولى بنا نموت كراماً ، فصبروا تلك الليلة فأنتنت تلك الجيف و انهضمت ، فلم يبقى للتتر على السور استعلاء ولا تسلط على الحرب ، فعادوا الزحف وملازمة القتال فضجر أهلها ومسهم التعب و الكلال و الإعياء فضعفوا ، فملك التتر البلد وقتلوا فيه كثيراً ونهبوا الأموال و استباحوها .
(( ذكر ما فعلوه باللان و قفجاق )):
لما عبر التتر دربند شروان ساروا في تلك الأعمال ، و فيها أمم كثيرة منهم اللان و اللكز و طوائف من الترك ، فنهبوه و قتلوا من اللكز كثيراً ، وهم مسلمون و كفار ، و أوقعوا بمن عداهم من أهل تلك البلاد ، و وصلوا إلى اللان و هم أمم كثيرة ، وقد بلغهم خبرهم فجدوا و جمعوا عندهم جمعاً من قفجاق فقاتلوهم فلم تظفر إحدى الطائفتين بالأخرى ، فأرسل التتر إلى قفجاق يقولون : نحن و أنتم جنس واحد ، وهؤلاء اللان ليسوا منكم حتى تنصروهم ، ولا دينكم مثل دينهم ، ونحن نعاهدكم أننا لا نعترض إليكم ، و نحمل إليكم من الأموال و الثياب ما شئتم و تتركون بيننا وبينهم ، فاستقر الأمر بينهم على مال حملوه و ثياب وغير ذلك ، فحملوا إليهم ما استقروا وفارقهم قفجاق ، فأوقع التتر باللان فقتلوا منهم وأكثروا و نهبوا و سبوا ، وساروا إلى قفجاق وهم آمنون متفرقون لما استقر بينهم من الصلح فلم يسمعوا بهم إلا وقد طرقوهم ودخلوا بلادهم فأوقعوا بهم الأول فالأول ، و أخذوا منهم أضعاف ما حملوا إليهم ، و سمع من كان بعيد الدار من قفاج الخبر ففروا من غير قتال و أبعدوا وبعضهم اعتصم بالغياض و بعضهم بالجبال و بعضهم لحق ببلاد الروس ، و أقام التتر في بلاد قفجاق وهي أرض كثيرة المرعى في الشتاء و الصيف .
((ذكر ما فعله التتر بقفجاق و الروس )):
لما استولى التتر على أرض قفجاق سار طائفة كثيرة منهم إلى بلاد الروس وهي بلاد كثيرة طويلة عريضة تجاورهم ، وأهلها يدينون بالنصرانية ، فلما وصلوا إليهم اجتمعوا كلهم و اتفقت كلمتهم على قتال التتر إن قصدوهم ، وأقام التتر بأرض قفجاق مدة ، ثم إنهم ساروا سنة عشرين و ستمائة إلى بلاد الروس فسمع الروس و قفجاق خبرهم و كانوا مستعدين لقتالهم فساروا إلى طريق التتر ليلقوهم قبل أن يصلوا بلادهم ليمنعوهم عنها ، فبلغ مسيرهم التتر فعادوا على أعقابهم راجعين ، فطمع الروس و قفجاق فيهم و ظنوا أنهم عادوا خوفاً منهم وعجزاً عن قتالهم فجدوا في اتباعهم ، ولم يزل التتر راجعين و أولئك يقفون أثرهم اثني عشر يوماً ، ثم إن التتر عطفوا على الروس و قفجاق فلم يشعروا بهم إلا وقد لقوهم على غرة منهم لأنهم كانوا قد أمنوا التتر و استشعروا القدرة عليهم فلم يجتمعوا للقتال إلا وقد بلغ التتر منهم مبلغاً عظيماً ، فصبر الطائفتان صبراً لم يسمع بمثله ، ودام القتال بينهم عدة أيام ، ثم إن التتر ظفروا و استظهروا فانهزم قفجاق و الروس هزيمة عظيمة بعد أن أثخن فيهم التتر وكثر القتل في المنهزمين فلم يسلم منهم إلا القليل ، ونهب جميع ما معهم .
(( ذكر عود التتر من بلاد الروس و قفجاق إلى ملكهم )):
لما فعل التتر بالروس ما ذكرناه و نهبوا بلادهم عادوا عنها و قصدوا بلغار أواخر سنة عشرين و ستمائة ، فلما سمع أهل بلغار بقربهم منهم كمنوا لهم في عدة مواضع و خرجوا إليهم فلقوهم و استجروهم إلى أن جاوزوا موضع الكمناء ، فخرجوا عليهم من وراء ظهورهم ، فبقوا في الوسط ، و أخذهم السيف من كل ناحية ، فقتل أكثرهم ، ولم ينج منهم إلا القليل قيل أنهم كانوا نحو أربعة آلاف رجل ، فساروا عائدين إلى ملكهم جنكز خان ، وخلت أرض قفجاق منهم ، فعاد من سلم منهم إلى بلادهم . وكان الطريق منقطعاً مذ دخلها التتر ، فلما فارقوها عادوا إلى بلادهم ،واتصلت الطريق ، و حملت الأمتعة كما كانت.
(( ذكر ما فعله التتر بما وراء النهر بعد بخارا وسمرقند )):
قد ذكرنا ما فعله التتر التي سيرها ملكهم جنكز خان لعنه الله إلى خوارزمشاه ، وأما جنكزخان فإنه بعد أن سير هذه الطائفة إلى خوارزم شاه وبعد انهزام خوارزمشاه من خراسان قسم أصحابه عدة أقسام ، فسير قسماً منها إلى بلاد فرغانه ليملكوها ، وسير قسماً آخر منها إلى ترمذ ، وسير قسماً منها إلى كلابة وهي قلعة حصينة على جانب جيحون من أحصن القلاع و أمنع الحصون ، فسارت كل طائفة إلى الجهة التي أمرت بقصدها و نازلتها و استولت عليها وفعلت من القتل و الأسر و السبي و النهب و التخريب و أنواع الفساد مثل ما فعل أصحابهم ، فلما فرغوا من ذلك عادوا إلى ملكهم جنكز خان وهو بسمرقند فجهز جيشاً عظيماً مع أحد أولاده و سيره إلى خوارزم ، و سير جيشاً آخر فعبروا جيحون إلى خراسان .
(( ذكر ملك التتر خراسان )):
لما سار الجيش المنفذ إلى خراسان عبروا جيحون و قصدوا مدينة بلخ فطلب أهلها الأمان فأمنوهم فسلم البلد سنة سبع عشرة و ستمائة ولم يتعرضوا إليه بنهب ولا قتل ، جعلوا فيه رئيساً وساروا وقصدوا الزوزان و سميند و اندخوى و قاريات فملكوا الجميع و جعلوا فيه ولاة و لم يتعرضوا إلى أهلها بسوء ولا أذى سوى أنهم كانوا يأخذون الرجال ليقاتلوا بهم من يمتنع عليهم ، حتى وصلوا إلى الطالقان وفيها قلعة حصينة يقال لها متصوركوه لاترام علواً وارتفاعاً وبها رجال يقاتلون شجعان فحصروها مدة ستة أشهر يقاتلون أهلها ليلاً و نهاراً ولا يظفرون منها بشيء فأرسلوا إلى جنكز خان يعرفونه عجزهم عن ملك هذه القلعة لكثرة من فيها من المقاتلة ولامتناعها بحصانتها ، فسار بنفسه وبمن عنده من جموعه إليهم وحصرها ،ومعه خلق كثير من المسلمين أسرى ، فأمرهم بمباشرة القتال و إلا قتلهم فقاتلوا معه ، و أقام عليها أربعة أشهر أخرى فقتل من التتر عليها خلق كثير ، فلما رأى ملكهم ذلك أمر أن يجمع له من الحطب و الأخشاب ما أمكن جمعه ، ففعلوا ذلك ، وصاروا يعملون صفاً من خشب وفوقه صفاً من تراب ، فلم يزالوا كذلك حتى صار تلاً عالياً يوازي القلعه فاجتمع من بها ، وفتحوا بابها ، وخرجوا منها ، وحملوا حملة رجل واحد فسلم الخيالة منهم و نجوا و سلكوا تلك الجبال و الشعاب ، و أما الرجالة فقتلوا ، و دخل التتر القلعة وسبوا النساء و الأطفال ، ونهبوا الأموال و الأمتعة ، ثم إن جنكزخان جمع أهل البلاد التي أعطاهم الأمان ببلخ وغيرها و سيرهم مع بعض أولاده إلى مدينة مرو فدخلواإليها ، وقد اجتمع بها من الأعراب و الأتراك و غيرهم ممن نجا من المسلمين ما يزيد عن مائتي ألف رجل ، وهم معسكرون بظاهر مرو ، وهم عازمون على لقاء التتر ، ويحدثون نفوسهم بالغلبة و الاستيلاء عليهم ، فلما وصل التتر إليهم التقوا و اقتتلوا فصبر المسلمون ، فلما رأى المسلمون صبر التتر و إقدامهم ولوا منهزمين ، فقتل التتر منهم و أسروا الكثير و لم يسلم إلا القليل ، ونهبت أموالهم و سلاحهم و دوابهم ، و أرسل التتر إلى ما حولهم من البلاد يجمعون الرجال لحصار مرو ، فلما اجتمع لهم ما أرادوا تقدموا إلى مرو و حصروها و جدوا في حصرها ولازموا القتال ، و كان أهل البلد قد ضعفوا بانهزام ذلك العسكر و كثرة القتل و الأسر فيهم ، فلما كان اليوم الخامس من نزولهم أرسل التتر إلى الأمير الذي بها متقدماً على من فيها يقولون له : لا تهلك نفسك و أهل البلد و اخرج إلينا فنحن نجعلك أمير هذه البلدة و نرحل عنك ، فأرسل يطلب الأمان لنفسه و لأهل بلده فأمنهم ، فخرج إليهم فخلع عليه ابن جنكزخان و احترمه ، وقال له : أريد أن تعرض عليّ أصحابك حتى ننظر من يصلح لخدمتنا استخدمناه و أعطيناه أقطاعاً و يكون معنا ، فلما حضروا عنده و تمكن منهم قبض عليهم وعلى أميرهم وكتفوهم، فلما فرغ منهم قال لهم : اكتبواإلي تجار البلد ورؤسائه و أرباب الأموال في جريدة و اكتبوا إلي أرباب الصناعات والحرف في نسخة أخرى ، و اعرضوا ذلك علينا ، ففعلوا ما أمرهم ، فلما وقف على النسخ أمر أن يخرج أهل البلد منه بأهلهم ، فخرجوا كلهم ولم يبق فيه أحد ، فجلس على كرسي من ذهب ، و أمر أن يحضر أولئك الأجناد الذين قبض عليهم ، فأحضروا و ضربت رقابهم صبراً و الناس ينظرون و يبكون ،و أخذوا أرباب الأموال فضربوهم و عذبوهم بأنواع العقوبات في طلب الأموال فربما ما ت أحدهم من شدة الضرب ، ولم يكن بقي له ما يفتدي به نفسه ، ثم إنهم أحرقوا البلد ، فبقوا كذلك ثلاثة أيام ، فلما كان اليوم الرابع أمر بقتل أهل البلد كافة ، وقال : هؤلاء عصوا علينا فقتلوهم أجمعين ، و أمر بإحصاء القتلى فكانوا نحو سبعمائة ألف قتيل ، فإنا لله و إنا إليه راجعون مما جرى على المسلمين ذلك اليوم .
ثم ساروا إلى نيسابور فحصروها خمسة أيام ، وبها جمع صالح من العسكر الإسلاميّ فلم يكن لهم بالتتر قوة ، فملكوا المدينة و أخرجوا أهلها إلى الصحراء ، فقتلوهم و سبوا حريمهم ، وعاقبوا من اتهموه بمال كما فعلوا بمرو ، و أقاموا خمسة عشر يوماً يخربون و يفتشون المنازل عن الأموال ، وكانوا لما قتلوا أهل مرو وقيل لهم إن قتلاهم سلم منهم كثير ، ونجوا إلى بلاد الإسلام ، فأمروا بأهل نيسابور أن تقطع رؤوسهم لئلا يسلم من القتل أحد ، فلما فرغوا من ذلك سيروا طائفة منهم إلى طوس ففعلوا بها كذلك أيضاً ، و خربوها حتى جعلوا الجميع خراباً ، ثم ساروا إلى هراة ، وهي من أحصن البلاد ، فحصروها عشرة أيام ، فملكوها و أمنوا أهلها و قتلوا منها البعض و جعلوا عند من سلم منهم رئيساً ، وساروا إلى غزنة فلقيهم جلال الدين بن خوارزم شاه فقاتلهم وهزمهم ، فوثب أهل هراة على الرئيس فقتلوه ، فلما عاد المهزومون عليهم دخلوا البلد قهراً و عنوة وقتلوا كل من فيه ونهبوا الأموال ، وسبوا الحريم ، و نهبوا السواد ، وخربوا المدينة جميعها و أحرقوها ، وعادوا إلى ملكهم جنكزخان وهو بالطالقان يرسل السرايا إلى جميع بلاد خراسان ، ففعلوا بها كذلك ، ولم يسلم من شرهم وفسادهم شيء من البلاد ، وكان جميع ما فعلوه بخراسان سنة سبع عشرة .
(( ذكر ملكهم خوارزم و تخريبها )):
و أما الطائفة من الجيش التي سيرها جنكزخان إلى خوارزم فإنها كانت أكثر السرايا جميعها لعظم البلاد ، فساروا حتى وصلوا إلى خوارزم ، وفيها عسكر كبير و أهل البلد معروفون بالشجاعة و الكثرة ، فقاتلوهم أشد قتال سمع به الناس ، و دام الحصر لهم خمسة أشهر ، فقتل من الفريقين خلق كثير إلا أن القتلى من التتر كانوا أكثر ، لأن المسلمين كان يحميهم السور ، فأرسل التتر إلى ملكهم جنكزخان يطلبون المدد فأمدهم بخلق كثير ، فلما وصلوا إلى البلد زحفوا زحفاً متتابعاً فملكوا طرفاً منه ، فاجتمع أهل البلد و قاتلوهم في طرف الموضع الذي ملكوا فلم يقدروا على إخراجهم و لم يزالوا يقاتلونهم و التتر يملكون منهم محلة بعد محلة ، كلما ملكوا محلة قاتلهم المسلمون في المحلة التي تليهم، فكان الرجال و النساء و الصبيان يقاتلون ، فلم يزالوا كذلك حتى ملكوا البلد جميعه ، وقتلوا كل من فيه ، ونهبواكل ما فيه ، ثم إنهم فتحوا السد الذي يمنع ماء جيحون عن البلد فدخله الماء فغرق البلد جميعه ، و تهدمت الأبنية ، وبقي موضعه ماء و لم يسلم من أهله أحد البتة ، فإن غيره من البلاد قد كان يسلم بعض أهله ، منهم من يختفي ، ومنهم من يهرب ، ومنهم من يخرج ثم يسلم ، و منهم من يلقي نفسه بين القتلى فينجو ، و أما أهل خوارزم فمن اختفى من التتر غرقه الماء أو قتله الهدم فأصبحت خراباً بياباً :
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا...أنيس ولم يسمر بمكة سامر
فلما فرغوا من خراسان وخوارزم عادوا إلى ملكهم بالطالقان.
(( ذكر ملك التتر غزنة وبلاد الغور )):
لما فرغ التتر من خراسان و خوارزم و عادوا إلى ملكهم سير جيشاً كثيفاً إلى غزنة و بها جلال الدين بن خوارزمشاه مالكاً لها ، وقد اجتمع إليه من سلم من عسكر ابيه قيل وكان ستين ألفاً ، فلما وصلوا إلى أعمال غزنة خرج إليهم المسلمون مع ابن خورزمشاه إلى موضع يقال له بلق ، فالتقوا هناك و اقتتلوا قتالاً شديداً و بقوا كذلك ثلاثة أيام ، ثم أنزل الله نصره على المسلمين فانهزم التتر ، وقتلهم المسلمون كيف شاؤا ، و من سلم منهم عاد إلى ملكهم بالطالقان ، فلما سمع أهل هراة بذلك ثاروا بالوالي الذي عندهم للتتر فقتلوه ، فسير إليهم جنكز خان عسكراً فملكوا البلد و خربوه ، فلما انهزم التتر أرسل جلال الدين رسولاً إلى جنكزخان يقول له : في أي موضع تريد يكون الحرب حتى نأتي إليه ، فجهز جنكزخان عسكراً كثيراً أكثر من الأول مع بعض أولاده و سيره إليه فوصل إلى كابل فتوجه العسكر الإسلاميّ إليهم و تصافوا هناك و جرى بينهم قتال عظيم ، فانهزم الكفار ثانياً فقتل كثير منهم ، و غنم المسلمون مامعهم ، و كان عظيماً ، و كان معهم من أسارى المسلمين خلق كثير فاستنقذوهم ، ثم إن المسلمين جرى بينهم فتنة لأجل الغنيمة ، و سبب ذلك أن أميراً منهم يقال له سيف الدين بغراق كان شجاعاً و اصطلى الحرب مع التتر بنفسه وقال لعسكر جلال الدين : تأخروا أنتم فقد ملئتم منهم رعباً ، وهو الذي كسر التتر على الحقيقة ، وكان من المسلمين أيضاً أمير كبير يقال له ملك خان، فاختلف هذان الأميران في الغنيمة ، فاقتتلوا فقتل بينهم أخ لبغراق فقال بغراق : أنا أهزم الكفار و يقتل أخي لأجل هذا السحت ، فغضب وفارق العسكر وسار إلى الهند ، فتبعه من العسكر ثلاثون ألفاً كلهم يريدونه ، فاستعطفه جلال الدين بكل طريق وسار بنفسه إليه ، وذكره الجهاد وخوفه من الله تعالى ، و بكى بين يديه ، فلم يرجع وسار مفارقاً ،فانكسر لذلك المسلمون و ضعفوا ، فبينما هم كذلك إذ ورد الخبر أن جنكزخان قد وصل في جموعه و جيوشه ، فلما رأى جلال الدين صعف المسلمين لأجل من فارقهم من العسكر ولم يقدر على المقام سار نحو بلاد الهند فوصل إلى ماء السند وهو نهر كبير فلم يجد من السفن ما يعبر فيه ، وكان جنكزخان يقص أثره مسرعاً فلم يتمكن جلال الدين من العبور حتى أدركه جنكزخان في التتر ، فاضطر المسلمون حينئذ إلى القتال و الصبر لتعذر العبور عليهم ، فتصافوا و اقتتلوا أشد قتال ، اعترفوا كلهم أن كل ما مضى من الحروب كان لعباً بالنسبة إلى هذا القتال ، فبقوا كذلك ثلاثة أيام ، فقتل الأمير ملك خان و خلق كثير ، و كان القتل في الكفار أكثر و الجراح أعظم فرجع الكفار عنهم فأبعدوا و نزلوا ، فلما رأى المسلمون أنهم لا مدد لهم وقد ازدادوا ضعفاً بمن قتل منهم وجرح ولم يعلموا بما أصاب الكفار من ذلك فأرسلوا يطلبون السفن فوصلت و عبر المسلمون ، فلما كان الغد عادالكفار إلى غزنة وقد قويت نفوسهم بعبور المسلمين الماء إلى جهة الهند وبعدهم ، فلما وصلوا إليها ملكوها لوقتها لخلوها من العساكر و المحامي فقتلوا أهلها،ونهبوا الأموال ، وسبوا الحريم ولم يبق أحد ، وخربوها و أحرقوها ، وفعلوا بسوادها كذلك و نهبوا وقتلوا و أحرقوا ، فأصبحت تلك الأعمال جميعها خالية من الأنيس خاوية على عروشها كأن لم تغن بالأمس .