قصة مشهورة على الألسن وفي الكتب والقصص و في الخطب والمحاضرات و بين العامةوالخاصة وقد تجد من طلبة العلم من يستشهد بها ، ألا وهي : ( قصة هجرة عمر بن الخطابرضي الله عنه جهراً إلى المدينة النبوية.
أخرج ابن عساكر في تاريخه(44/51-52) وابن السمان في الموافقة ، انظر : شرح المواهب (1/319) و سيرة الصالحي (3/315) وابن الأثير في أسد الغابة (4/152) ، عن علي رضي الله عنه أنه قال : ( ماعلمت أن أحداً من المهاجرين هاجر إلا مختفياً ، إلا عمر بن الخطاب ، فإنه لم همبالهجرة تقلد سيفه و تنكب قوسه وانتضى في يده أسهماً واختصر عَنزته ، ومضى قبلالكعبة ، والملأ من قريش بفنائها ، فطاف بالبيت سبعاً متمكناً ، ثم أتى المقام فصلىمتمكناً ، ثم وقف على الحلق واحدة واحدة وقال لهم : شاهت الوجوه ، لا يرغم الله إلاهذه المعاطس – الأنوف – ، من أراد أن تثكله أمه و يوتم ولده و يرمل زوجته ، فليلقنيوراء هذا الوادي ، قال علي : فما تبعه أحد إلا قوم من المستضعفين ، علمهم وأرشدهمومضى لوجهه ) . قلت : هذه الرواية مع مخالفتها لما هو أثبت منها – و سيأتي - ، فهيلا تسلم من الكلام على سندها ، إذا يكفي لإسقاطها وجود راو مجهول فيها ، فكيف وفيها ثلاثة مجاهيل ؟! قال الشيخ الألباني – رحمه الله – في رده على البوطي في سيرته : ( جزمه بأن عمر رضي الله عنه هاجر علانية اعتماداً منه على رواية علي المذكورة ،و جزمه بأن علياً رواها ليس صواباً ؛ لأن السند بها لا يصح و صاحب أسد الغابة لميجزم أولاً بنسبتها إليه رضي الله عنه ، و هو ثانياً قد ساق إسناده بذلك إليه لتبرأذمته ، و لينظر فيه من كان من أهل العلم ، و قد وجدت مداره على الزبير بن محمد بنخالد العثماني : حدثنا عبد الله بن القاسم الأملي ( كذا الأصل ولعله الأيلي ) عنأبيه ، بإسناده إلى علي ، و هؤلاء الثلاثة في عداد المجهولين فإن أحداً من أهلالجرح والتعديل لم يذكرهم مطلقاً .. ) دفاع عن الحديث النبوي والسيرة ( ص 42- 43) . قلت : و نحن لا ننكر شجاعة عمر و هيبته رضي الله عنه ، و قد قال النبي صلى اللهعليه وسلم كما في الصحيح : ( ما سلك عمر فجاً إلا وسلك الشيطان فجاً غيره ) ، و لكنالعبرة بما صح و حسن سنده . و القصة الصحيحة في ذكر هجرته رضي الله عنه ما رواه ابنإسحاق قال حدثني نافع مولى عبد الله بن عمر عن عبدا لله عن أبيه عمر رضي الله عنهماقال : ( اتعدت لما أردنا الهجرة إلى المدينة أنا و عياش بن أبي ربيعة و هشام بنالعاصي بن وائل السهمي التناضب – موضع فوق سرف على مرحلة من مكة – من أضاة بني غفار – أرض تمسك الماء فيتكون فيها الطين – فوق سَرِف ، و قلنا : أينا لم يصبح عندها فقدحبس فليمض صاحباه ، فأصبحت أنا و عياش عند التناضب ، و حبس عنا هشام ، و فتن فافتتن .. .. وعندما نزلت الآية { قل يا عبادي الذي أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمةالله إن الله يغفر الذنوب جميعاً .. الآية } كتبها عمر و أرسل بها إلى هشام بنالعاصي بمكة ، فوجد صعوبة في فهمها ، فدعا الله أن يفهمه إياها ، فألقى الله فيقلبه أنها نزلت في أمثاله ، فلحث برسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة ) . انظر : ابن هشام (2/129-131) بإسناد حسن ، و صححه ابن حجر في الإصابة (3/602) ، و قدأشار إلى صحتها الهيثمي في المجمع (6/61 ) . قلت : و دلالة القصة واضحة في أن هجرةعمر بن الخطاب رضي الله عنه كانت سرية ، فليس فيها أي إشارة إلى إعلان الهجرة ، بلإن تواعدهم في التناضب من أضاة بني غفار – وهي على عشرة أميال من مكة – ليؤكدإسرارهم بهجرتهم . و فوق هذا فقد جاء الأمر صريحاً في رواية ذكرها ابن سعد فيطبقاته (3/271) حول هجرة عمر بن الخطاب سراً ، حيث ساق نحواً من رواية ابن إسحاق – السابقة – وزاد فيها قول عمر : ( و كنا نخرج سراً فقلنا .. ) . وقلت أيضاً : والتأكيد على صحة الرواية الثانية أولى من التكلف في استخراج الدروس والعبر في قضيةقد لا تكون ثابتة أصلاً – كهذه التي بين أيدينا - ، وانظر إلى تكلف السباعي رحمهالله والبوطي مثلاً في استخراج العبر منها . السيرة النبوية دروس وعبر (ص 80 ) وفقه السيرة للبوطي ( ص 135-136 (