يحاصر الاحتلال "الإسرائيلي" المسجد الأقصى، ويعتدى على المدنيين الفلسطينيين، وطوق المنطقة حول المسجد بالحواجز، في خطوة أولى لتحقيق ما يزعمون أنه "مشروع استعادة التراث الوطني". وقد وضعوا خطة لمشروع الاسترجاع رصدوا لها 107 ملايين دولار تصرف على المناطق المسترجعة التي يزعمون أنها تثبت علاقة "إسرائيل" بهذه الأرض. وتضمنت "قائمة التراث" التي أعدها ووضعها قيد التنفيذ بنيامين نتنياهو، العديد من المواقع الإسلامية والمسيحية.
وتقع العديد من المواقع الواردة في القائمة في الضفة الغربية التي سلمت للسلطة الفلسطينية العام 1994 بموجب اتفاقية غزة - أريحا. ولكن وفق الأسلوب "الإسرائيلي" والتنصل الخادع من الاتفاقيات السياسية فقد قطع قادة الكيان العهد على أنفسهم باسترجاع تلك المواقع التي لا تدخل ضمن "أرضهم" بحسب الاتفاقات. إن الصهاينة أسياد التدرج، فقد استولوا على الأرض الفلسطينية ببطء حجراً بعد حجر، وبنت "إسرائيل" 100 مستوطنة يهودية في الضفة الغربية، يقطنها أكثر من 500 ألف يهودي. ومع أن المحكمة الدولية حكمت بعدم شرعية هذه المستوطنات بموجب القانون الدولي، فقد توسعت، ذلك بأن "إسرائيل" تفعل ما تشاء عند تناول هذه المستوطنات، بينما يكتفي العالم بالمشاهدة والاستنكار.
السلطة الفلسطينية أعربت عن استيائها من الخرق الفاضح وحذرت من أن تصرف "إسرائيل" سوف يعيق العملية السلمية، ويوقد حرباً دينية جديدة. ولكن السلام لا مكان له على الأجندة "الإسرائيلية". لذا فإن يهودية دولة "إسرائيل" تقول: إن الشكل المنطقي لأي تصرف هو الحصار، وانتهاك الحرمات، ودمغ كل المواقع الإسلامية والمسيحية بالطابع اليهودي لتحقيق ذلك الغرض.
لقد تم الاستيلاء على المئات من المساجد منذ العام 1946 ومازال العالم واقفاً بصمت، وتم هدم بعض هذه المساجد وتحويل بعضها الآخر إلى مطاعم ونوادٍ ليلية. وهوجم الحرم الإبراهيمي بحجة "الاسترجاع" السخيفة ذاتها، فالفلسطينيون مازالوا قائمين عليه منذ أكثر من مائة سنة. وكانت حجة اليهود البسيطة في البداية أن يضيئوا شمعة في الحرم الإبراهيمي، فإذا ما دخلوه استولوا عليه، حتى أن "الإسرائيليين" يقيمون اليوم الصلوات فيه بانتظام، وقد "وعدوا" بالسماح للمسلمين بمشاركتهم في الحرم الإبراهيمي.
ويتذرع اليهود اليوم بالسبب القديم نفسه ولكن بصورة أوسع وبتدرج عدواني أبعد. إن "إسرائيل" تريد أن تستولي على المسجد الأقصى، وتعدي "إسرائيل" السافر مبعثه صمت الدول العربية بل والإسلامية اليوم. إنه المسجد الأقصى، ثالث الحرمين الشريفين، وقبلة المسلمين قبل تحويلها إلى الكعبة. وهو المكان الذي أسري إليه بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم. فإلى أي مدى ستذهب "إسرائيل" حتى تنطق الدول الإسلامية وتتحرك؟
إنها إشارة واضحة من "إسرائيل" أنها لا تريد المضي في عملية السلام، وصفعة في وجه إدارة أوباما الذي يسعى لتبنيها. ولا يكفي أن تصدر الحكومات بيانات الاستنكار عبر الصحافة، بل على الحكومات العربية أن تقطع العلاقات السياسية والتجارية مع "إسرائيل" في الحال. ومن المحزن أنه في الأسبوع نفسه الذي يتعرض فيه الأقصى للغزو يصدر القضاء المصري قراره بالسماح ببيع الغاز ل "إسرائيل".
قد يحدث الفرد شغباً، وينطلق في مظاهرات في الشوارع، ويصرخ بأعلى صوته، ولكن الحكومات هي التي يجب أن تنطق بصوتنا فتعكس صرخات قلوبنا وعقولنا. إلى متى سنبقى صامتين، تخرسنا مخاوفنا من القمع السياسي؟ لقد شبعنا من كلمات الإدانة والاستنكار...
إننا نسأل عن تاريخنا وحقوقنا أن تصان وتحمى، وعن القرارات الدولية أن ترعى وتحترم، لا أن تهمل وتنتهك. لقد دانت الأمم المتحدة مشروع استعادة "إسرائيل" ما تسميه تراثها، ولكننا عقب تقرير "غولدستون" بدأنا نعي الحقيقة التي شعرنا بمرارتها في حلوقنا، الحقيقة التي لا تستطيع الأمم المتحدة أن تغير فيها شيئاً إذا ما كانت "إسرائيل" هي المعنية.
إذا لم تتحرك حكوماتنا وبهمة جادة، فإن الأقصى سوف يهدم ويهوي ببطء، ولا يهم عدد الحجارة التي سترجم بها الجرافات في غضون ثلاثين شهراً ويصبح المسجد كما في خططهم "ملكاً لهم"، سوف يكون من أماكن الجذب السياحي نقل المباني الحكومية إلى المكان، لتحمل الأسماء اليهودية، واللافتات المنقوشة حديثاً لما يدعون أنه الرابط التاريخي.
إنه لمدعاة للغضب والبكاء من العار، أننا ونحن ننهمك في حياتنا اليومية نترك الأمر كله لأبناء الشعب الفلسطيني أن يحموا المسجد الأقصى بجدار من أجسادهم العارية، محاولين بلا هوادة أن يوقفوا جيش الاحتلال "الإسرائيلي" الذي لا يتورع عن الرد بأي وسيلة على حجر يرجم به طفل فلسطيني دبابتهم.
إن حكوماتنا أقوى بكثير مما تظن في نفسها. وعليها أن تضع حداً للسلبية والركود، وتستخدم هذه القوة لإيقاف هذه الجريمة بحق التاريخ، وحقوق الإنسان، والدين.