إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيّئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضلّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا عبده ورسوله، أمّا بعد:
فإنّ محبة الله تعالى عبادة من أهمّ العبادات القلبية، ومنزلة عظيمة من منازل الدّين، إذ هي قوت القلوب وغذاء الأرواح، وقرّة العيون وسرور النفوس، ونور العقول وعمارة الباطن، وهي الحياة التي مَن حُرِمَها فهو من جملة الأموات، والنور الذي مَن فَقَدَه فهو في بحار الظلمات، والشفاء الذي مَن عَدِمه حلت به أنواع الأسقام، واللذة التي مَن لم يظفر بها فعيشه كله هموم وآلام.
إنها للمؤمن السائر إلى الله تعالى كالرأس من الطائر، والطائر إذا فقد رأسه مات وانقطع طيرانه، وكذلك العبد إذا ذهبت المحبة من قلبه انقطع سيره إلى الله تعالى.
أولا : أهمية إخلاص المحبة لله تعالى
إنّ محبّة الله من أوجب العبادات على العباد، عبادة فَقدُها من أصلها يكون خروجا عن الإسلام، ونقصانها وضعفها سبب الوقوع في المعاصي، وزيادتها وقوّتها هي الوقود الدافع إلى الطاعات، فهي شجرة مغروسة في قلب المؤمن موحد، فإذا سقيت بماء الإخلاص ومتابعة الحبيب صلى الله عليه وسلم أثْمَرَت أنواع الثمار وآتت أكلها كل حين بإذن ربها.
إنها عبادة داخلة في أصل الإيمان، بل هي أصلُ أصلِ الإيمان، فإن الإيمان قول وعمل وأصله في القلب وفروعه في الجوارح، والمحبة أصل الإيمان الذي في القلوب، إذ قول العلماء "إن الإيمان قول وعمل" يقصدون به قول القلب وعمله وقول اللسان وعمل الجوارح، وقول القلب هو تصديقه ومعرفته، وعمل القلب هو إخلاصه ومحبته وتعظيمه وخوفه ورجاؤه.
ومحبة الله تعالى واجبٌ تحصيلها، وواجبٌ على كل مسلم أن يفرد بها المولى عز وجل ويخلصها له، قال السعدي رحمه الله:«أصل التوحيد وروحه: إخلاص المحبّة لله وحده، وهي أصل التألّه والتعبّد له، بل هي حقيقة العبادة، ولا يتمّ التّوحيد حتى تكمل محبّة العبد لربه، وتسبق محبّته جميع المحاب وتغلبها، ويكون لها الحكم عليها، بحيث تكون سائر محاب العبد تبعا لهذه المحبة التي بها سعادة العبد وفلاحه»([2]).
ومحبة الله تعالى عند تأمل معناها هي لب العبادة وحقيقتها، حتى أن الحب عند علماء العربية على مراتب كثيرة منها العِلاقة ثم الصُّبابة ثم الغرام ويجعلون آخر مراتبه التتيم، والتتيم التعبد، ولذلك يقال تيم الله بمعنى عبد الله، فتبين من هذا أن العبادة تعني أعلى مراتب الحب وأخلص الحب وأكمله([3]).
إن المحبة عمل قلبي، به نصحح التزامنا بالإسلام واستقامتنا، وبه نقوِّم طريق سيرنا إلى الله تعالى، فالطاعات التي خلت من المحبة كالجسد الذي لا روح فيه، وإذا خلت العبادات عن محبة الله عز وجل صارت كالأعمال الآلية يدخل فيها أحدنا ويخرج منها من دون أن يكون لها أيّ تأثير في نفسه ولا أيّ تغيير في سلوكه.
ثانيا : أدلة وجوب إخلاص المحبة لله تعالى
1-قال تعالى: ( قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) (التوبة:24)، وهذا من أصرح الأدلة على وجوب محبة الله تعالى وعلى محبة الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد ذكر الله تعالى أعظم ما يحبه النّاس في هذه الدنيا من المتاع والأقرباء، وتوعد من قدم محبتها على محبة الله ورسوله وجهاد في سبيله وذلك بقوله : (فتربّصوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ)، أي: فانتظروا ماذا يحلّ بكم من عقابه ونكاله بكم، ولهذا قال: (وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ)([4]).
وإن الناس لا شك يحبون أشياء كثيرة محبة طبيعية، وهي ميل الإنسان إلى ما يلائم طبعه كمحبة العطشان للماء والجائع للطعام ومحبة النوم والزوجة والولد، وهذه المحبة لا تحمد لذاتها ولا تذمّ إلاّ إذا قدمت على محبة الله تعالى رسوله أو ألهت عن محبة الله تعالى، كما قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ) (المنافقون:9)([5]).
ومحبة الله تعالى مختلفة عن المحبة الطبيعية، ومن أهم ما يميّزها عنها: اقترانها بالتعظيم والخوف، لذلك ليس هناك محبة صحيحة مقترنة بالتعظيم إلاّ محبة الله عز وجل.
وبهذين الركنين تتميز العبادة وتقبل عند الله تعالى، فالسّجود من غير محبة وتعظيم حركة رياضية، والمنافقون لا تقبل أعمالهم لخلوّها من الإخلاص والمحبّة، قال تعالى: (وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ) (التوبة:54).
2-وقد بين الله عز وجل أن صرف هذا النّوع من المحبة لغير الله تعالى شرك؛ فقال : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ) (البقرة:165)، هذا حال المشركين الذين كانوا يحبّون الله تعالى ويحبّون معه تلك الأصنام التي يعبدون من دون الله تعالى، لم يرتض منهم الربّ سبحانه هذا التشريك، وأخبر أنّ صفة المؤمنين أنّهم يحبّونه ولا يحبّون أحدا مثل محبّته، فالله تعالى هو المحبوب الأول عند المؤمنين([6]).
والذين أشركوا في عبادة الله تعالى إنّما جرّهم إلى ذلك أحد أمرين:
إمّا صرف المحبة الّتي هي حق الله تعالى إلى من لا يستحقّ المحبة أصلا، كمن أحب الأشجار والأحجار وما أشبهها مما لا يضر ولا ينفع ،
وإمّا غلوّهم في محبّة من تجب له المحبة، كمن غلا في حب الصّالحين حتى أداه غلوه إلى جعلهم أندادا لله عز وجل.
3- ومن أدلة إيجاب إخلاص المحبة لله تعالى، قوله سبحانه : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ) (المائدة:54) ذكر الله تعالى أخص صفات العباد الذين يحبهم، فكان من أولها أنهم يحبونه، وباقي الصفات من فروع محبة الله تعالى كما يأتي بيانه.
ومما هو معلوم أن كل ما ثبت أنه عبادة لله عز وجل يجب إخلاصه له، ومحبة الله تعالى عبادة لا شك فيها فوجب إخلاصها لله تعالى وعدم الإشراك فيها.
وقد أوجب الله تعالى علينا محبة رسوله صلى الله عليه وسلم ومحبة المؤمنين الصالحين، فكيف يكون أمر محبته سبحانه التي هي اصلها
يتبع.....