سابعا : علامات محبة الله تعالى للعبد
بعد أن بينا أسباب محبة الله تعالى لعباده مما ورد في كتاب الله تعالى وسنة محمد صلى الله عليه وسلم، ناسب أن نردف ذلك ببيان علامات محبة الله عز وجل لعباده، تلك العلامات التي تعتبر من المبشرات ومن الأمور المثبتة للمؤمنين إن شاء الله تعالى.
1-إلقاء القبول في الأرض
في صحيح مسلم أن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه لما تولى أمور الناس، وحج بهم أطل على الناس، فقال أحد أبناء التابعين لأبيه: هذا يحبه الله تعالى، فقال له أبوه: كيف عرفت ذلك يا بني؟ قال: إن الناس يحبون عمر بن عبد العزيز، فلا بد أن يكون الله قد أحبه قبل أن يحبه الناس، فقال: صدقت يا بني،
ثم روى لابنه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:« إِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ عَبْدًا دَعَا جِبْرِيلَ فَقَالَ إِنِّي أُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبَّهُ قَالَ فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ ثُمَّ يُنَادِي فِي السَّمَاءِ فَيَقُولُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلَانًا فَأَحِبُّوهُ فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ قَالَ ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي الْأَرْضِ وَإِذَا أَبْغَضَ عَبْدًا دَعَا جِبْرِيلَ فَيَقُولُ إِنِّي أُبْغِضُ فُلَانًا فَأَبْغِضْهُ قَالَ فَيُبْغِضُهُ جِبْرِيلُ ثُمَّ يُنَادِي فِي أَهْلِ السَّمَاءِ إِنَّ اللَّهَ يُبْغِضُ فُلَانًا فَأَبْغِضُوهُ قَالَ فَيُبْغِضُونَهُ ثُمَّ تُوضَعُ لَهُ الْبَغْضَاءُ فِي الْأَرْضِ»([1]). والمراد إلقاء القبول في قلوب الصالحين لهذا العبد الذي يحبه الرب جل جلاله والميل إليه والرضا عنه والثناء عليه، أما أعداء الله عز وجل فإنهم لن يرضوا عن أهل الإيمان أبدا، كما قال سبحانه: (وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ) (البقرة/120)
2-الابتلاء في النفس والمال والأهل
قال صلى الله عليه وسلم:«إِنَّ عِظَمَ الْجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ الْبَلَاءِ وَإِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلَاهُمْ فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السَّخَطُ»([2]). فيبتليهم بأنواع البلاء حتى ينقيهم من الذنوب، ويفرغ قلوبهم من الشغل بالدنيا غيرة منه عليهم، لأن الله تعالى يغار أن يشتغل العبد الذي يحبه بغيره، وهذا الابتلاء يكون على قدر الإيمان، وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلَاءً ؟ قَالَ:« الْأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ فَيُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ فَإِنْ كَانَ دِينُهُ صُلْبًا اشْتَدَّ بَلَاؤُهُ وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ فَمَا يَبْرَحُ الْبَلَاءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ مَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ»([3]). يقول تعالى: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) (البقرة:155-157) فالبلاء كما يكون أحياناً عقوبة على المعاصي، قد يكون نتيجة محبة الله تعالى رفعا لدرجات العبد، وقد قال صلى الله عليه وسلم:« إن الرجل ليكون له عند الله المنزلة فما يبلغها بعمل، فما يزال يبتليه بما يكره حتى يبلغه إياها»([4]).
3-حفظ العبد في دينه
ومن أهم علامات محبة الله تعالى للعبد حفظه في دينه وحسن تدبير أمره وحسن تربيته، فيكتب الإيمان في قلبه وينور له عقله ويستخلصه لعبادته؛ فيشغل لسانه بذكره وجوارحه بطاعته، ويسدد ظاهره وباطنه، ويجعل همه هماً واحداً بحيث تشغله محبته عن كل شيء، قال ابن القيم في الفوائد :«إذا أحب الله عبدا اصطنعه لنفسه واجتباه لمحبته, واستخلصه لعبادته, فشغل همه به, ولسانه بذكره, وجوارحه بخدمته»([5]). قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :« إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ عَبْدًا حَمَاهُ الدُّنْيَا كَمَا يَظَلُّ أَحَدُكُمْ يَحْمِي سَقِيمَهُ الْمَاءَ» ([6])، يعني: يحميه من فتنة الدنيا، من فتنة أموالها وبهرجها وزخرفها وزينتها، (كما يظل أحدكم يحمي سقيمه الماء) : وذلك حين يكون الماء مضرا بذلك المريض.
قال النبي صلى الله عليه وسلم:« إِنَّ اللَّهَ قَالَ مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ»([7]). المعنى أنه متى امتلأ القلب بعظمة الله تعالى محا ذلك من القلب كل ما سواه ولم يبق للعبد شيء من نفسه وهواه ولا إرادة له إلا لما يريده منه مولاه فحينئذ لا ينطق العبد إلا بذكره ولا يتحرك إلا بأمره فإن نطق نطق بالله وإن سمع سمع به وإن نظر نظر به وإن بطش بطش به .
4-التوفيق وإجابة الدعاء
ومن علامات محبة الله للعبد توفيقه وإجابة دعائه وقضاء حوائجه، لا يطرق باباً إلا ويجده مفتوحاً، ولا يتعسر عليه أمر إلا ويكون التيسير حليفه بعد حين، وقال تعالى في الحديث القدسي :«وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ»، وقال ابن القيم :« فتأمل كمال الموافقة في الكراهةكيف اقتضى كراهة الرب تعالى لمساءة عبده بالموت لما كره العبد مساخط ربه، وكمال الموافقة في الإرادة كيف اقتضى موافقته في قضاء حوائجه وإجابة طلباته وإعاذته مما استعاذ به، كما قالت عائشة رضي الله عنها للنبي صلى الله عليه وسلم :"ما أرى ربك إلا يسارع في هواك"، وقال له عمه أبو طالب:" يا ابن أخي ما أرى ربك إلا يطيعك"، فقال له:" وأنت يا عم لو أطعته أطاعك"، وفي تفسير ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله عز وجل : (واتخذ الله إبراهيم خليلا) قال:" حبيبا قريبا، إذا سأله أعطاه وإذا دعاه أجابه"، وأوحى الله تعالى إلى موسى عليه الصلاة والسلام:" يا موسى كن لي كما أريد أكن لك كما تريد"»([8]).
5-الإلهام في الآراء والتسديد في الأقوال
ويتبع ما سبق موافقة العبد لله عز وجل فيما يقوله من كلام وأحكام فيُجْرِي الحقَّ على لسانه، فلا يَخرج منه إلا الحق، وقد كان عمر رضي الله عنه من أصحاب هذه المرتبة، فلذلك يقول: وَافَقْتُ رَبِّي فِي ثَلَاثٍ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ اتَّخَذْنَا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى فَنَزَلَتْ : (وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى) وَآيَةُ الْحِجَابِ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ أَمَرْتَ نِسَاءَكَ أَنْ يَحْتَجِبْنَ فَإِنَّهُ يُكَلِّمُهُنَّ الْبَرُّ وَالْفَاجِرُ فَنَزَلَتْ آيَةُ الْحِجَابِ، وَاجْتَمَعَ نِسَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْغَيْرَةِ عَلَيْهِ فَقُلْتُ لَهُنَّ عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبَدِّلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ ([9])، وزيادة على هذه الثلاث كان يتمنى نزول تحريم الخمر؛ فنزل تحريم الخمر. وكان له موقف من أسارى بدر ؛ فنزل القرآن تصديقاً له، ومن هذا القبيل ما أثر عن مكحول:« ما أخلص عبد قط أربعين يوما إلا ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه»([10]).
6-التوفيق لحسن الخاتمة
وأعظم علامات محبة الله عز وجل للعبد أن يوفقه لحسن الخاتمة ويوفقه للموت على عمل صالح، قال النبي صلى الله عليه وسلم:« إِذَا أَرَادَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِعَبْدٍ خَيْرًا عَسَلَهُ قِيلَ وَمَا عَسَلهُ قَالَ يَفْتَحُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ عَمَلًا صَالِحًا قَبْلَ مَوْتِهِ ثُمَّ يَقْبِضُهُ عَلَيْهِ» وفي رواية:« يفتح له عمل صالح بين يدي موته حتى يرضى عنه"([11]).
وفي الختام نسأل الله تعالى أن يوفقنا لطاعته ولمحبته سبحانه ومحبة رسوله، ويهدينا للرضا بشريعته واتباع سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
انتهى الموضوع متكون من 6 اجزاء (6مواضيع)