الحمد لله ربّ العالمين، والصّلاة والسّلام على سيّد المرسلين، والعاقبة للمتّقين، أمّا بعد: فإنّ من أسماء الله تعالى الحسنى الثّابتة في القرآن الكريم " الحفيظ "، يدلّ عليه قوله تعالى:( إنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ) (هود:57) وقوله سبحانه:(وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) (الشورى:6).
ومن أسمائه تعالى أيضا " الحافظ " لقوله عز وجل:]فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ[ (يوسف:64) وقوله:]وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ[ (الأنبياء:82)، وقد أثبته غيرُ واحد من أهل العلم، كابن منده، والبيهقي، والقرطبي، وغيرهم، إلاّ أنّ الحفيظ أبلغُ من الحافظ، وأوسع معنى، كالقادر والقدير.
أوّلا: معاني اسم الله الحفيظ
واسم الحفيظ كسائر الأسماء الحسنى يدلّ على معاني كثيرة، كلّها غاية في الحسن والكمال والجمال، وقد جمعها الخطّابي في قوله- كما في " شأن الدّعاء " (67-68)-:
« يحفظ السّماوات والأرض وما فيهما لتبقى مدّة بقائها، فلا تزول ولا تندثر، كقوله عزّ وجلّ: (وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا) (البقرة:255)... وهو الّذي يحفظ عبده من المهالك والمعاطب ويقيه مصارع السّوء، كقوله سبحانه: (لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّه) (الرعد:11) أي بأمره، ويحفظ على الخلق أعمالهم ويحصي عليهم أقوالهم، ويعلم نياتهم وما تكنّ صدورهم، ولا تغيب عنه غائبة ولا تخفى عليه خافية، يحفظ أولياءه فيعصمهم عن مواقعة الذّنوب، ويحرسهم عن مكايدة الشّيطان، ليسلموا من شرّه وفتنته ».
وتفصيل هذه المعاني:
1-أن الله تعالى يحفظ السماوات والأرض أن تزولا، فهو الذي يديم وجودها.
2-ويحفظ بمشيئته العباد جميعا من المصائب والمهالك ومصارع السوء فلا يصيبهم إلا ما كتب لهم.
3-ويحفظ أولياءه من الذنوب ويعصمهم من مكايد الشيطان.
4-ويحفظ أعمال العباد جميعا ويحصيها ليوم الحساب فلا يضيع منها شيء.
5-وهو الحفيظ بمعنى المحيط العليم بالخفايا والأسرار والبواطن.
والمعاني الثلاثة الأولى راجعة إلى معنى "القيومية"، والأخرى الباقية راجعة إلى معنى "العلم"، لذلك قال العلامة السعدي -كما في توضيح الكافية الشافية (190) -:
« وهو يتضمن شيئين : حفظه على العباد جميع ما عملوه بعلمه وكتابته، وأمره الكرام الكاتبين بحفظه، وحفظه لعباده من جميع المكاره والشرور، وأخص من هذا حفظه لخواص عباده الذين حفظوا وصيته وحفظوه بالغيب بحفظ إيمانهم من النقص والخلل، وحفظهم وحمايتهم من الخطل والزلل، وحفظه عليهم دينهم ودنياهم».
ثانيا : الأحكام العلمية للإيمان باسم الله "الحفيظ"
1-حفظ الله تعالى لملكه
قال الله سبحانه:]وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ[ (البقرة:255) أي لا يتعبه القيام بذلك، وقال جل جلاله: (وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ[ (الحج:65). وقال تعالى:]وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ) (الأنبياء:32) أي كالسقف للبيت فكل شيء في الأرض محفوظ بما يمكنه من البقاء ما شاء الله.
2-حفظ السماء من الشياطين
ومن حفظ الله تعالى لأمر ملكه وتدبيره أنْ حفِظ السّماء من تمكُّن الشياطين منها، قال تعالى: (وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ) (الحجر:16-18) والاستراق لا يقدح في الحفظ المذكور، فالشهب من وسائل الحفظ ومنع الجِنَّة من الاقتراب من السماء، وقد ثبت عن عائشة أنّ أناسا سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكُهّان، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ليسوا بشيء "، قالوا يا رسول الله فإنهم يحدثون أحيانا الشيء يكون حقا قال رسول الله e: تلك الكلمة من الجنّ يخطفها الجنّي فيقرها في أذن وليّه قرّ الدّجاجة، فيخلطون فيها أكثر من مائة كذبة » [رواه البخاري (5429) مسلم (2228)].
وعن أبي هريرة أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال:" إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله كالسلسلة على صفوان، فإذا فزع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم ؟ قالوا للذي قال: الحقّ، وهو العليّ الكبير. فيسمعها هكذا واحد فوق آخر، فربّما أدرك الشّهاب المستمعَ قبل أن يرمي بها إلى صاحبه، فيحرقه، وربما لم يدركه حتّى يرمي بها إلى الّذي يليه إلى الّذي هو أسفل منه، حتّى يلقوها إلى الأرض على فم السّاحر، فيكذب معها مائة كذبة فيصدق فيقولون: ألم يخبرنا يوم كذا وكذا يكون كذا وكذا فوجدناه حقا للكلمة التي سمعت من السماء » رواه البخاري (4424).
3-إن الله تعالى يحفظ دينه وكتابه
وممّا تكفّل الله تعالى بحفظه دينه الإسلام وكتابه العزيز، قال تعالى:(إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (الحجر:9) وما تتطرق التحريف والتبديل إلى الكتب الأخرى إلا لأنه وكل حفظها إلى أهل الكتاب، والله تعالى قادر على حفظ دينه وأوليائه وشعائر دينه بما شاء سبحانه، ومما يدل على ذلك قصة أصحاب الفيل، قال تعالى : (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ) (الفيل:5) ، فدافع الله تعالى عن بيته بجنوده وحفظه من كيد عدوه، كما حفظ نبيه صلى الله عليه وسلم، وقال: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاس) (المائدة:67) وقصة هجرة النبي صلى الله عليه وسلم المشهورة من مظاهر الحفظ الواضحة، ولا يزال الله تعالى يحفظ دينه عبر العصور ومر الدهور مع كثرة كيد الكائدين وشبهات المغرضين وتخاذل أكثر أبناء هذا الدين.
4-حفظ الله تعالى لعباده
وحفظ الله تعالى للعباد مما يكرهون نوعان عام وخاص، العام هو حفظه لجميع المخلوقات بتدبير شأنها وهدايتها إلى منافعها ودفع المضار والمكاره عنها، ومنه قوله تعالى : (لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ) (الرعد:11) أي بأمر الله عما يضره فلا يصيب العبد إلا ما كتبه الله تعالى له وقدر إصابته به.
5-حفظ الله تعالى لأوليائه
والحفظ الخاص هو حفظه لأوليائه عما يضر إيمانهم ويزلزل يقينهم من الشبه والفتن والشهوات وحفظه لهم من كيد أعدائهم من الإنس والجن، ومنه قوله تعالى : (وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ) (يوسف:24)، وقال الله تعالى :« من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها وإن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته» رواه البخاري (6137).
6-الإحاطة بالأسرار والبواطن
قال الله تعالى : (وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) (يونس:61) فالله تعالى حفيظ بمعنى رقيب شهيد على أعمال العباد الظاهرة والباطنة، لا يخفى عليه منها شيء، والله تعالى يعلم السر وأخفى .
7-الحفيظ لا يضيع شيء من الأعمال
ومن حفظ الله تعالى حفظ أعمالهم ليوم الحساب والجزاء، قال تعالى : (وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً ) (الكهف:49) وقال سبحانه : (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (المجادلة:6).
8-توكيل الملائكة بحفظ الأعمال
ومن حفظ الله تعالى للعباد أن وكّل بهم ملائكة كراما كاتبين ، والله تعالى غني عنهم لأنه علم ما كان وما سيكون وهو شهيد رقيب على العباد ، قال تعالى : (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَاماً كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ ) (الانفطار:10-12) وقال سبحانه: (إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ) (الطارق:4) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: « يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر ثم يعرج الذين باتوا فيكم فيسألهم ربهم وهو أعلم بهم كيف تركتم عبادي فيقولون تركناهم وهم يصلون وأتيناهم وهم يصلون » رواه البخاري (530) مسلم (632).
والحكمة من ذلك بيان أن الله تعالى نظم الأشياء وقدرها وأحكمها إحكاما متقنا، وبيان كمال عنايته بالإنسان وكمال حفظه سبحانه.
9-ما الذي تكتبه الملائكة
ومما يتعلق بالمسألة السابقة البحث في الذي تكتبه الملائكة من الكلام وغيره، وقد اختلف العلماء فيه، فقال الحسن وقتادة وغيرهما يكتب كل شيء، وقال عكرمة إنما يكتب ما فيه ثواب وعقاب، وعن بعضهم أن الملك يكتب كل شيء فإذا جاء يوم الخميس طرح من الكتاب ما ليس فيه ثواب وعقاب وهو أحد الأقوال في تفسير قوله تعالى: (يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ) (الرعد:39) وظاهر قوله تعالى : (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ[ (قّ:18) وقوله :] وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً)(الكهف:49) أن الكتابة عامة لكل الأقوال والأعمال والله أعلم –انظر تفسير ابن كثير (4/225) وتفسير القرطبي (9/331)-.
ثالثا : الآثار العملية للإيمان اسم الله "الحفيظ"
إن للإيمان بهذا الاسم العظيم من أسماء الله تعالى آثار كثيرة على سلوك المرء وأعماله نذكر منها :
1-تعظيم المولى عز وجل
أول آثار الإيمان بالمعاني المذكورة آنفا تعظيم الإله جل جلاه، وكيف لا نعظمه وهو يحفظ الكون كله ويحفظ كل ذرة فيه ويحفظ الإنسان بتيسير أسباب بقائه في جسمه وفي الوجود من حوله، قال تعالى: (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) (البقرة:255) فقرن سبحانه بين قيامه على السماوات والأرض وبين ثبوت العلو والعظمة له سبحانه ليبين أن هذا الحفظ والقيام من آثار عظمته سبحانه.
2-الخوف من الله تعالى ومراقبته في القول والعمل
ومن آثار الإيمان بهذا الاسم تحقيق الخوف من الله تعالى ومراقبته في الأقوال والأعمال، وذلك من أعظم وسائل الاستقامة على شريعة الله سبحانه ولزوم طريق النجاة في الآخرة، قال تعالى : ( قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (آل عمران:29) وقال: (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (المجادلة:6)
3-تحقيق التوكل على الله تعالى
ومن الآثار أيضا تحقيق التوكل على الله تعالى فإن من أعظم أسبابه الاعتقاد الجازم بأن الله تعالى هو مدبر الأمور كلها وأن العبد يسير في هذه الدنيا وهو في حفظ الخالق القدير الحفيظ سبحانه، فلا يصيبه إلا ما كتب الله له، قال جل جلاله : (قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) (التوبة:51) وقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) (المائدة:11) وقال : (إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) (آل عمران:160)
4-عدم الاشتعال بعد الحسنات
ومن آثار الإيمان باسم الله الحفيظ عدم اشتغال العبد بعدِّ حسناته، لأن الله تعالى لا يضيع أجر المحسنين، ولأن ذلك مما يورث العبد الغرور الذي يقطعه عن الطاعة ويجعله يستعلي على عباد الله، وعلى مبتغي النجاة أن يعمل الحسنات ثم ينساها ليجتهد في تحصيل غيرها، ولا يمن بها على الله تعالى أو يفخر بها على عباده فيبطلها، وعليه في المقابل إذا عمل سيئة أن يحفظها لكي يتوب منها ويكرر الاستغفار منها، كما قيل تفسير قوله تعالى : ( هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ) (قّ:32) هو الحافظ لذنوبه ليتوب منها -وقيل هو الحافظ لأوامر الله تعالى فلا يخالفها-.
5-إحصاء ذنوب الناس ليس من مهمة الرسل ولا أتباعهم
قال تعالى: (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً) (النساء:80) وقال سبحانه: (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ) (الشورى:48)، فبين الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم أنه لم يجعله حافظا رقيبا محاسبا للعباد وإنما هو مبلغ وناصح وداع إلى الله تعالى، وهنا يظهر ضلال بعض المفتونين بتتبع أخطاء وزلات الصالحين وغير الصالحين، هؤلاء الذين نزلوا أنفسهم منزلة الكرام الكاتبين ونصبوا للناس الموازين وأصبحوا يقولون فلان في الجنة وفلان في السعير، فأضاعوا أعمارهم فيما لا ينفعهم علمه ولا يضرهم جهله وفيما يسألون عنه يوم القيامة ، يسألون عن عمر أضاعوه فيما لا يعينهم، وعن أعراض خاضوا فيها وأحكام أصدروها بلا علم ولا ورع.
6-احفظ الله يحفظك
ومن أسباب الحفظ الخاص للأولياء حفظ حدود الله تعالى، عن ابن عباس قَالَ كُنْتُ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمًا فَقَالَ:" يَا غُلَامُ إِنِّي أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ احْفَظْ اللَّهَ يَحْفَظْكَ احْفَظْ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلْ اللَّهَ وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ وَلَوْ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ رُفِعَتْ الْأَقْلَامُ وَجَفَّتْ الصُّحُفُ » رواه الترمذي (2516) وصححه. ومعنى الحديث احفظ حدود الله وحقوقه وأوامره ونواهيه ، وحفظ ذلك الوقوف عند أوامره بالامتثال وعند نواهيه بالاجتناب وعند حدوده فلا يتجاوز ولا يتعدى ما أمر به إلى ما نهى عنه ، فدخل في ذلك فعل الواجبات جميعا وترك المحرمات جميعا. ومن أهم ما ينبغي للعبد أن يحفظه حفظ التوحيد الذي هو حق الله على العبيد، فمن حفظ نفسه من الشرك ووسائله في الدنيا حفظه الله تعالى من عذابه يوم القيامة ، ومن أهم ما ينبغي المحافظة عليه الصلاة ، قال تعالى : (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ) (البقرة:238) ، والصلاة سبب لحفظ العبد من المعاصى فهي تنهى عن الفحشاء والمنكر ، وهي تحفظ العبد من شرور الدنيا أيضا ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : «قال اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ : ابْنَ آدَمَ ارْكَعْ لِي مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ أَكْفِكَ آخِرَهُ » رواه الترمذي (475) وأبو داود (1289) وصححه الألباني.
قال ابن القيم -في زاد المعاد (4/332)-:« وقد تقدم ذكر الاستشفاء بالصلاة من عامة الأوجاع قبل استحكامها، والصلاة مجلبة للرزق حافظة للصحة، دافعة للأذى مطردة للأدواء، مقوية للقلب مبيضة للوجه مفرحة للنفس مذهبة للكسل منشطة للجوارح ممدة للقوى شارحة للصدر، مغذية للروح منورة للقلب حافظة للنعمة دافعة للنقمة جالبة للبركة مبعدة من الشيطان مقربة من الرحمن، وبالجملة فلها تأثير عجيب في حفظ صحة البدن والقلب وقواهما ودفع المواد الرديئة عنهما، وما ابتلى رجلان بعاهة أو داء أو محنة أو بلية إلا كان حظ المصلي منهما أقل وعاقبة أسلم، وللصلاة تأثير عجيب في دفع شرور الدنيا ولا سيما إذا أعطيت حقها من التكميل ظاهرا وباطنا، فما استدفعت شرور الدنيا والآخرة ولا استجلبت مصالحها بمثل الصلاة، وسر ذلك أن الصلاة صلة بالله عز وجل وعلى قدر صلة العبد بربه عز وجل تفتح عليه من الخيرات أبوابها، وتقطع عنه من الشرور أسبابها، وتفيض عليه مواد التوفيق من ربه عز وجل والعافية والصحة والغنيمة والغنى والراحة والنعيم والأفراح والمسرات كلها محضرة لديه ومسارعة إليه».
وحفظ الجوارح السمع والبصر وغيرها سبب لحفظها ودوام نفعها، وروي أن بعض العلماء وثب يوما وثبة شديدة وكان قد جاوز المائة سنة، فعجب منه بعضهم فقال : هذه الجوارح حفظناها عن المعاصي في الصغر فحفظها الله علينا في الكبر ، وروي عن بعض السلف أنه رأى شيخا يسأل الناس فقال إن هذا ضيع الله في صغره فضيعه الله في كبره -انظر جامع العلوم والحكم (1/466)-.
7-الدعاء بالحفظ
ومن آثار الإيمان باسم الحفيظ دعاء الله تعالى بهذا الاسم ، وسؤاله سبحانه الحفظ دون غيره من الأحياء والأموات الذين صفتهم العجز والاحتياج إلى حفظ الله تعالى، وقد كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم حين يصبح وحين يمسي :« اللهم إني أسألك العافية في الدنيا والآخرة اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي وأهلي ومالي، اللهم استر عوراتي وآمن روعاتي، اللهم احفظني من بين يدي ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي ومن فوقي وأعوذ بعظمتك أن أغتال من تحتي » رواه أبو داود (5074) وابن ماجة (3871) وصححه ابن حبان (961).
8-إن الله هو الحفيظ لا الخامسة والخيط والحلقة
إن الذي يؤمن بأن الله تعالى هو الحافظ والحفيظ، لا يعتقد الحفظ في غيره فلا يشرك بالله تعالى، ولا يتخذ من أسباب الحفظ إلا ما كان مشروعا، فهو يجتنب التمائم ونحوها، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم :«من علق تميمة فقد أشرك» رواه أحمد (4/156) وصححه الألباني. فمن اتخذ الحلق والقلائد و"الخامسات" والأشواك والعجلات والسلاحف بقصد دفع البلاء والعين والتابعة والسحر فقد أشرك وأخلق بإيمانه بأن الله تعالى هو الحفيظ، وليعلم كل من اعتمد مثل هذه المظاهر الشركية أن الله تعالى يتخلى عنهم ويكلهم إلى هذه الجمادات التي لا تنفع ولا تضر، فعن عبد الله بن عكيم أنه كان مريضا فقيل له تعلقت شيئا! فقال :أتعلق شيئا ؟ وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « مَنْ تَعَلَّقَ شَيْئًا وُكِلَ إِلَيْهِ» رواه الترمذي(2072) وصححه الألباني. فمن جعل هذه الأشياء أسبابا فقد أشرك شركا أصغر، ومن اعتقد فيها أنها تجلب النفع وتدفع الضر بذاتها فقد أشرك شركا أكبر.
9-القرآن يحفظ العباد بالتلاوة لا بالتعليق
ومن وسائل الحفظ المشروعة تلاوة القرآن وقراءة الأذكار النبوية الصحيحة ، قال النبيصلى الله عليه وسلم: «إِذَا أَوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ فَاقْرَأْ آيَةَ الْكُرْسِيِّ لَنْ يَزَالَ عَلَيْكَ مِنْ اللَّهِ حَافِظٌ وَلَا يَقْرَبُكَ شَيْطَانٌ حَتَّى تُصْبِحَ » رواه البخاري (3275)، فآية الكرسي تكون سببا للحفظ بتلاوتها لا بتعليقها، وإذا كان حفظها في القلوب لا ينفع وحده إذا لم يكرر العبد تلاوتها فكيف ينفع تعليقها من غير حفظ ولا فقه، قال ابن العربي المالكي-كما في عون المعبود(10/250)-:« تعليق القرآن ليس من طريق السنة، وإنما السنة فيه الذكر دون التعليق»، وقال إبراهيم النخعي:« كانوا يكرهون التمائم كلها من القرآن وغير القرآن» -مصنف ابن أبي شيبة (7/235)-. وبعض الناس يعلق تمائم القرآن وهذا غير جائز لما ذُكر، ولما فيه من امتهان لكلام الله تعالى ، فضلا عن كونه يفتح الباب لأهل الشعوذة الذين يزعمون أنهم يكتبون في تمائمهم القرآن، وكثير من الناس أمي لا يفرق بين هذه التمائم وتمائم الطلاسم التي فيها الكفر بالله تعالى.
وسبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت استغفرك وأتوب إليك.