الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد: فإن مشكلة الجريمة من أعوص المشاكل التي تواجهها المجتمعات الإنسانية، التي تبتغي التحضر والسائرة في طريق التمدن، ولا تزال هذه المجتمعات تجتهد في البحث عن أسبابها وطرق علاجها؛ سعيا منها لاستئصالها من جذورها أو على الأقل للتخفيف من وطأتها.
وقد اجتهد رواد علم الاجتماع الغربيون في العصر الحاضر في هذا المضمار، فاختلفت طرائقهم وتنوعت آراؤهم، فلم يهتدوا إلى الطريق ، وقد تبين بطلان جميع نظرياتهم وقصورها في التحليل وعدم شمولية حلولها، كما أثبت الواقع إفلاس الطرائق العملية المنبثقة عنها.
والذي نعتقده أن المنهج الإسلامي في مكافحة الإجرام هو المنهج الوحيد القادر على تحقيق النتائج المطلوبة، لأنه منهج مصدره الإله الخالق الذي يعلم خبايا النفس البشرية قال تعالى :(أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) (الملك:14) وقد بيَّن الباحثون المختصون في الدراسات المقارنة أن المنهج الإسلامي يتصف بعدة ميزات ترفعه وتجعله فوق جميع المناهج والنظريات، ومن تلك الميزات شمولية التصور أي في تحديد أسباب الجريمة، حيث جمع بين العوامل الداخلية والخارجية للإنسان، الداخلية كالانحراف عن الفطرة والعقيدة الصحيحة وضعف الإيمان بالآخرة، واتباع الهوى، والخارجية منها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية كإبطال ولاية الحسبة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتبعا لذلك فإن العلاج الشرعي الإسلامي هو الوحيد المتسم بالشمول والتكامل، فمن أراد حل مشكلة الإجرام حلا نهائيا فما عليه إلا أن يقبل بالإسلام دينا عقيدة وشريعة، وسيأتي شرحُ وتفصيلُ بعض تلك المميزات بعد التأكيد على أن التدين هو علاج الإجرام.
علاقة التدين بالإجرام
لقد تبين للمنصفين في العالم أن في التدين عموما وفي الالتزام بالشريعة الإسلامية خصوصا، حماية من كل مظاهر الجريمة المتفق على ذمها والمختلف فيها، ولا يزال الكُتاب النقاد يشيدون بذلك حتى أقر ذلك المجلس الاقتصادي الاجتماعي التابع للأمم المتحدة سنة 1984م حيث جاء في البند 37 منه:" إن عملية التحول الملحوظة إلى النزعة الدنيوية والتخلي عن المعتقدات الدينية، تساعد وتَدْعم في بعض الحالات فقدان القيم الاجتماعية التقليدية والاستعاضة عنها بمواقف فردية وانتهازية …لقد لعب الدين دائما في بعض المجتمعات دورا هاما في الضبط الاجتماعي، بتحديده ما هو المباح وما هو المحرم، ولكن عندما تفقد المؤسسات الدينية سلطتها على الأفراد، ولا يظهر اعتقاد آخر قادر على تولي وظائف الضبط التي كان يقوم بها الدين حتى ذلك الحين، فقد يجد الأفراد أنفسهم مبلبلين فاقدي الاتجاه فيصبحون بسبب ذلك أكثر ميلا إلى الانغماس في تصرفات غير اجتماعية ومنحرفة".
ومن هذا التقرير يتبين أن العلاقة بين التدين والإجرام علاقة تضاد، فحيث يضعف التدين تزداد الجريمة وحيث يقوى التدين تقل الجريمة، ولأجل هذا فإننا نجد أن كثيرا من البلدان الغربية الأوربية والشرقية الإسلامية وغيرها قد جعلت للمجرمين الموقوفين حصصا دينية ووعاظا يذكرونهم بالله والجزاء الأخروي، سعيا منها إلى استصلاح ما يمكن استصلاحه من هؤلاء المجرمين، ولابد أن نلفت انتباه القارئ أن هذا التقرير والانطباع المسجل إنما صدر من هيئة لا يُشك أن الدين المقدم عندها هو النصرانية المحرفة، مع أن أهلها يحيون علمانيين ويدعون إلى العلمانية التي هي فصل الدين عن الحياة، بينما نجد في مجتمعات تدين بالإسلام من يجاهر باتهام الدين بأنه مصدر الإجرام، ونجد فيها من يرضى بأن تلصق أبشع الجرائم بالدين الإسلامي وبالمتدينين، وقد لا تجد فيها من يجرأ على عرض الحل الإسلامي لهذه المشكلة، وقليل فيهم من يفكر في علاج المشكلة بالحلول التي يمليها عليه دينه الذي ينتسب إليه.
كيف عالج الإسلام الجريمة
كما سبق أن ذكرنا فإن من سمة الإسلام الشمولية، فقد عالج ما يسمى في الاصطلاح المعاصر جريمة وغيره من الأخلاق الفاسدة والعقائد الباطلة، علاجا كليا غير قابل للتجزئة والانتقاء، وتبيين ذلك بالنظر في أهم عناصر علاج الجريمة التي ذكر الدارسون لهذه القضية.
أولا : صلاح العقيدة وقوة الإيمان
إن العلاج يبدأ بمواد يَصْلُح بها الفرد في نفسه، وتجعله نفسا خيرة لا تفكر في الجريمة وما حام حولها من الرذائل، وهي موادُ إصلاح القلوب: من الإيمان بالله واليوم الآخر على الخصوص:
- الإيمان بالله تعالى الذي يجعل الفرد يعتقد أن ربه يراقب كل حركاته وسكناته يسمعه ويبصره ويحصي عليه كل أعماله وأقواله.
- وإيمان يجعله يستسلم لأحكام الله تعالى طواعية؛ لاعتقاده بأن ربه أعلم بما فيه صلاحه.
- وإيمان يجعله يرضى بتلك الأحكام كلها؛ لأنه علم أنه لا حق في التشريع إلا له سبحانه.
- وإيمان يجعله ينقاد لتلك الأحكام لأنه يعلم أن ذلك يوجب له الثواب الجزيل، وأن من خالفها متوعد بالعذاب الشديد. - وكذلك الإيمان باليوم الآخر الذي يتضمن الإيمان بعذاب القبر والبعث بعد الموت والجنة التي هي دار المتقين الصالحين والنار التي أعدها الله تعالى للعصاة المفسدين.
وشرح هذه المسألة بالأدلة الشرعية يطول، ونكتفي هنا ببيان أن الله تعالى قد وعد بإحلال الأمن بين الناس الذين يؤمنون به ويعلمون الصالحات ويعبدونه ولا يشركون به شيئا، فقال سبحانه : (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (النور:55) والمجتمع الآمن هو الذي تَقِلَّ فيه الجريمة أو تنعدم .
ثانيا : التخويف بالعقاب الإلهي الدنيوي والأخروي
من الأمور التي يعتقدها المسلم أن مخالفة الأوامر الإلهية كلها جرائم، وقد سمى الله تعالى المعاصي ظلما للنفس أي هي جرائم في حق النفس ، قال تعالى :(فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ) (فاطر:32)وقال:( فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ )(التوبة:36)، ومن المتقرر أيضا في العقيدة الإسلامية أن للمعاصي خاصة الكبائر منها عقوبات دنيوية وأخرى أخروية، وهذا مما يدفع النفس المؤمنة إلى الابتعاد عن المعاصي عموما وما يعد من قبيل الجرائم خصوصا.
وقد جاء في بعض النصوص الشرعية ما يُبين صورا من العقوبات الإلهية الدنيوية المعجلة، منها ما يصل إلى حد الإبادة والاستئصال، كما حدث لقوم لوط لارتكابهم الفاحشة مع إشراكهم بالله، ولأهل "مدين" لغشهم في البيع مع إشراكهم بالله، وتكون ما هو أدنى من ذلك، قال تعالى: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) (الشورى:30)، ومما جرت به السنة الكونية أن يسلط الله تعالى الظالم على الظالم وأن يجازي العبد بجنس عمله، وغير ذلك من الأمور التي ليس هذا محل تفصيلها.
وأما العقوبات الأخروية المرهبة من الجريمة فتبدأ من الإيمان بعذاب القبر الذي أثبته الرسول صلى الله عليه وسلم لمعاص معينة كالغلول الذي هو السرقة والاختلاس من المال العام، وأكل الربا والزنا وغيرها من الفواحش، ولم يقف الترهيب عند حد تعيين سبب العذاب، ولكنه يتعدى إلى وصف العذاب وتحديد صورته الفظيعة.
وكذلك الأمر في العذاب الأخروي حيث جاء في الحديث الصحيح وصفُ حال مانع الزكاة التي هي جريمة في حق الفقراء بأن مالَه يأتي في صورة ثعبان يُطوِقُ صاحبه يوم القيامة، وأخبر الله تعالى بأن آكل مال اليتيم إنما يأكل في بطنه النار فقال :(إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً) (النساء:10)، وأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه ثمة موقفا قبل دخول الجنة يسمى موقف القصاص وأخذ المظالم، وأنه أول ما يقضي بين الناس في الدماء سواء كانت قتلا أو جروحا، ولا يمكننا الاستطراد في هذا الباب ولكن حسبنا أن نشير إلى نماذج منه تدلنا على ما وراءه.
ثالثا : تشريع الحدود والتعزيرات الشرعية
وفي الشريعة الإسلامية جرائم معينة قد حُددت لها عقوبات مقننة، سميت بالحدود وهي القتل والسرقة والزنا والقذف والردة عن الدين وقطع الطريق (وشرب الخمر على قول الجمهور)، وما عدا ذلك من الجرائم قد جُعلت لها عقوبات سميت بالتعزير الذي لا يصل إلى درجة الحدود، وقد ينظر بعض الكفار والمنافقين إلى هذه الحدود بأنها نوع من الوحشية والانتهاك لحقوق الإنسان، لأن فيها القتل والصلب والقطع والجلد والنفي من الأرض، وهؤلاء مخطئون في تحديد مفهوم الإنسان المحترم الذي ينبغي أن تحفظ له الحقوق أهو المجرم أم الضحية، وضالون عن معرفة حق الفرد وحق الجماعة والموازنة بينهما، وعاجزون عن تقديم البديل الرادع في هذا الباب، وغافلون عن أن هذه الحدود جاءت في سياق متناسق وفي شريعة محكمة مترابطة متكاملة من لدن حكيم خبير، لذلك فإن اللجوء إلى استعمال هذه الحدود نادر جدا حتى أننا نحصى وقائع ذلك في صدر الإسلام على الأصابع، زيادة على أن علماء الإسلام وأهل التشريعات الأرضية متفقون على أن مجرد سَنِّ القانون يعتبر من أقوى الزواجر عن الإجرام، ولو نظرنا إلى البديل الذي وضعته الشرائع الوضعية وهو السجن، لعلمنا فشله وعدم ردعه، ويدل عليه الأعداد المتزايدة للمساجين في العالم حتى أصبحوا في الدانمارك مثلا سنة 1985م يشكلون نسبة 0.07% من السكان، وفي أمريكا 0.028% من مجموع السكان، وهي نسب عالية جدا ، وفي إحصائية مصرية قديمة أن 45% من السجناء الذين حكم عليهم بالأشغال الشاقة –وهي أشد العقوبات - يعودون إلى جرائمهم ، كما أن هذه السجون أصبحت مع مرور الوقت مدارس خاصة لتكوين المجرمين المحترفين والإجرام المنظم، بالإضافة إلى معايب أخرى نفسية وصحية واقتصادية قد بينها المختصون في هذا المجال منذ عقود، وهي تزداد وضوحا يوما بعد يوم.
وكثير من الأنظمة بدلا من أن تراجع هذه التشريعات بعين ناقدة ومنصفة، راحت تبحث عن حقوق "المجرم" السجين، حتى جعلت من السجون "شبه منتزهات" و"مخيمات شتوية" يأوي إليها "المجرمون" من أجل ضمان غذاء صحي ومأوى دافئ مريح، إضافة إلى الأمور الترفيهية التي قد لا يصل عليها إذا ما كان طليقا، فصارت هذه الأنظمة من غير شعور منها تشجع على الإجرام، وتبني مؤسسات تكوين المجرمين المحترفين من حيث هي تريد مكافحة الجريمة .
ونحن لا ننفي عقوبة السجن في الشرع فإنها تشرع في أحوال وبقدر في باب التعزيرات وفي حد الحرابة أو قطع الطريق إذ هو من معاني "النفي من الأرض"، لكنها لا تصلح أبدا بديلا عن عقوبة السرقة أو الزنا. ونقول هنا لهؤلاء المعترضين : كيف يعد قطع يد السارق مناف لحقوق الإنسان "المجرم" ولا يعد حبسه عشرين سنة منافيا لحقوقه؟ كيف يعد جلد الزاني في دقائق معدودة مناف لكرامة المجرم ولا يعد حبسه في الأحوال التي يعاقب عليها القانون منافيا لها؟ (زيادة على أنه لا يخلو تشريع في العالم من الحكم بالإعدام أو المؤبد).
[إقامة الصلاة]
هذه أظهر عناصر العلاج وإلا فثمة عناصر أخرى قد يخفى وجه تأثيرها أو يطول شرح كيفية زجرها عن الجريمة ومن ذلك إقامة الصلاة التي قال عنها المولى عز وجل: (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ)(العنكبوت:45)، ومع ذلك ومن غير أن نقوم بأي عملية إحصاء وسط المجرمين والمسجونين، فإننا نعلم علم اليقين أن غالبيتهم لا يقيم الصلاة ومنهم من لم يسجد لله سجدة، وليس لدينا أدنى ريب أننا لو مكنا العلماء والأئمة من دعوة المجرمين (والمسجونين منهم على وجه الخصوص) إلى إقامة الصلاة وتلاوة القرآن وقراءة كتب الأخلاق الإسلامية، لكان في ذلك خيرا كثيرا وسببا عظيما في إقلاع كثير منهم عن جرائمهم.
مميزات أخرى للتشريع الإسلامي في علاج الجريمة
بعد أن شرحنا بعض الميزات التي تميز بها المنهج الإسلامي في علاج الجريمة نذكر مميزات أخرى عامة .
أولا : مفهوم الجريمة
من الأمور التي تميزت بها الشريعة الإسلامية التصور الواسع لمفهوم الجريمة ، حيث يلاحظ على النظريات الغربية أنها لا تعتبر الفعلَ جريمة إلا إذا كان فيه مساس مباشر بحقوق الآخرين، فالزنا لا يعتبر جريمة إلا إذا اقترن بخيانة زوجية أو إكراه، وشرب الخمر لا يكون جريمة إلا إذا كان في أماكن عمومية، وفي هذا إهمال للمعاني الأخلاقية والإنسانية التي راعاها الإسلام إذ هو يعتبر الانحراف كله جريمة، قبل أن يصل الأذى إلى الآخرين، ويدخل هذا فيما يسمى في الشريعة بحق الله تعالى وهو في اصطلاح العصريين "الحق العام"، فالزنا وشرب الخمر وتناول كل مسكر يعتبر جريمة، فإن لم يكن مضرا بالغير في الحال فهو مضر به في المآل، وهو جريمة في حق النفس في كل حال، وكذلك من الجرائم المعاقب عليها في الشريعة ما لا نجده جرما في الشرائع الوضيعة كتبديل الدين ومنع الزكاة التي هي حق الفقراء وترك الصلاة وغيرها، لأنها في نظرة واضعيها المادية لا ضرر فيها على الغير وهي نظرة قاصرة باطلة شرعا وعقلا وواقعا.
ثانيا: مبدأ سد الذرائع
وكذلك من القواعد المعلومة بالاستقراء في الشريعة أنها عالجت كثيرا من الآفات بقطع أسبابها المؤدية إليها والمعينة على قيامها، ففي جريمة تناول المسكرات جاء الأمر بالاجتناب لا بتحريم التناول فحسب، بل جاء الوعيد الشديد في حق صانعها وبائعها وحاملها وكل من شارك فيها، فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْخَمْرِ عَشْرَةً عَاصِرَهَا وَمُعْتَصِرَهَا وَشَارِبَهَا وَحَامِلَهَا وَالْمَحْمُولَةُ إِلَيْهِ وَسَاقِيَهَا وَبَائِعَهَا وَآكِلَ ثَمَنِهَا وَالْمُشْتَرِي لَهَا وَالْمُشْتَرَاةُ لَهُ ) (رواه الترمذي وابن ماجة) وفي الرشوة لعن آكلها وموكلها على حد سواء، وفي الربا لعن آكله وموكله وكاتبه وشاهديه، وكذا تحريم الزنا أحيط بمجموعة من الشرائع تخص اللباس وستر العورة، والنظر واختلاط الجنسين والخلوة، والزواج كالحث عليه وإباحة التعدد، لأنه ليس من المعقول أن ينهي عن شيء وتترك كل السبل التي تغري به أو تجبر الناس عليه، وهذا أمر غائب في واقع القوانين الوضعية المفلسة، لذلك فإنه من الكذب الصريح أن يزعم محاربة جريمة الزنا من يوجب الاختلاط في المدارس والجامعات (والإقامات الجامعية!) ويطلق العنان لصحف الخلاعة وشرب الخمور ولغناء الرذيلة (وهو رقية الزنا كما قال بعض السلف) ويلغي التربية الإسلامية من التعليم، ويقلل من فرص الزواج لدى الشباب!
ثالثا : الشمول لِعُنصري الثواب والعقاب
ومن المميزات الظاهرة للشريعة الإسلامية أنها لم تقتصر في مواجهة الرذيلة والجريمة على عنصر الترهيب والعقاب فقط، بل هي تشمل عنصر الترغيب والثواب وهو أمر مفتقد تماما في الشرائع الأرضية، وذلك أننا كما نجد العقاب الوعيد في حق من اقترف الإثم والجرم، نجد أيضا الثواب والوعد العاجل والآجل لمن ترك الجرم أو لمن داوم وصبر على ضده الذي لا يكون إلا فضيلة، ولا شك أن هذا مما يقوي دافع الامتناع عن الجرائم والابتعاد عنها في نفوس المؤمنين .
رابعا : الأحكام الربانية (الثبات واللزوم )
من خصائص الشريعة الإسلامية أنها "شريعة ربانية" الأمر الذي يستلزم ثباتها وعدم تغيرها، فليس أمر ماهية الجرائم خاضعا للأهواء البشرية والنزوات النفسية، ولا تحديدُ ألوان العقاب للجرائم التي تسمى بالحدود، فإنها لا تخضع للاجتهاد ولا تقبل التغيير بحسب الأهواء والمصالح الفردية، وهي كذلك ربانية بمعنى أن مصدرها عال مستعل عن الخلق مستغن عنهم، وأن الناس جميعا مُلزمون بطاعته ولا سبيل لهم إلى اتهام أحكامه بالتحيز.
ومن المميزات اشتمال بعض العقوبات على عنصر التهذيب النفسي والبعد الاجتماعي، كما هو واضح في ما يسمى في الفقه الإسلامي بالكفارات التي فيها الصيام وإطعام المساكين وعتق العبيد، والحديث في هذا الموضوع ذو شجون وإن لم نحده فلا حد له لتعدد أبعاده ومواضيعه، وما ذكرناه ما هو إلا نظرة خاطفة ومحاولة تقريب للمعاني بأقل عدد من الكلمات وأيسر أسلوب، ومن أراد التوسع فليراجع الدراسات المتخصصة في هذا الموضوع وهي غير معدومة في هذا الزمان والله المستعان وعليه التُّكْلان.